قراءة في “أقدام جدي
الروائي عمر سعيد
اللوحة بريشة المبدع شوقي دلال.
على مستوى المدماك الأول من الجدار؛ استقرت قدما جدي، في لوحة شوقي دلال المائية.
على مستوى المدماك الأول بانت القدمان نصف عاريتين بحذاء بسيط، قد يكون بات في دكان الإسكافي لعشرات المرات، لاستمرار مسيرة البناء واتمام الجدار، الذي بلغ الريشة واللون.
لم تكن ماركات الأحذية العالمية تعني جدي، لأنه كان كذاك الصوفي الذي سئل:
- لم لا ترتدي إلا خشن الثياب؟!
فأجاب: - أريد ثوباً يخدمني، لا أخدمه!
عاش جدي منشغلاً في رص المداميك فوق بعضها البعض.
فقد كانت رسالته: “بيتك مش إلك، بيتك لولد ولدك”.
وتأتي تدرجات اللون الأصفر في لوحة دلال أقدام جدي تأكيداً على قدرة هذا اللون على الأرشفة والتخزين.
فالأصفر ذاكرة، والذاكرة صُفرة، مهما أظلمت أو أشرقت محتوياتها، تظل صفراء.
وأي لون يتناسب مع موقع الجد الذي لم يَبَن منه في اللوحة إلا الأقدام؟!
فالجد ذاكرة، والأقدام أثر، والأثر ذاكرة والذاكرة صفراء.
خلفت أقدام الجد وراءها الأمل، بزرقة اللون المائي، يسيل من يسار اللوحة إلى يمينها، وهو ما تؤكدها تموجات الحركة الداخلية في الجزء المياهي من اللوحة.
ولو أن المياه كانت قبالة الجد، لا خلفه، لكان الجد آخذاً أنانياً، غير معطاء.. على عكس الجزء العلوي الذي جعل الجدار أمام الجد لا خلفه.
فالبناء مسؤولية الإنسان التي ينبغي أن يقبل عليها حتى آخر حركة في أطراف أصابعه.
وهذا الجزء من اللوحة رسالة، تؤكد أهمية أجدادنا في عدم التخلي عن مسؤولياتهم في إتمام ما عليهم تجاه الأجيال.
في المداميك التي تعهدها الجد، بدا المدماك الأول أكثر سماكة مما فوقه، وفي هذا دعوة لتمتين الأسس، ثم تتناقص السماكة في ما تلاه من مداميك؛ دلالة على تناقص القدرة في الجد الحي، كنتيجة حتمية لتناقص العمر والجسد، غير أن هذا التناقص لم يمنع الأقدام من ثباتها.
فوضعية الأقدام المتلاصقة عند الكعبين وثباتها، تؤكد مكانة العمل الذي بدأه الجد في روحه كرسالة.
وما تعمد الرسام دلال إخفاء الجزء العلوي من جسد الجد، إلا تجنباً لردود أفعال المشاهدين وقراء اللوحة، ولتأكيد سمو الرسالة في اللوحة.
فانحناءة ظهر الجد، وملامح وجهه وانعكاسات مشاعره، ستغتال الجزء الأهم من اللوحة، وستسقط القيمة الجمالية لهذا الإبداع.
ولأن الأقدام هي أشد الأجزاء المهمشة في جسد الإنسان، إذ أنه حتى صاحب الجسد يغفل عن قدميه وكثيرا، لكنه يستحيل أن يغفل عن وجهه، ومن هنا كانت المرآة وتوابعها، ولأن الأقدام قلما تثير المشاعر، كانت الدلالات في هذه المشهدية المقتطعة أهم بكثير من التفاصيل التي تغري العيون غير المدربة على مشاهدة الأعمال الإبداعية.
فالأقدام كمكون أبرز في هذه اللوحة هي الإنسان، والإنسان هو الجد، إذن فإن أقدام جدي في هذه اللوحة، والتي توسط انتصابها المسافة بين امتداد الجدار وامتداد الأرض هي جدي المتبقي، غير الزائل، والذي أتم دالال النصف المختفي من جسده في اللوحة إبداعاً وجمالاً وخيالا من خلال تجربته الشخصية.
أخيراً يظل العمل مفتوح الأبعاد والتأويلات، في نصفه العلوي المقتطع، ليظل الجزء السفلي المصور حتى لحظة قراءته الأولى من أي من المشاهدين، على مسافة واحدة من التأويل. لتأتي بعدها كافة القراءات كناية عن مداميك تتم الأساس، ليغدو بناءً فيه من التفاصيل الكثير الكثير.