أدب وفن

المرفأ الحزين/ قصة قصيرة/ بقلم القاصّ حسين ابراهيم

المرفأ الحزين

في المرفأ الحزين، حيث تنتحر الأماني وتترمَّد الأشواق… أقف، فوق ضفَّةٍ صغيرةٍ، تتوسط ضفتين عملاقتين. أنظاري مثبَّتةٌ على البحر: الشمسُ تحتضر، والنوارسُ تُرسِل للأمواج قبلاتِ الوداع. القواربُ مدائنُ من الصمت، ترتحلُ في دنيا المغيب. يبدو أننا قد دخلنا في موسم هجرةٍ طويل.
يمر شاب بقربي. يتوقف لحظةً. يسألني إن كنت أملك سيجارة. أجيبُهُ بالنفي، فيستديرُ ويتابعُ سيرَه. على قميصه من الخلف رسمةٌ وكلماتٌ فاقعةُ اللون، لا أكاد أُبصِرُها، حتى يلتفتَ عائدا صوبي. يقف جانبي. يمعن النظرَ في البحر. ثم يسألني وعيناه تسافران مع الأمواج:

_ ما وجهتُك؟
لا أفهم قصدَه. يعيد السؤال:
_ إلى أي بلد مسافر؟
_ لستُ مسافرا.
_ ولماذا تقف هنا؟
_ أحب أن أتأمل البحر من هذه النقطة. أراه مختلفا هنا.
يبتسم ابتسامة غامضة، وعيناه ما تزالان تتمرجحان مع الأمواج.
وهل أنت مسافر؟ أسأله. فتتمغط الابتسامة على وجهه، ويكبر الغموض في عينيه: نعم…
_ أين حقيبتك؟
_ جسدي حقيبتي…
_ إلى أين؟
_ أفريقيا.. كندا.. هونولولو.. لا فرق. المهم أن أرحل.
_ والوطن؟!
أقذف بسؤالي في وجهه ووجه الأمواج، دون أن أدري إلى من وجهتُه بالضبط. فتتحولُ ابتسامتُه إلى ضحكةٍ هستيرية. يصمت بُرهة. يفترس البحرَ بمقلتيه. ثم يستدير صوبي فائرا:
_ مزبلةٌ لا تليق بنا… عاهرةٌ ابنُ عاهرة…
_ الوطن؟!
_ حانوتٌ للزناةِ والمقامرين… يُقيمونَ فيه كلَّ ليلةٍ حفلاتِ الدّعارة…
_ الوطن؟!
_ توابيتُ من الليل المدمَّى… نرتِّل فيها بصمتٍ أناشيدَ الهلاك..
وأظلُّ أسألُه بتعجِّبِ مغتربٍ يزور وطنَه للمرةِ الأولى:
_ الوطن؟!
لكنَّ أجوبتَه لا تنفكُّ تقصف بالشتائم، كمدافعَ قضت دهرا تنتظر أن تُفرغ ما في جوفها من ذخائر:
_ كلابٌ… عبيدٌ… حمير…
وبالرغم من كل هذا الحقد الذي يتفجَّر منه، غيرَ أنني ألمح في عينيه مزيجا من الأسف والاستنكار. أعرف أن في أعماقه أجوبةٌ أخرى، لا يرضى بتحريرها. أبقى أُحِثُّهُ وأُحِثُّه. ويُخيَّلُ إليَّ للحظةٍ أن طيفا من الدمع يكاد يُجلي غشاءَ الغموضِ عن عينيه، لكن مُحال… لن يبكي. لن يعترف… يقول قبل أن يتوجهَ إلى إحدى السفن:
_ سأغادرُ جحيمي، أما أنت، فابقَ هنا في وطنِك الجنة، تتأمَّلُ بحرَهُ المُغري…
(ولكن من قال وطني جنة؟!).
_ سأغادر قبلَ حلولِ الليل. قبل اندلاع المعارك. فإني أسمع صدى الأجراس، وأشتمُّ رائحةَ الضحايا.
(ما الذي يقولُه؟!).
يستدير مجددا ويرحل دون عودة. وعندها فقط، أستطيع أن أرى بوضوحٍ الرسمةَ التي تملأ قميصَه من الخلف والكلماتِ ذات اللون الفاقع. إنها أرزةٌ خضراءُ شامخة، كُتِب فوقَها بحروفٍ مبهرجة: “وطني أرزةٌ لا تجرفها العواصف”. ربما لم يلتفت إلى ما كُتب من الخلف، أو ربما يعلم تماما ما كُتب. ربما هو من كتبَ هذه العبارة قبل ان يرتدي قميصَه؛ لأنه لا يستيطعُ التصريحَ بها. لأنه أجبنَ من أن يبوحَ بحقيقةِ مشاعرِه وجها لوجه.
“وطني أرزة لا تجرفها العواصف…”. صدى العبارةِ يرتج في المكان كلِّه. يعاكس الريح. يبدّل حركة المد والجزر. لكنه يخبو فجأة ويتبخّر أمامَ صوتين يكتسحانه بشراسة. صوتين يصدران من الضفتين العملاقتين في آن معا.
من الضفة الشرقية يرتفع صوتُ الكنيسةِ مرنِّما: “يا بنيّ لا تنسَ شريعتي…”. ومن الضفة الغربية يصدح المسجد: “حيّ على الفلاح”. كأني بي أسمعه يرددها أربعَ مرات، بل خمس… عشرُ مرات يرددها: “حي على الفلاح”. هل هو عطل في شريط التَسجيل؟ أم أن الصوتَ ليس تسجيلا، إنما هو صوتُ الله نفسِه، يشق الآذانَ ويغزو الأفئدةَ ليوقظَ الضمائر؟!…
الصوتان يعلوان أكثر فأكثر. يتعارضان. يتشنجان. وكل منهما يحاول ابتلاع الآخر. المكان بأسره يتحول: الريح تشتد. السماءُ تتلبد. الشمس تستحيل إلى رأس محزوزٍ، يتدحرج في الأفُقِ ويصبغُ الوجودَ بدمائه. نزيفُه يُغرق البحر، ويشحن الضفتين بحماسة مُبهَمة. الأشرعةُ تغدو صلبانا منتصبةً وسط مدائنِ الموتى. والنوارسُ تتحول إلى غِربانٍ ملتهبة، تنبثقُ من الضفتين بجنون غيرِ مُبرَّر تغطِسُ في بحرِ الدماء وتتمرَّغ فيه بنشوة. يبدو أن كلَّ ضفةٍ قد أطلقت جيشَها لتغزوَ الأخرى.
تمتزج الأصوات وتعلو كجوقةٍ تعزف ألحانَ الموت والخراب: أجراسٌ تزمجر. غربانٌ تنعق. كنيسةٌ تُجلجل. مسجدٌ يدوِّي. الأصواتُ كلُّها تتداخل لتشكِّل خلفيةً موسيقيةً تتلائمُ والمشهدَ الدموي.
البحرُ ساحةُ المعركة. تتطايرُ فوقَهُ الرؤوسُ وتَغلي فيه الضحايا: “…خلِّني قرب الصليب، حيث سال المجرى…”. يستمر الذَّبح، والدماء تلطّخ المآذن: “الله أكبر… الله أكبر…”. ريشٌ أسود يتناثر فوق أمواج الجحيم، وزوبعةٌ من النعيق والرماد تنفخ بالأشرعة: “…في الصليب راحتي، بل فخري…”. الغيوم تخط بدموعها أسماءً متباينة، تتناحرُ فيما بينِها: “حسين، يسوع، عمر، علي، عائشة، فاطمة، مريم…”. الأسماء تتبدل باستمرار. تنهش بعضَها بعضا. لكنَّ لونَها لا يتبدل، أحمرٌ قانئ.
تنتهي المعركة، والمغيبُ يُعلن اندحارَه. الطرفان كالعادة يخسران، فهما لا يتساوان إلا في الخسارة. تصمت المآذن، وتعود ترنيمةُ “خلِّني قرب الصليب” إلى سكونها الأول وألحانِها المؤنسة. يخيِّم الليلُ بثوبه الأسودِ حدادا، ويرقّعُ المكان بظلاله ونجومِه المضلِّلة. لكنَّ الدماء، وإن حُجِب لونُها، فما تزالُ رائحتُها معشعشةً في النفوس.
هنا في المرفأ الحزين، حيث تنتحر النوارس وتترمَّد الألحان. أقف، فوق ضفة صغيرة. تتوسط ضفتين من الخراب، من الدماء، ومن الجنون. أحدق في الليل المدمَّى، وأرتِّل بصمتٍ أنشودة الهلاك. أكاد أشعر هنا في الوسط، بشيء من الطمأنينةِ والسلامِ الداخلي، لولا صوتُ الحارس الذي مزق السكينةَ صائحا بي: “لا يمكنك الوقوفَ في هذه الضفةِ أيها الشاب، فهي مخصصةٌ للمهاجرين. إن كنتَ باقيا… فعليكَ التوجهَ إلى إحدى الضفتين الأخريين”.

**فاز “حسين إبراهيم” بجائزة “حسان ناصر للإبداع” التي تقام سنويا، عن قصته القصيرة بعنوان ” المرفأ الحزين”
انها قصة من بين عشرات القصص التي كتبها تمهيدا لاصدارها لاحقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى