أدب وفن

البوهيمية بين الذات والزمان: قراءة نفسية في ديوان “بوهيمية” لِ للشاعرة “ميراي شحاده الحداد”

البوهيمية بين الذات والزمان: قراءة نفسية في ديوان “وهيمية”لِ الشاعرة “ميراي شحاده الحداد”

(مهداة من د. جوزاف الجميل إلى الصديقة المهندسة والشاعرة ميراي شحاده الحداد، بمناسبة توقيع كتاب #بوهيميةحين الارتقاء لِ الأديب د. مصطفى الحلوة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 66)

تُعدّ تجربة ميراى شحاده الحداد الشعرية في ديوانها بوهيمية تمثيلًا مميزًا لحالة الذات الشعرية وهي تواجه العالم وتعيد تشكيله من خلال الكلمة. بعيدًا عن الرؤية النمطية للبوهيمية كحالة فوضى وجودية أو تمرّد عبثي، تتقدّم الشاعرة الشحادية برؤية نفسية عميقة لذاتها، متجاوزة المفاهيم الفرويديّة للأنا، كما تصرّح في قولها: “بعيدًا من مفاهيم الأنا الفرويديّة، هذي أنا رسمتُ أناي بكلّ وعي وإتقان في بوهيميتها الحالمة”.

من هذا التصريح، يمكن أن ننطلق عبر المنهج النفسي لنفهم أن الذات الشاعرة هنا لا تبحث عن تفكيك داخلي مدفوع باللاشعور كما في التفسير الفرويدي، بل تسعى إلى بلورة ذات ناضجة من خلال الكتابة، وهي عملية دفاع نفسي متقدّمة ضدّ التفكك أو التشظّي. اللغة هنا ليست مرآة للهو، بل وسيلة لإعادة بناء الأنا.

الشاعرة تُخضع التجربة الشعرية لتحليل وجودي نفسي، إذ ترصد الحركيّة الزمنية لذاتها، لا المكان، وتتماهى مع الزمن بوصفه نسقًا داخليًا في هويّتها: “تعمل طالما عقارب ساعتها لا تملّ الدوران في هذا الأفق الثابت حينًا والمتحوّل أحيانًا…”. هذه الرؤية الزمنية تُحيلنا إلى مفهوم “الذات الزمنية” لدى بول ريكور، حيث يصبح الزمن الداخلي أحد محركات الفعل الشعري وركيزةً في تشكيل الهوية.

ولأنّ اللغة في هذا الديوان تؤدي دورًا وجوديًا، تُصوّر الشاعرة ميراى مأزق الكلمة ذاتها، حين تقول: “في رحلتي، خانتني الميم وأسيادها، وطعنتني الألف وأخواتها… “. هذه العبارة تكشف عن أزمة في العلاقة مع اللغة كوسيط رمزي، وهو ما يشير، بمنظار التحليل النفسي، إلى مرحلة من الانفصال عن الرموز أو التشكيك في فاعليتها – وهي مرحلة تُوازي قلق الهوية أو أزمة التعبير عن الذات.

وفي مقطع آخر من الديوان، تُصرّح الشاعرة:” أنا رغيف خبز من طاحونة الوجع قمحي”. هنا يتحوّل الجسد الشعري إلى مادة للمعاناة والتخمير الإبداعي. الألم ليس طارئًا بل هو قوام الكينونة، ما يعكس رؤية وجودية تتقاطع مع فهم التحليل النفسي للكتابة بوصفها “إعادة تنظيم للوجع” عبر عملية التمثيل اللغوي.

وتواصل الشاعرة ارتقاءها البوهيمي الواعي من خلال التحوّلات الداخلية: “علمتني الحياة كيف أحترق ثم أنبعث لأحلق كطائر الفينيق”. هذه الصورة تتقاطع مع رمزية التحوّل في علم النفس التحليلي عند يونغ، حيث “الذات” تبلغ نضجها عبر الألم والانبعاث، لا عبر الإنكار أو الإزاحة.

من جانب آخر، يُظهر كتاب الدكتور مصطفى الحلوة “بوهيمية… حين الارتقاء بالكتابة الإبداعية” وعيًا نقديًا بمسألة الارتقاء هذه، حين يقول: “ينتمي الديوان إلى قصيدة النثر، لكنّه لا يتخلّى عن شحنة الوجدان العالية والارتباط بجذر الذات الأنثوية الحاضرة بعنفوان”.

يستبطن الحلوة في تحليله مفارقة جوهرية: فالشاعرة التي تنتمي إلى البوهيمية، لا تعيشها كأفق تائه بل كوسيلة ارتقاء. وكأنّ “لا” التي تُطلقها ميراي شحاده ليست رفضًا عبثيًا بل فعل إثبات داخلي: “إن قلتها يومًا ‘لا’ مدويّة، يعني أن أقول نعم لبوهيميّتي النقية الشفيفة الحالمة”.

وهكذا، فإنّ “الارتقاء” في هذا الديوان لا يتمّ في الفضاء الخارجي بل في البنية النفسية الداخلية للشاعرة. إنها ذات قادرة على تحويل الرفض إلى بناء، والاغتراب إلى انتماء داخلي، واللغة إلى ملاذ لا إلى قيد.

خاتمة: في ضوء المنهج النفسي، يبدو ديوان بوهيمية أشبه برحلة تحليل ذاتي، تتقصّى فيها ميراي شحاده الحداد حدود الأنا والهوية، وتواجه قلق اللغة، وجراح المعنى، عبر الشعر. هي ذات لم تطغَ على “نعمها”، لكنها عرفت كيف تقول “لا” لمن سلب صوتها، وكيف ترتقي – لا إلى مكان، بل إلى مقام زمني داخلي شفيف.

ميراي شحاده الحداد، طوبى لبوهيميتك الراقية، وقد ارتدت حلّة أنيقة على يدَي الدكتور مصطفى الحلوة، مصمّم أزياء الكلمات الخالدة التي تولد في النور، تحارب الظلال، وتسكن أعماق النقاء.

بِقَلَم د. جوزاف ياغي الجميل


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى