حَبُّوبة حَدَّاد رائدة في الكتابة عن قضايا المرأة العربية 1897-1957
تحيَّة إلى عطاءاتها لمناسبة مرور 124 سنة على ولادتها (الحلقة الأولى)
الدكتور وجيه فانوس
أنتمي إلى نوعيَّةٍ من ناسِ جيلٍ، بدأ وَعْيُهُم يتفتَّح على شؤون الدُّنيا مع مطلع السنوات الأولى من خمسينات القرن العشرين. شكَّل المذياع، أو ما نعرفه جميعا بـ «الرَّاديو»، نافذة شديدة الفاعليَّة في تزويدنا بنوعيات معرفية وآفاق ثقافيَّة؛ إذ كان «الرَّاديو» أبرز أداة شعبية متوافرة، لمعرفة كثيرٍ من أمور الشَّأنِ العامِ التي كانت تدور خارج نطاق البيت أو الحي. أذكرُ أنَّ «الرَّاديو»، الذي كان في منزلنا، زمن طفولتي كان من صنع بريطانيٍّ يحمل العلامة التجارية «AirMic»، أو ما يمكن فهمه بـ «مذياع الهواء»، بالعربيَّة؛ والجميل أنَّ شعار هذه العلامة كان The World Between Your Fingers، بما يعني، بالعربيَّة «العالم بين أصابعك». وبالفعل، فإنَّ «الرَّاديو» كان، لكثير من أبناء جيلي، وكبارهم على حدٍّ سواء، المدخل الأكثر قدرة على تأمين معرفتنا لبعض ما في العالم.
كنت شديد الشَّغف بمتابعة ما تقدمه «دار الإذاعة اللبنانيَّة»، زمنذاك؛ والتي أصبحت تعرف، لاحقاً، بإسم «إذاعة لبنان»، من فقرات ومنوعات وبرامج؛ وما زلت أذكر، بوضوح وبكثير من الألق والبهجة، برنامج الأطفال الذي كان يذاع أسبوعياً، ولعل إذاعته كانت غروب كل يوم أربعاء، وكانت تقدِّمه «حبوبة حدَّاد». يغلب على ظنِّي، ورغم ما سعيتُ كثيراً إلى معرفته عن البرامج الإذاعيَّة للأطفال، فإنَّ هذا البرنامج الذي كانت تعدُّه وتقدِّمه «حبوبة حدَّاد» من «دار ألإذاعة اللبنانيَّة»، هو من أوَّل البرامج الإذاعيَّة العربية من نوعه، إن لم يكن أولها على الإطلاق. بدأت «حبوبة حدَّاد» تقديم برنامجها الإذاعي للأطفال منذ سنة 1938، وكانت الإذاعة تعرف، عهدذاك، باسم «راديو الشَّرق». تُعَدُّ هذه الإذاعة من أقدم الإذاعات في العالم العربيِّ، إذ أُنشئت سنة 1938، زمن الانتداب الفرنسيِّ على لبنان؛ ثم انتقلت إدارتها كاملةً، في شهر نيسان من سنة 1946، إلى الدَّولة اللُّبنانيَّة، وأصبح اسمها الرَّسمي «الإذاعة اللُّبنانيَّة». لا أذكر أنَّ البرنامج كان يستضيف أطفالاً يلقون الأناشيد أو يؤدُّن بعض الأدوار التمثيلية، كما صار الحال، لاحقاً، مع بعض البرامج الإذاعية؛ فكل ما في هذا البرنامج، كان ينهض على حكاية تقصُّها «حبوبة حدَّاد» على مسامع متابعيها من أطفال وسواهم.
ما عدت أميِّز في ذاكرتي اليوم، ويعد مرور أكثر من خمس وستين سنة على ذلك العهد، إن كانت «حبوبة حدَّاد» تقدم تلك الأقاصيص بالعربية الفصحى أو بتلك المحكيَّة؛ ولكنِّي، وللَّحظة، ما زلت أذكر بكل صفاء صوت «حبوبة حدَّاد» وهي تروي تلك الحكايات عبر «الراديو». لم تكن تحاول، على الإطلاق، أن يكون في أدائها ما قد يشبه أصوات الأطفال، أو ما قد يحاكي أو يقترب من بعض ما جرى التعارف على أنه من أساليب كلامهم وطرق تعبيرهم. كان صوت «حبوبة حدَّاد»، صوتاً ناضجاً وعذباً، في آن؛ غير أنَّه لم يكن ليشبه صوت أيِّ واحدة كنت أعرفها من معلمات المدرسة أو النَّاظرات أو الإداريات فيها. نعم لم يكن صوت «حبوبة حدَّاد» يحمل نبرة الأوامر والنواهي؛ ولم يكن، كذلك، صوتاً يموسقُ تنغيماتِ اللَّوم أو العتاب أو حتَّى بعض الإعجاب. كان، وبكل سعةٍ وجلاءٍ، صوتاً هادئاً وبسيطاً. واليوم أقول، لقد كان صوتاً مقبلاً بكليَّتهِ على من يسمعه، لا يستجدي الاستماع ولا ينفِّر منه. نعم، كان صوت «حبوبة حدَّاد» صوتاً لا يمكن لسامعه، طفلاً أو ناضجاً، إلاَّ أن يستسيغه ويحبه ويقبل عليه. لقد كان صوت «حبوبة حدَّاد»، بكل إنصاف وصدق وبيان وحق، صوت الأم؛ وبكل ما في حضورها من رحمة ومحبة ومهابة وألق، وبكل ما يمكن أن تعنيه الأم لأطفالها أو يرجوه أطفالها من وجودها.
