في ذكرى السيَّاب بقلم الأديب جميل داري
في ذكرى السيابِ
بدر شاكر السياب طائر الشعر، أخذه الموت في شرخ شبابه”38″ سنة.
ولد في 1926 وكان الموت له بالمرصاد في الرابع والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1964
قرية صغيرة بحجم قصيدة اسمها “جيكور” وغابات نخيل بحجم القوافي الشاردة، هي القرية التي ولد فيها السياب، ودُفن.
ودّع شماريخ الرطب وصلاة الأزاهير وخرير بويب.
لم يطق صبرا في المدينة التي التهمت توازنه النفسي، وتكسر في روحه غصن الفرح ، فقرّر العودة إلى جيكور ، وأصيب بالسلّ، وهكذا صار طائر الشعر “طائر الحديد” يؤخذ من سرير إلى آخر، وحين مات في الكويت كان وحيدا، جاؤوا بجثمانه إلى “جيكور” ولم يسر خلف جنازته إلا القليل ، والكثير من الشعر.
وبذلك انتصر على المرض و الموت بقوة الإبداع.
فهو ملحمة من ملاحم الشعر والكفاح، دافع عن الإنسان الكادح الذي يتضوّر قهرا منتظرا أنشودة المطر:
أصيحُ بالخليجِ: يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤِ والمحارِ والرّدى
فيرجعُ الصّدى كأنّهُ النشيجْ
يا واهبَ المحارِ والرّدى
الشاعر علي الجندي يعترف بأستاذية السياب، فيقول: “موهبته كانت أقوى من كل مواهبنا، كان مثل ثوب مغبر . . إذا ما هززته يسقط منه الشعر غزيراً طريفاً”. علي كنعان قال: “يوم كنا ندرب أجنحتنا على الخفقان كان بدر يحلق عالياً في فضاءات الشعر، ويستكشف آفاقاً جديدة . . لم تكن أعمارنا ولا طاقاتنا الغضة قادرة على إدراكها إلا بالأحلام”
عبدالكريم كاصد قال: ” لقد عرفت لحظة الشعر في نفس السياب أطراف النقيضين: نشوة البطولة وانكسار المغدور البائس وانسحاقه في الموت”.
كما قالت سلمى الخضراء الجيوسي: ” أما الشاعر السياب فقد قال أمام سرير مرضه، معزياً نفسه قبيل الموت قصيدته المؤثرة المزدحمة بالألم “الوصية”.
كثير من الشعر يموت، وأصحابه أحياء، وكثير من الشعر يبقى، وأصحابه أموات. يقول السياب في قصيدته “الوصية”:
من مرضي
من السريرِ الأبيضِ
من جاريَ انهارَ على فراشِهِ وحشرجا
يمصّ من زجاجةٍ أنفاَسه المصفّرة
من حلمي الذي يمدّ لي طريقَ المقبرة
والقمرُ المريضُ والدّجى
أكتبُها وصيّةً لزوجتي المنتظرة
وطفليَ الصارخِ في رقادِهِ: أبي.. أبي
تلمُّ في حروفِها من عمريَ المعذّبِ