نَجيب البْعَيْني (1936-2018) شاهدٌ أمين على مناحٍ أساسٍ من ثقافةٍ عصره (الحلقة الثانية والأخيرة)

الدكتور وجيه فانوس

انخرط «نجيب البْعَيني» في سِلْكَي التَّدريسِ والصَّحافة معاً؛ فبدأ عمله، سنة 1962، مُدَرِّساً في «مدرسة جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في منطقة «الحرج»، من مدينة عاصمة لبنان؛ كما عُيّن، سنة 1963، للتَّدريس، في «المدرسة الوطنيَّة»، في منطقة «فرن الشُّبَّاك» من هذه العاصمة؛ كما شَغِلَ، لاحقاً، وظيفةً في «شركة طيران الشَّرق الأوسط» اللُّبنانيَّة.
كان قد سَبَقَ لـ «نجيب البْعَيني»، منذ سنة 1958، وهو لا يزال تلميذاً في المرحلة الثَّانويَّة، أن بدأ نشاطه الصَّحافي؛ فعملَ مراسلاً لمجلَّة «الأحد»؛ ومع ازدياد منشوراته، واشتهار اسمه بين أهل الصَّحافة ومتابعيها، فإنَّه نشرَ، خلال سنيِّ عمرِه التَّالية، مقالاتٍ عديدةٍ له وخواطرَ كثيرةٍ، في الصُّحف والمجلات التَّالية: «الأماني» و«الكفاح العربي» و«التَّلِّغراف» و«الحديث المصوَّر» و«الخواطر» و«الجمهور الجديد» و«الشِّراع» و«اللِّواء» و«النَّهار» و«الدِّيار» و«السَّفير» و«الأنوار» و«النَّهار العربي والدَّولي»، وسواها.
كانت لـ «نجيب البْعَيني» نشاطات أدبيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة متنوِّعة؛ فبالإضافة إلى مقالاته الصحفيَّة ومحاضراته الثقافيَّة وأحاديثه الأدبيَّة، كان له دور في تأسيس عدد من الأندية والجمعيَّات والمؤسَّسات الثقافيَّة في بيروت و«الجبل؛ ومنها «نادي الشَّبيبة السِّياحي»، وقد ترأسه سنة 1962، و«النَّادي الثَّقافي الاجتماعي»، في بيروت، سنة 1963؛ كما كان عضوا مؤسِّسا في «الحركة الاجتماعيَّة» مع «الأب غريغوار حدَّاد» وعضواً في «لجنة مهرجانات الشُّوف»، التي ترأسها سنة 1964، وقد سعى، من جهة أخرى، إلى تأسيس «مجلس إنماء قضاء الشُّوف»، وكان رئيسه، وتمّ تجديد انتخابه رئيساً له في سنة 2011.
وضع «البْعَيْني» أوَّل كتاب له سنة 1963، وكان مجموعة قصصيَّة بعنوان «دموع الوداع»، ثمَّ صدرت له، سنة 1965، رواية بعنوان «ثمن الخطيئة»، وتلا هذا ثلاثة كتب في الشَّأن السِّياحي، «تذكرة سفر إلى لبنان»، سنة 1971 و«رحلة إلى لبنان»، سنة 1972 و«رفيق السَّائح»، سنة 1973، والكتابان الأخيران نشرا باللغة الإنكليزيَّة. أصدر البْعَيني، سنة 1975، كتابا لتعليم اللُّغة العربيَّة للأجانب، وسنة 1984، مجموعة قصصيَّة بعنوان «الحي الغربي». نشر، «البْعيني»، سنة 1984، الجزء الأوَّل من كتابه «رجال من بلادي» والجزء الثَّاني منه سنة 1986؛ ثمَّ نشر سنة 1987، كتابه «شعراء من جبل لبنان». وتوالت كتب «نجيب البْعَيني»، منذ مطلع تسعينات القرن العشرين في الصُّدور، ومنها: «أمين تقي الدين»، 1990، «شعراء عرب معاصرون»، 1991، «أمير البيان شكيب أرسلان ومعاصروه»، 1994، «طرائف الشُّعراء في مجالس الأدباء»، 1996، «من آثار أمير البيان شكيب أرسلان»، 1996، «من شكيب أرسلان إلى كبار رجال العصر»، 1998، «معجم المؤلِّفين في الشُّوف والمتنين من قضاء عاليه»، بالاشتراك مع الأستاذ «محمَّد خليل الباشا»، سنة 1998، «صحفيَّات لبنانيَّات رائدات وأديبات مبدعات»، 2008، «موسوعة الشُّعراء العرب المعاصرين»، 2008، «أسرار ثورة بشامون في مفكِّرة سفير»، 2011، «شعراء الفصحى»، وسوى ذلك من الأعمال.
انتهت رحلة نجيب البعيني على هذه الأرض يوم الثلاثاء الواقع فيه ١١ كانون الأول ٢٠١٨؛ إذ صلِّي على جثمانه الطَّاهر في مسقط رأسه «مزرعة الشوف»، ووري الثَّرى في البلدة التي شهدت ولادته قبل اثنتين وثمانين سنة.
«نجيب البْعَيْني» ما كان إلاَّ بالكتابة؛ مارَسها عشقَ وجودٍ متميِّزٍ راقٍ، وتعبيرَ حقيقةِ عيشٍ يرتقي فيه العقلُ إلى مصافِ الرُّؤى، وتسمو به العاطفةُ إلى ذرى قداسة الإحساس والألق المعطاءِ لفيوضاتهِ؛ فلم ينل النَّاس منه سوى روعةَ تأليفٍ وغنى معرفة. ولعلَّ الكتابةَ تفخرُ، بين إبداعاتِ النَّاسِ في حِقَبِ التَّاريخ، بأنَّ نجيب البْعَيْني قد انتقاها وسيلةً للتَّعبير عن وجودِهِ ولعيشهِ هذا الوجود؛ كما أنَّ نجيباً طالما احتفل بالكتابةِ حتَّى وصل معها وبها إلى مطلقٍ في العِشقِ لا ينتهي العيشُ به أبدا؛ ولطالما ازدهى بأنَّه عشقَ الكتاب حقيقة وجودٍ حتَّى ثُّمالة ما في العشقٍ من ذوبانٍ بين العاشقِ والمعشوق.
يروي «نجيب البْعَيْني»، كما يقصُّ، عالماً عاشه أو تخيَّله؛ وفي روايته، كما في قصِّه، جوهرُ واقعٍ، يستغلُّ نجيبٌ صدقيَّته، ليرقى بها إلى مِثال يحلمُ به واقعاً؛ ولا يكون هذا إلاَّ بفنيَّةِ عرضٍ تزهو بجماليَّاتِ تعبيرٍ وأناقةِ تصويرٍ وسلامةِ أداء. ولقد وضع البْعَيْني، كذلك، معاجم سِيَرِ كثيرين ممَّن أعجب بأعمالهم أو عاش وإياهم أو عرفهم؛ وديدنه في معجماته هذه، والتي تقدِّم زاداً خيِّراً للتَّاريخ والثَّقافة والوطن، أن يأتي على ذِكرِ من يترجم لهم بصدقٍ شفَّاف؛ لا تفتأ شفافيَّته تتجلبب بحياء الأدب ونُبل الأخلاق وجميل القول. وهكذا، حفظ نجيب البْعَيْني، للتَّاريخ الثَّقافي الوطنيِّ، سِيَر كثيرين ممَّن إذا ما تجاهلتهم الأيام، أو أنكرتهم الحدثان، كان لهم في معاجم نجيب البْعَيْني خير حافظ لعطاءاتهم ونِعم المذكِّر بالطيِّب من أعمالهم.
إنَّ عِشْقَ «نجيب البْعَيْني» للكتابةِ وتبتُّله في محرابها، دفعا به إلى وضع المقال الصَّحفيِّ الآنيِّ في إطار أدبيٍّ جماليٍّ؛ بيدَ أنَّه إطارٌ لا يُشغل العَقلَ عن غاية الصَّحافة في النَّقل السَّريعِ للمعرفة، ولا يُهمل دقَّة التَّعبير وجماليَّاته بالعربيَّة الغرَّاء على الإطلاق. فأتت كتابات البْعَيْني، في هذا المجال، فَرَحاً للصحَّافة وعِزَّةً للأدب على حدٍّ سواء.
—————-
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية