“السهم و الوتر -بيانات في حداثة الكتابة” للشاعر المغربي صلاح بو سريف
صدر حديثا
“السهم والوتر- بيانات في حداثة الكتابة”
صدر حديثًا للشاعر صلاح بوسريف كتاب جديد بعنوان “السهم والوتر- بيانات في حداثة الكتابة” عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (عمان)، كما صدر له عن نفس الدار “كتاب الليل والنهار”، وهو عمل شعري جديد.
“السهم والوتر” يعمل فيه صلاح بوسريف، كما جاء في تقديم الكتاب، على بناء تصورات ومفاهيم شعرية يقتضيها مفهوم الكتابة، في تجاف واضح مع القصيدة، المفهوم الذي نستعمله دون مساءلته، ودون استعادة المعنى والبناء كما تأصّل فيهما، أو هما ما قامت القصيدة عليه، باعتبارها تشطيرا، وتوازيا، وصدرا يقابله العجز، وهذا هو المعنى المفهومي الذي جاءت منه، إضافة إلى مفاهيم مثل البيت والقافية وغيرها من المفاهيم التي تعود إلى ماضي الثقافة العربية، فيما حاضرها وحديثها مغاير ومختلف في الرؤية والتصور معا. فهل معنى هذا أننا، بطبعنا، نميل إلى المحافظة في التحديث، أو أننا لا نقبل بتسميات تليق بزمننا، واكتفينا بالأسلاف، حتى ونحن ندعي تجاوزهم!؟
في هذا الكتاب، مفاهيم الشعر تخضع للمساءلة والتفكيك والاختبار، كما يسعى الكتاب إلى تكريس مفهوم الكتابة أو حداثة الكتابة، على اعتبار أن الشعر هو مفهوم لا علاقة له بالقصيدة، التي اعتبرناها هي الشعر، فيما القصيدة هي نوع شعري، والشعر هو جامع أنواع.
الكتاب يُثير قضايا على القارئ أن يتأملها أو يُحاورها من داخل الشعر ذاته، ماضيه وحاضره، وبحجة النصوص الشعرية نفسها، وليس بالتشبث بالمفاهيم التي أصبحت عندنا ثوابت، لا تقبل التغيير، لأننا استعملناها، في غفلة منا، دون تفكيكها ومراجعتها ونقدها. ومن هنا يأتي معنى السهم والوتر، أي إعمال الأصابع في التسديد، من خلال دوال جديدة، أهمها الكتابة التي هي الأفق الشعري الجديد الذي يقترحه الشاعر صلاح بوسريف في عدد من أعماله النظرية والشعرية، التي تقوم على مبدأي المغايرة والاختلاف.
لأن يتساءل: من هو هذا الشخص الآخر؟ وهل إنه يمتلك حقًّا هذه القسوة؟ ولماذا هذا الانسلاخ الذي يعيشه الشاعر وما علاقته بحالات الكتابة؟ ومن يستطيع أن يتفهّم هذه الحالات؟
بدءًا من الغلاف الخارجي: “نشيد سيد السبت” عنوان يدعو إلى التفكير أيضًا. فما معنى أن يختار الشاعر هذه التسمية لديوانه؟ فالنشيد هو جزء من عنوان أحد أسفار العهد القديم “نشيد الأناشيد”، أمّا “سيد السبت” فهو لقب السيد المسيح الوارد في الإنجيل. من هنا نلمح الاندماج الذي يحدث منذ البداية بين العهدين القديم والجديد وكأنّ الشاعر يقتدي بإرشاد المسيح حيث قال في الإنجيل: “ما جئت لأنقض بل لأكمل”، فحمل الشاعر في ديوانه مسؤولية هذه التكملة.
ليوم السبت خصوصية عند بعض الديانات، فهو اليوم الذي ارتاح فيه الإله في الديانة اليهوديّة بعد عملية خلق دامت ستة أيام. وهو اليوم الذي شفى فيه السيد المسيح الرجل ذا اليد اليابسة، وهو سبت القيامة والمجيء حيث ظهر المسيح لتلاميذه للمرة الأولى. إذًا يتخذ السبت دلالات عدّة إذا ما اطّلعنا على الكتب السماوية. الرموز التي أرادها القرقني لقصيدته كثيرة وهي على علاقة وثيقة بسيد السبت الذي من عالمه خلق قصائده.
في هذا الديوان الصادر عن منشورات المتوسط – إيطاليا 2020، يدخل الشاعر التونسي أشرف القرقني باب القصيدة من الثقب الذي مكّنه من الإقامة في المسافة الفاصلة بين عالمين: السفلي والعلوي وهو بذلك يبني حياة ويجعل من الذّات الإنسانيّة تتطلّع إلى خالقها. إذًا نحن هنا أمام مستويين: الدّاخليّ/ الروحاني الذي يميل إلى عالم الخير والجمال، والخارجيّ/ الجسدي الذي يجنح نحو السوء والتشوهات. كما تتجلّى في قصائده صور العبور من الماديات إلى الروحانيات من خلال الدعوة إلى إصلاح العالم قبل أن يحين موعد انتهاء الرحلة إلى الأبدية، لذلك يبحث الشاعر عن بصيص أمل لعالم ما زال يحتفظ ببعض القيم الإنسانية التي صارت مفقودة ومنها: الأمانة والوفاء والصدق والمحبة، ولعلّه ينقذ معه الكون.
“من خلال الاستعارات الكونية المستمدة من الأسطورة ومن الكتب السماوية
يخلق الشاعر حيوات داخل هذه الحياة ويوزّعها على شكل أناشيد”
يطلّ علينا الشاعر في قصائد مستمدّة من الرّموز الأسطوريّة فنلمح تأثّره بالموروث الديني خصوصًا. فمن السيد المسيح، إلى النبي يوسف، إلى الأرملة الفقيرة، إلى الأسخريوطيّ، وشخصيّات أخرى تمثّلت في الديوان، هذه كلها تجعلنا أمام مسرح لحركة متجدّدة يؤدّي أدوارها أشخاص من الماضي، وكلّ شخصيّة جاءت متمسّكة بطباعها وتصرّفاتها التي توحي بالجنوح سواء نحو العالم العلويّ: وداعة وبساطة الأرملة، أم العالم السفليّ: خيانة الأسخريوطيّ للسيد المسيح كما ورد في الإنجيل. وإذا بنا نجد الشاعر يعمل على إعادة ترتيب مفرداته وصياغتها بأسلوب حديث بما يتلاءم مع شخصيّاته، وذلك من خلال إعادة النّظر فيها ووضعها في القصيدة. إنّه يأخذنا في الزّمن أيضًا ليعيد تركيب القصيدة باسترجاع اللحظات الماضية وبثّها في الزمن الحاضر. فاستحضار هذه الرّموز وإعادة طرحها بأسلوب جماليّ جعلها مختلفة متقنة العمل. من هنا يبدو جليًّا اطّلاع الشاعر وتعمّقه بالكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن التي كان لها تأثير كبير في اختيار المعجم المهيمن على نصوصه. هذه المفردات المطروحة وُظّفت للتعبير عن حالات الشاعر وتفكيره ونزوعه نحو عالم بعيد عن الماديات الفانية التي تدعو إلى انعدام القيم الإنسانيّة. هكذا جاءت هذه الاعترافات الواردة على لسان أشرف القرقني على شكل نشيد أو تحذير بعد الكشف عن خصائص السوء في العالم الذي يعيش فيه، وهنا صنع عالمًا من الطّهر والمحبة والرحمة، وهو عالم يرتاح فيه أي إنسان ويرمي فيه أعباء الحياة بمعاناتها.
بالنّظر إلى القصيدة الأولى من الديوان يتبدّى أمامنا هذا الارتباط الوثيق بالقصيدة الأخيرة من خلال البحث في عملية التكوين ومساءلة الذات الإنسانية. للشاعر دور كبير في عملية الخلق، إنه يحفر في الكلمات ولا يرتاح إلا بعد اجتياز درب الشعر، أما في نهاية الديوان فيتجلى الشاعر الذي يسائل نفسه وكأنه أمام مرايا العالم أو كأن شخصية أخرى اقتحمته وهو الذي أخفق كثيرًا وعانى من عملية الاحتراق ليصهر المعنى.
هذه القصائد أو هذا النشيد، كما سمّاه الشاعر في العنوان، يسير بوتيرة تحمل الحزن في ثناياها. فالذات الشاعرة المتشظّية من الألم باتت تنظر إلى العالم وما يقترفه من سوء تجاه الإنسانية وهي عاجزة إلا عن الكتابة، وقد تشكّلت نظرتها إلى الإنسان تبعًا لتجاربه وتصرّفاته وعلاقته بالآخر وتشويه الخير الذي دعي إلى تجميله في رسالته على هذه الأرض.
هذا النشيد الذي طالعنا به الشاعر ينطلق من محاورة الذات والعودة إلى التاريخ القديم لتتشكل قصيدته من عالم مستوحى من التراث واستحضار ذكريات قراءاته، وكأنه يوقظ هذه الشخصيات من رقادها عن طريق التخييل الذي تتسع له مسافات الإبداع. فالشاعر يدخلنا في نشيده إلى دائرة الوعي بالذات الإنسانية من خلال التّأمّلات العميقة في العوالم الخارجية ويبرع في نسج شخصياته، وهو لا يقف عند حدود إدراج الأحداث فقط بل يتّخذ دور النبي خصوصًا في التحذير من الخراب الذي يسبّبه السوء، فيأخذ القارئ إلى تفكيك هذا العالم الغارق في الماديات ليرصد تفاصيلها ببراعة تكمن في تصوير أدقّ التفاصيل.
“هذا النشيد الذي طالعنا به الشاعر ينطلق من محاورة الذات والعودة إلى التاريخ القديم لتتشكل قصيدته من عالم مستوحى من التراث واستحضار ذكريات قراءاته، وكأنه يوقظ هذه الشخصيات من رقادها”
من أجواء الديوان: “مُقَيَّدًا إِلَى الشَّجَرَةِ، لَمْ أَذْهَبْ أَبْعَدَ مِنْ سِيَاجِ الحَقْلِ. لَمْ أَصِلْ بَعْدُ إِلَى حَتْفِي. لَكِنَّ الوَقْتَ المُتَكَدِّسَ خَلْفَ البَابِ يَعِدُنِي بِسِرٍّ أَخْضَرَ. كُنْتُ كُلَّ صَبَاحٍ أُلْقِي نَظَرَاتٍ زَرْقَاءَ خَلْفَ التَّلَّةِ. وَعَبَثًا أَنْتَظِرُهَا فِي المَسَاء. مِنْ فَرْطِ الانْتِظَارِ صَارَتْ يَدَايَ يَابِسَةً، وَعَيْنَايَ بَحْرًا تَزْحَمُ فِيهِ المَرَاكِبُ أَشْرِعَةَ الهَوَاء. وَرَغْمَ ذَلِكَ، مَا زِلْتُ الأَرْمَلَةَ التِي تُنْفِقُ آخِرَ دِرْهَمٍ مِنْ أَجْلِ دَمْعَةٍ أُخْرَى عَلَى خَدِّ المَسِيح. فِي النِّهَايَةِ، الحَجَرُ الوَحِيدُ الذِي صَدَّقْتُ صَمْتَهُ، كَانَ أسْخَرْيُوطِيًّا آخَرَ قَدْ هَرَّبَ أَحْلاَمِي إِلَى لَيْلِ آلِهَةِ الشِّرِّير، حَيْثُ العَوِيلُ وَالقَصَبُ المَجْرُوح. هَا هُو يَقْرَأُ قَطِيعًا مِنْ نَظَرَاتٍ سَائِبَةٍ، يُسَابِقُ بَابًا مَخْلُوعًا فِي الرِّيحِ. وَيُلْقِي حِكَايَاتِهِ عَنِ البَدْءِ وَالخَرَابِ العَظِيم فِي خَوَاءِ نَهَارَاتِكُمْ”.
في النهاية، أشرف القرقني يكتب القصيدة المختلفة التي تدعو إلى الدهشة إزاء ما يحدث في هذا العالم وهو عالم كقطار يقود نفسه إلى الجحيم. يبدو العمل الاحترافي في القصائد، فثمة تقنيات استخدمها جعلت من قصيدته معاصرة وجعلته صوتًا متفرّدًا بتجربة مميّزة، فمن خلال الاستعارات الكونية المستمدة من الأسطورة ومن الكتب السماوية يخلق الشاعر حيوات داخل هذه الحياة ويوزّعها على شكل أناشيد تتنبّأ بحقيقة لا بدّ من أن يفهمها الإنسان يوم تتحقق.