سلسلة «دراسات في الشِّعري» في نصوص «الأخوين رحباني»
الدكتور وجيه فانوس
تقومُ دراسةُ الشِّعريِّ، في نصوص «الأخوين رحباني، هَهُنا، على مبادئ مَنْهَجِيَّةِ «التَّفْكِيك» (Deconstruction)؛ التي تُعْتَبَرُ مِنْ أكثر الرُّؤى والتَّطبيقات المَنْهَجِيَّةِ ارتباطاً بِفْكْرِ ما «بَعْدِ الحَداثَةِ» (Postmodernism)؛ ويُمْكِنُ اعتبارها مَنْهَجِيَّةً في قِراءَةِ «التَّلقِّي» أو «الاسْتِقْبالِ»، أكثرَ مِنْها مَنْهَجاً قائِماً بِذاتِهِ.
ينهضُ جوهرُ «التَّفكيك» (Deconstruction)، وفاقاً للفيلسوف والنَّاقد الأدبيِّ الجزائريِّ الفرنسيِّ، «جاك دريدا» (Jack Derrida) (1930-2004)، في غيابُ ما يمكن أن يُعرف بـ «المركز الثَّابت للنَّصِّ»؛ الأمر الذي يقود إلى أنَّ «المعنى»، ليس مُعْطَىً جاهزاً.
يَذْهَبُ «دريدا»، في هذا المجالِ، إلى أنَّ لا حدودَ فاصلةً بين ما يُعرفُ بـ «لًغَةِ الأَدَبِ» (writing/écriture) وما يُمْكِنُ أنْ يُعْرَف بـ «كَلامِ اللُّغةِ» (speech/ parole)؛ وأنَّ تشكُّلاتِ «الكلام»، وحدَها، هي ما يُؤمِّنُ، فِعلاً، حَرَكِيَّةَ الكلام. ويعتقدُ دريدا أنَّ «الكلامَ»، بحدِّ ذاتهِ، ليس بأفضل مِن «الكِتابة»؛ غير أنَّه قد تمَّ اعتمادُ هذه الفاعليَّةِ للكلام، مِنَ قِبَلِ المجتمعات التي تسعى إلى إيجاد شكل مُتَسامٍ للتَّعبير. لقد إدَّعى هؤلاء، وفاقاَ لـ «دريدا»، أنَّ الكتابة تسمحُ للمرءِ بالتَّعبيرِ عن الحقائقِ المُتسامِيَةِ، بشكلٍ أفضل؛ كما تَسْمَحُ للفردِ بِفَهمٍ أفضل للأفكارِ الغَيْبِيَّةِ (الميتافيزيقيَّةِ) الرَّئيسة. ويرى «دريدا» أنَّ الثَّقافات الصَّوتيَّة، تربُطُ الكلامَ بوقتٍ، قبلَ أنْ يفسد المعنى بالكتابة؛ ويُشير، إلى أنَّ المركزيَّة الصَّوتيَّة (Central phonation)، ليست سوى جزءٍ مِن تأثير الرُّومانسيَّة؛ وتحديداً، في موضوعِ إيمانِها بوقتٍ يعيشُ فيه النَّاسُ في وئامٍ ووحدةٍ مع الطَّبيعة. واقعُ الحال، فإنَّ «دريدا»، بِحَدِّ ذاتهِ، لَمْ يُؤْمِنْ، قَط، بأيَّةِ حالٍ مِثالِيَّةٍ مِنَ الوحدةِ مع الطَّبيعةِ؛ كما أنَّه جادلَ بأنَّ «الكلام» يُعاني مِن عديدٍ مِن العيوبِ المُتأصِّلَةِ في الكتابة؛ ورأى أنَّ هذه العوامل تقود، بدورها، إلى تحقيق الفاعِلِيَّةِ الأَدَبِيَّةِ لـ «الكلام».
يُشير «دريدا»، إلى أنَّ «أصوات البشر» (Human voices/ Voix humaines)، غالباً ما تُهَيْمِنُ على «التَّعبير» (The expression/ L’expression) عن الآراءِ الإنسانيَّةِ، بشكلٍ عامٍّ؛ وأنَّ «الكتابة» تُحرِّرُ «التَّعبير» عن الصَّوت البشريِّ، وهي أكثر خارجيَّةً وثباتاً من الكلام؛ وعلى هذا الأساس، فقد فضَّل «دريدا» «الكتابة»؛ لأنَّه ربطها بـ «بناء المعنى وخلق التَّصنيف» (Construction of meaning and the creation of category).
لقد حدَّد «دريدا» الفرق الملحوظ، في كثير من الأحيان، بين قيمة «التَّحَدُّث» مقابِل «الكِتابة»، كأحدى التَّناقضات الثَّنائيَّةِ الرَّئيسةِ لـ «مركزيَّة الإشارة» (one of the key binary oppositions of logocentrism). وكان لأن سعى «دريدا» إلى تفكيك هذه المعارضة بالقول إنَّه يمكن النَّظر إلى «الكلام» على أنَّه مشتَّقٌّ مِن «الكتابة»، بالسُّهولة عينها التي يُنظر بها إلى «الكتابة» على أنَّها مشتقَّة من «الكلام».