قدَّمت «حبوبة حداد»، في برنامجها الإذاعي للأطفال، الذي استمرَّ زهاء تسع عشرة سنة، قصصاً قصيرة، يحكي معظمها عن القرية والوطن؛ بلغة بسيطة عذبة، وبتعابير بلاغيَّة جماليَّة راقية مبسَّطة، وبحبكات قصصية رشيقة السبك. ومن هنا، يزهو ذكر «حبوبة حداد»، رائدة في مجالي «أدب الأطفال» و«البرامج الإذاعية الموجَّهة للأطفال»، ليس في لبنان وحده، بل في العالم العربي قاطبة.
وُلِدَت حبوبة حدَّاد، يوم الاثنين، الواقع فيه الخامس عشر من آذار سنة 1897، في بلدة «الباروك» من قضاء «الشُّوف» في محافظة «جبل لبنان». وتقع بلدة «الباروك» في أعالي «تلال الشُّوف»، مرتفعة عن سطح البحر حوالي 1200 متر. ويبدو أنَّ «حبوبة»، يوم كانت في السابعة عشرة من العمر، كانت من التلميذات النجيبات؛ إذ اختارتها إدارة مدرستها، في «المدرسة الإنكليزية في شملان»، لإلقاء كلمة الطالبات الترحيبية بالروائي والصحافي والسياسي الفرنسي «موريس باريس (1862-1923)»، Auguste-Maurice Barrès، يوم زار المدرسة، قبيل اندلاع الحرب العالميَّة الأولى، خلال تجواله في لبنان وبعض مناطق شرق البحر المتوسط، سنة 1914. وكان أن أعجب «باريس» بشخصيَّة «حبوبة» وفصاحتها باللغة الفرنسيَّة؛ وشجَّعها، من ثمَّ، على السفَّر إلى العاصمة الفرنسيَّة «باريس» والتعرّف على ما فيها من آداب وفنون. ولم تدرِ «حبوبة»، يومذاك؛ ولعلَّ «موريس باريس» نفسه، كان يتصوَّر أن تشجيعه لهذه التلميذة، سيتجاوز العبارات التقليديَّة، ليشكِّل، لاحقاً، محطَّة مفصليَّة تنطلق منها مسيرة «حبوبة حداد» في دنيا الثقافة.
لم تلبث «حبوبة» أن تزوَّجت من قريب لها اسمه «أسعد حدَّاد»؛ وسرعان ما أنجبت منه ابنها الوحيد «فؤاد». ولعلَّ «حبوبة» لم تكن لتتصوَّر آنذاك، أنَّ هذا الزواج سيشكّل أيضاً نقطة انطلاق أساس لحضورها النسائي الفذ ونضالها الدائم في سبيل حرية المرأة ونهضتها؛ إذ سرعان ما تمَّ الانفصال بين الزَّوجين؛ ولم تكن «حبوبة» قد تجاوزت الثامنة عشرة من سني العمر. لم تعد «حبوبة» إلى تكرار تجربة الزَّواج على الإطلاق؛ بيد أنها كرَّست كثيراً من جهدها لتربية وحيدها «فؤاد»؛ الذي سيصبح في خمسينات القرن العشرين واحداً من أبرز أهل الأدب والصحافة في لبنان، ويتَّخذ لنفسه اسماً أدبيَّاً، هو «أبو الحن»، ويلقى حتفه سنة 1958، مخطوفاً ومقتولاً، بعد سنة واحدة من وفاة والدته.
تابعت «حبوبة حداد» دراستها الجامعيَّة في رحاب «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»؛ حيث تخصَّصت في «العلوم الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة»؛ غير أنَّ ميولها إلى الكتابة، طغت على أي توجُّه معرفيٍّ آخر عندها؛ فإذا بـها تندفع بكل عزم وثقة إلى عالم الصحافة والأدب. ما أن أنهت «حبوبة حداد» دراستها الجامعيَّة في بيروت سنة 1920، حتَّى توجَّهت إلى العاصمة الفرنسيَّة «باريس»؛ وهناك التقت، مجدداً، بـ «موريس باريس»، الذي احتفى بحضورها، كما شجّعها وساعدها على إصدار مجلَّة أسمتها «الحياة الجديدة».
وإلى اللقاء مع الحلقة الثَّانية
من «حَبُّوبة حَدَّاد رائدة
في الكتابة عن قضايا المرأة العربية ومن الرائدات في تقديم البرامج الإذاعية العربيَّة للأطفال»
——————–
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية