دراسة تحليليّة ل قصيدة “زهرة المانوليا” للشّاعر اللبنانيّ: محمد إقبال حرب
دراسة تحليليّة ل قصيدة “زهرة المانوليا” للشّاعر اللبنانيّ: محمد إقبال حرب
النّاقدة أ. ميّادة أنور الصعيدي
زهرة المانوليا من أزهار الزينة وتتميّز برقّة وريقاتها وبلونها الأبيض وعطرها الفوّاح[1]، ولقد أحسن الشاعر إذ وصف القاصرة بزهرة المانوليا، بحيث أضفى عليها مزيدًا من الرّقة والبراءة، وأكّد أنّ هذه الخصال لم تشفع لها عند مجتمعها الذي يدفع بها إلى الزواج في سن مبكّر، ويرمي بها في غيابات الشّراهة الجنسيّة.
تعتبر ظاهرة زواجُ القاصرات من الظواهر الاجتماعيَّة السّلبيَّة في المجتمعات العربيّة، وهناك أسباب عديدة وراء زواج القاصرات كـ “الأوضاع والظروف الاقتصاديّة السائدة، إضافةً إلى الجهل المتفشّي في المجتمعات حول عواقب ومخاطر هذا الزواج، فعدم الوعي الفكري، وعدم إدراك تبعيّات هذه الظاهرة، وفهم الأمور بصورةٍ مُغايرة لما هي عليه في الواقع، وذلك من اختلال اعتقادهم بأنّ زواج الفتيات القاصرات هو تحصين لهُنّ…[2]“، والواقع هو تدميرٌ نفسيّ وصحيّ، وهناك العديد من حملات التوعيَّة في البلاد العربيَّة[3] التي تركز على المخاطر الصحيَة، والاجتماعيَّة، والنفسيَّة، والحقوقيَّة، لزواج القاصرات على الفرد والأسرة والمجتمع، وحملات التوعيَّة تستندُ في تقاريرها على أحداثٍ واقعيَّة مسجلة حول مخاطر الزواج والانجاب المبكر في المجتمعات العربيّة، وما يسببه من مضاعفات سلبيَّة على القاصرات أثناء الحمل والولادة أو قد يؤدي إلى الوفاة أحيانًا، ومن هنا كان الشّاعر محمد إقبال حرب عينُ الحقيقة، يكشف مخاطر هذه الآفة ويحذّر منها.
ولكن لم يكن هدف الشاعر أن يعدّد أسباب زواج القاصرات بالقدر الذي كشف فيه عن أولئك الملوّثة أيديهم بهذه الجريمة، ومخاطرها على القاصرة بأسلوبٍ فنّيٍّ راقٍ. يقول: “سطا عليها بحفنة من دراهم/ دفعها لأب باعها دون بكاء“. يكشف الشاعر عن حجم الخسّة والدّناءة من الأبّ الذي باع فلذة كبده دون مبالاة، فقوله: “دفعها لأب باعها دون بكاء” كناية عن التجرّد من مشاعر الأبوّة، ويمكن التّأكيد على بلاغة توظيف لفظ “سطا” بدلًا من البدائل الأخرى ك: سرق، استولى، حاز ؛ ذلك لأنّ السطو يكون بالإغراء، وقد يأتي بالاتّفاق؛ ذلك لأنّ عمليّة السّطو تمّت بموافقة الأبّ عن طريق إغرائه بالمال، فما حمله لفظ “سطا” للسياق يجعل من الصعوبة استبداله بلفظ آخر من قائمة البدائل.
ولقد وظّف الشاعر البيان في عدّة مواضع؛ ليعمّق الأسى في قلوب القرّاء على تلك البراءة، ويزيد من نقمهم لكلّ أشكال الغدر لها. فقوله: براءة السماء كنايةٌ بعلو درجة البراءة واتّساع حجم الغدر لها. وفي “كطير ذبيح” تشبيه القاصرة التي يزجّ بها في قفص الزواج بالطائر الذبيح، ثمّ إنّ لفظ “الذبيح” فيه مبالغة مناسبة للسياق؛ للدّلالة على عظم حجم الألم الذي رافق شدّة الظلم وكثرة مرتكبيه.
وفي “انتزعها من غصنها بشراهة اللقاء” تعبيرٌ يوحي بعدم التّكافؤ بين الطّرفين “الظالم، والمظلوم” في القوّة. في “”انتزعها من غصنها” استعارة تصريحيّة؛ إذ شبّه القاصرة بعصفورة تؤخذ بعنفٍ من حُلمها الأثير “كاللعب في الدُمى”؛ بحيث حذف المشبّه وصرّح بشيءٍ من لوازم المشبّه به “الغصن”. ولعلّ القارئ يدرك بشاعة الموقف من لفظتي “انتزعها.. بشراهة” فالانتزاع توحي بشراسة الأخذ مع كراهية الطّرف الأوّل، والشَّرِه هو النّهمُ الجشع، ذو الشَّبَق اللا حدود له، والمتعطّش للمزيد دائمًا.
ويبدو أنّ الشّاعر اقتفى أثر المقارنة في التّصوير؛ ليضع طرفي الصّراع “القاصرة، والشّرِه” نصب عيني القارئ؛ في دعوةٍ وتوجيه لاتّخاذ موقف إيجابي من ظاهرة “زواج القاصرات”. يقول: “تكوّرت على بتلاتها … خوفاً على استحياء/ ثارت رجولة النخاس… فافترسها أخرى/ وغرس أنيابه في جسد براء/ تهاوت الأنثى/ هتك الكبرياء/صراخها لم يشفع وحشية اللقاء”. ويبدو جليًّا تلك المفارقة التّصويريّة للطّرفين، فالبراءة مقابل الدّناءة، والخوف مقابل العنف، والأنوثة مقابل الفحولة، والفريسة مقابل شراسة المفترس، والمقهورة مقابل المتسلّط.
وفي توظيف الأفعال الماضية والمضارعة؛ إيحاءً مدهشًا بما كانت عليه القاصرة وبما أصبحت عليه، وفي “تكوّرت، تهاوت” تأكيدٌ على حجم المعاناة المستمرة التي وقعت على عاتق القاصرة.
ومن زاويةٍ أخرى يقف القارئ مندهشًا من تلك الصّياغة العجيبة، والتّفنّن في السّرد بلغةٍ شاعريّةٍ مثيرة، بحيث راح يتأمّل تلك اللّقطات الأشبه بتقنيّة “الفلاش” لتناسب أسلوب التّكثيف في الشّعر؛ ولتساهم في استقطاب أذهان القرّاء ومن ثمّ حشد تفاعلهم، ذلك لأنّ تعدّد لقطات “معاناة القاصر مقابل شراهة الفحولة” تصعّد تأزّم الحدث ووتيرة التّفاعل؛ كون أنّ المشهد العام مُسْتَوْحَى من نبض الشّارع العربيّ، وهموم النّاس البسطاء ودناءة الأثرياء، يقول: “يا لحقارة من باع فلذة الكبد/ جريمة ليس لها فداء/.. وأدوا طفلة في لحد بلاء”. وهذا التّفاوت المستبطن في البنية العميقة للنّصّ يخلق صراعًا داخليًّا في نفس القارئ، وهذا بحدّ ذاته ما سعى إليه الشّاعر؛ كي يضعهم في صورة الموقف ويثير اشمئزازهم اتّجاه هذه الآفة اللّعينة والقائمين عليها. يقول: “أب…. أم … اخوان وأقرباء.. يا لرجال الدين من عقود النكاح../ خِتم بيد ناعمة يجرّه قلب من حجر”.
لقد وظّف الشّاعر أسلوب التّعجّب بقوله: “ يا لرجال الدين من عقود النكاح” وغرضه الانكار من فعلهم المشين الذي لا يمسّ إلى الدين بصلة. وفي قوله: “يا لضمائر البشر يوم أضحت كحذاءِ” احتقارٌ للضمائر الميّتة. وفي قوله: “اصمت أيها القضاء/ فليصمت السفهاء” أسلوب أمر غرضه الزّجر والنّهي عن الكلام، مع التّأكيد على اشمئزاز الشّاعر من أفعالهم؛ إذ لم يعد هناك متّسعًا للحوار.
ويمكن للمتمعّن في ألفاظ الجمع: “ضمائر، أعراض، القضاء، السفهاء، رجال، عقود” يوقن تمامًا مدى تفشّي آفة “زواج القاصر” في الثقافات العربيّة، علاوة على دعمها من قِبل مسؤولي البلاد، الذين نعتهم بــ “السّفهاء” وهم الجاهلون الطّائشون وناقصو العقل والإيمان؛ لأنّهم بفعلتهم قد أرجعوا ثقافة العروبة إلى حمق الجاهليّة ورعنها. يقول: “يتاجرون بغشاء البكارة/ يفرحون بالقتل والشواء”
ومن الجدير بالذّكر أنّ الشّاعر قد وظّف القافية الممدودة بروي الهمزة السّاكنة؛ كقوله: “استحياء ، السماء، بكاء، للعشاء، اللقاء، دماء، براء، حذاءِ، البلاء، والشواء، النقاء، السفهاء، القضاء، فناء”. وهذا مناسب تمامًا للسّياق؛ فالقافية الممدودة “بالألف” لمدّ الصّوت والتّعبير عن آهات القاصرة وأوجاعها، في إشارة لرفض الشّاعر هذه الآفة؛ لذلك فهو يتّخذ من الألف إطلاقًا لاعتراضه. وفي ورود الهمزة السّاكنة كروي دلالةٌ قويّة للضّغط النّفسيّ والجسديّ اللّذين تعيشهما القاصرة في زواجها المبكّر، فلصوت الهمزة قوّةٌ انفجاريّة؛ توحي بالبروز والنّتوء، ولأنّ الألف صوت سمعي، والهمزة حرف بصري[4]؛ فإنّ الشّاعر أراد أن يقرع آذان ذوي الشّأن؛ لافتًا أنظارهم إلى ذلك الخطر المتفشّي والمحدق بالقاصرات من بنات العروبة؛ لعلّهم يعقلون وإلّا فــــ {لَهُم قلوبٌ لا يَفْقَهُوْنَ بِهَا ولَهُم أَعْيُنٌ لَاْ يُبْصِرُوْنَ بِهَا، ولَهُم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَاج، أُولَئِكَ كَالْأَنْعَاْمِ بَل هُم أَضَلّج أُولَئِكَ هُم الْغَاْفِلُوْن}(الأعراف 179)