أصرَّ «دريدا» على أنَّ للكلمة المكتوبة قيمتها الخاصَّة بها، ومن المحتمل ألا تكون «الملحق» البسيط لـ «الكلمة» المنطوقة» علم النحو . ولقد استخدم «دريدا» طريقة التَّحليل هذه، بشكل خاصٍّ، لِنَقْدِ الآراء التي عبَّر عنها «جان جاك روسو» (Jean-Jacques Rousseau) (1712-1778)، في مقال عن أصل اللُّغات. وجادل «دريدا» بأن آراء «روسو»، كانت متناقضة؛ وغالباً ما قوَّضت حججه.
يُضيءُ تركيزُ «التَّفكيكِ»، بِهذا المفهومِ، على أهميَّة «الكتابةِ»، وكَوْنِها أشدَّ فاعليَّةً من «الصَّوت»؛ بل هي البديلُ من «الكلام»؛ إِذْ تُؤمِّنُ لِلنَّصِّ تنوُّعاً في إمكانيَّاتِ التَّفسير، وتُعطي الأَهميَّةَ الأساسَ للمُتَّلَقِّي أو للمُسْتَقْبِل. إنَّ مجالاتَ «التَّفكيك»، كما يراها «بول دى مان (Paul de Man) ، تُبيِّن ما في النَّصِّ من عناصر أو أجزاء لا تظهرُ إلاَّ بهذهِ المنهجيَّة. فـ «الدَّال»، (Le signifiant /The signifier) ههنا، يمثِّل «الحضور»، في حين يمثِّل «المدلول» (Signified/Signifié) «الغياب» (Absence)؛ وتكمن فاعليَّة «المتلقِّي»، أو «المُسْتَقْبِل»، في استدعاء «الغِياب»، المتشكِّل في تصوُّره له. اعتمدَت هذه الدِّراسة خمسةَ نماذج، واسعة الانتشار عبر امتداد السِّنين، بين مُتَلَقِّي، أو مُسْتَقْبِلي، تَشَكُّلاتِ فاعليَّةِ «الشِّعريِّ» في نصوصِ أغنية «الأخوين رحباني»؛ ولا بدَّ، ههُنا، مِن لا بدَّ من التَّأكيد على أنَّ هذه النَّماذج هي من باب المثال، على شعريَّةِ «الأخوين رحباني»، ليس أكثر؛ ولذا، فإنَّ الأمر يتحمَّلُ توسَّعاً في العرض والتَّحليل لا بدَّ من أن يجد طريقه إلى التَّحقيق في دراسة موسَّعة ومستفيضة.
1) شعريَّة التَّناقض.
2) شعريَّة توالي العناصر التَّشكيليَّة.
3) شعريَّة التَّوازي المتباين.
4) شعريَّة المسكوت عنه من السَّرد.
5) شعريَّة تجديد اللُّغة.
سينهضُ التَّوجُّهُ، ههنا، على اختيارِ نَماذِجَ مِن نُصوصِ أغاني «الأخوين رحباني»؛ يكونُ فيها تمثيلٌ لـ «كلامِ» أغنيتهما، في بضع محطَّاتٍ زمانيَّةٍ وموضوعيَّةٍ ولغويَّةٍ أساسيَّةٍ في تجربتهما معاً؛ فضلاُ عن تمثيلِ تنويعاتٍ تركيبيَّةٍ (تقنيَّة) عايَنها «الأخوان رَحباني» وعبَّرا عنها وبِها؛ وقد جرى استخراج «النُّصوص» (الكلام) مِن تسجيلاتٍ عامَّة لأغانٍ معروفةٍ وواسعةِ الإنتشارِ للـ «أَخَوين رَحباني».
سيكون التَّعاملُ مَعَ هذهِ النُّصوص (الكلامِ)، تالياً، بِما يَكْشُفُ عَن تشكُّلِها «التَّكويني البِنائيِّ» (Formative Construction)؛ سَعْياً إِلى قِراءةٍ لِما قَدْ تَحْويهِ مِنَ «الشِّعريِّ»، عَبْرَ مَنْهَجِيَّةِ «التَّفكيك» (Deconstruction)؛ التي هي أَحَدُ أشكالِ التَّحليلِ الفَلْسَفِيِّ الأَدَبِيِّ، الذي جَرى اشْتِقاقُهُ مِن نشاطٍ فكريٍّ لدراسةٍ دقيقةٍ لِنُصوصٍ فلسفيَّةٍ وأدبِيَّةٍ؛ بِدْأ مِن سِتِّيناتِ القرنِ العِشرين، على يَدِ الفيلسوفِ الجزائريِّ الفرنسيِّ «جاك دِريدا»؛ كما جَرى تطبيقٌ واسِعٌ، لهذا التَّوَجُّهِ، في سَبْعينات القرَنْ ِالعِشرين، مِنْ قِبَلِ أكاديميين أوروبيين وأميركيين، ذوي شُهرةٍ واسعةٍ؛ على رأسهم «دريدا» والأستاذُ الجامعيُّ والفيلسوف البلجيكي الأميركي «بول دى مان» (Paul de Man) (1919-1983)، فضلاً عن الفيلسوفة الُّلغويَّة «بربارة جونسون» (Barbara Johnson) (1947+).
وإلى اللقاء مع الحلقة المقبلة:
«شعريَّة التَّناقض»
—————
* دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)