مُحَمَّد بَرَكات عَميدُ الخَيْرِ العَرَبِيِّ (الحلقة الأولى)

الدكتور وجيه فانوس

لَطالَما تَرَدَّدَ اسمُ «مُحمَّد بَرَكات»، على مَسامِعي، منذُ كُنْتُ فَتَىً يافِعاً، في السَّنوات الأخيرةِ مِنْ سِتِّيناتِ القرنِ العِشرين؛ وكيفَ لا، و«محمَّد بركات»، كانَ، آنَئِذٍ، مُديرَ «دارِ الأيتامِ الإسلاميَّةِ»، الذي تحوَّلت تلكَ الدَّارُ، في عَهْدِ إدارتهِ، التي امتدَّت حتَّى مَطْلَعِ العقدِ الثَّاني مِنَ القرنِ الحادي والعِشرين، مِن مُؤسَّسةٍ تَجْهَدُ في إيواءِ أطفالٍ بؤساءٍ، أصابَهُمُ الدَّهرُ بالفَقْرِ واليُتمِ والعَوَزِ؛ إلى مُؤسَّسةٍ تَزْهو بأطفالِها هؤلاءِ، وقد صاروا يَغْمرونَ المُجتمعَ بِحضورٍ لَهُم باسِمٍ، ويُثْرونَ ساحاتِ هذا المُجْتَمَعِ وسائرِ أماكِنِه العامَّة، بأشغالٍ فنيَّةٍ مِنْ صُنْعِ أنامِلِهِم وجمالاتِ مُخيَّلاتِهم. واقعُ الحال، إنَّ اسمَ الأُستاذ «مُحَمَّد بركات»، تَرَسَّخً في بالي اليافِعِ، زَمَنَئذٍ، إذْ أحدثَ تقليداً اجتماعِيَّاً غمرَ الحياةَ الاجتماعيَّةِ في «شهر رَمَضانَ»، مِن كلِّ عامٍّ؛ إذْ جعلَ مِن «دارِ الأيتامِ الإسلاميَّةِ»، مؤسَّسةً اجتماعِيَّةً تَستقطِبُ المُجتمع في لبنانَ، بِرُمَّتِهِ، بسِياسِيُّهِ، ووجهائِهِ، وجَميعِ فِئاتِ ناسِهِ، على تَنَوُّعِ مُعتقداتِهِم الإيمانيَّةِ والدِّنِيَّةِ، واختلافِ توجُّهاتِهم السِّياسيَّةِ، بَلْ وتعدُّدِ مستوياتِهم الاجتماعِيَّةِ وتباينِ حظِّ كُلٍّ منهم في امتلاكِ الثَّرواتِ أو الاقتِناعِ بالسَّترِ المادِيِّ، يتنافسونَ على حضورِ مآدِبِ الإفطارات الرَّمضانيَّة، التي كانَ يُقيمُها لِدَعْمِ «مُؤسَّساتِ الرِّعايةِ الاجْتِماعِيَّةِ»، والتي كانت تُعْرَفُ باسمِ «مؤسَّسةِ دارِ الأيتامِ الإسلامِيَّةِ»، وتعزيزِها وإغناءِ حضورِها الاجتِماعِيِّ والثَّقافِيِّ الإيجابِيِّ.
كنتُ، زمنئذٍ، أُعْجَبُ بِما يقومُ بهِ «الأستاذ بَرَكات»، بِتَحويِلِهِ «دارَ الأيتامِ الإسلاميَّةِ» مِنْ مُؤسَّسةٍ تُؤْوي أطفالاً بائسينَ، وتَسْعى إلى أنْ تُحَصَّلَ ما يَسُدَّ كلفةَ عَيْشِهِم بِرِعايَتِها، مِن تَبَرُّعاتٍ ماليَّةٍ تُجْمَعُ مِن النَّاسِ، عن طريقِ التِماسِ ما يَتَيْسرُ مِنْ أموالِ الزَّكاةِ أو ما تسمحُ بهِ نفوسُ الخيرينَ مِنَ الصَّدقاتِ؛ والأَنْكى، أنَّ بعضَ هذا التَّمويلِ كانَ يأتي عن طريقِ تَسْخيرِ هؤلاءِالأطفالِ الأيتامِ مهمَّةَ السَّيرِ بانكِسارٍ حَزينٍ، أمامَ النَّعشِ، في مَواكبِ تَشْييعِ بعضِ الأمواتِ مِن المُوسِرِينَ؛ وكأنَّ بعضَ ذَويهِم، عبر هذا الحضورِ في الجنازةِ، كانَ يَبغي كَسْبَ مظاهِرَ وجاهةٍ لأنفُسِهِم ولأمواتِهِم، بالإيحاءِ أنَّ هؤلاءِ الأيتامِ إنَّما يُساهِمونَ، بِسيْرِهِم في الجَنازةِ، بإبداءِ الشُّكرِ لِما يُقَدِّمُ إليهم مِن عَوْنٍ عَنْ رُوحِ المُتَوَفَّى.
ما كنتُ أنظرُ، مذذاكَ العَهْدِ، إلى «الأُستاذِ محمَّد بركات»، إلاَّ على أنَّهُ ساعٍ في مَناكِبِ إحداثِ تَطوُّراتٍ إيجابيَّةٍ بنَّاءةٍ في العقليَّةِ المجتمعيَّةِ للنَّاسِ؛ وأنَّهُ، كذلكَ، صاحبَ رسالةٍ تُؤمِنُ بِضرورةِ الارتقاءِ بالمجتمعِ وقِيَمِهِ، بما يحفظُ الكرامَةَ الإنسانيَّةَ، ويُعلي مِن شأنِ الإنسانِ، خاصَّةً إذا ما كانَ هذا الإنْسانُ قد ابْتُلِيَ بِضائقةٍ وعُسْرٍ وبؤسٍ جَرَّاء اليُتم.ظَلَّ يَحُزُّ في نفسي، أنَّ ظروفَ الحياةِ لمْ تَسْمَحْ لي، وقتذاكَ، بالتَّعَرُّفِ الشَّخصيِّ على «الأستاذ بركات»، خاصَّةً وأنِّي كُنْتُ أعيشُ، منذ منتصفِ سبعينات القرنِ العشرين، وحتَّى مطلَعِ ثمانيناتِهِ، في إنكلترة عامِلاً على تَحضيرِ أطروحتي لِنَيْلِ الدُّكتوراه من «جامِعَةِ أكسفورد».
تدورُ الأيَّام، وأعودُ إلى لبنان، أستاذاً جامِعِيَّاً؛ وتربُطُني، طبيعةُ الأبحاثِ والنَّدواتِ والإنشغالاتِ التي كُنْتُ أعملُ عليها، بصداقةٍ ومودَّةٍ ورِفْقَةِ فِكْرٍ ومشارَكَةِ اهتِمامٍ وطَنِيٍّ، بالرَّاحلِ العزيزِ، «الدكتور حُسَين قُوَّتلي»؛ الذي، فضلاً عن كونه، عَهْدذَاكَ، المُديرَ العامَّ لـ «دارِ الفَتْوى» في االجمهورِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ؛ كانَ، أيضاً، ذا تَوَجُّهاتٍ فِكْرِيَّةٍ وثَقافِيَّةٍ لَفَتَت إليها الأنظارَ، كما كانَ يُمَثِّلُ مَنْحىً وَطَنِيَّاً عُروبِيَّاً في لبنان، ما كُنْتُ، شَخْصِيَّاً، بالبَعيدِ عَنْهُ على الإطْلاقِ. وكانتَ بَيْني وبَيْنَ العزيزِ الغالي، «الدكتور حُسين»، (أبي بشَّار) جلساتُ فِكْرٍ وثقافةٍ عديدةٍ، كما كانت بَيْننا، كذلكَ، نِقاشاتٌ ومطارحاتٌ لا حَصْرَ لها في مَجالاتِ السَّعي إلى النُّهوضِ الثَّقافيِّ والاجتِماعِيِّ بِبيئاتِنا. أَذكُرُ أنَّنَي، كُنتُ ذاتَ مَرَّةٍ، في خِضَمِّ نِقاشٍ عميقٍ، مع «الدكتور قُوَّتْلي»، في ضرورةِ العملِ على تغييرِ النَّاسِ لِتَقليدٍ اجتِماعيٍّ معيَّنٍ في حياتِهِم، لم يَعُدْ، في سِياقاتِ الحياةِ التي نعيشُ، غَيْرَ ذي دلالةٍ عملِيَّةٍ، بِقْدْرِ ما صارَ شديدَ الإعاقَةِ في تحقيقِ مجالاتٍ إيجابيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ مِن العَيْشِ الإنسانيِّ المُعاصِرِ. وهنا، يَتَوَقَّفُ، «أبو بشَّارٍ» عن النِّقاشِ فجأةٍ، ويتوجَّهُ إليَّ قائلاً، هذه القضيَّةُ ليسَ لَها، ولِأمثالِها، سوى «محمَّد بَرَكات». وما كانَ مِن «الدكتور قُوَّتْلي»، إذ سَأَلْتُهُ مُسْتَفْهِماً عَن مَوْقِعِ «الأستاذِ بَرَكات» مِنْ مَوضوعِنا، إلاَّ أنَّ بادرَ إلى القَوْلِ، «مُحَمَّد بركات، إنسانُ التَّحدِّي، بل إنسانُ تحدِّي المستحيلات»؛ وهنا التَفَتَ، «أبو بشَّار»، مُشيراً إلى أحدِ جدرانِ الغُرْفَةِ التي كُنَّا فيها، قائلاً، «لَوْ رأى مُحَمَّد بَرَكات، وهُوَ أَخي وصَديقي ورَفِيقي مُنْذُ سِنينَ عَديدةٍ جِدَّاً، أنَّ مِنَ الضَّروري أنْ يَعْمَلَ على هذا الجِدار الأَصَمَّ لِيُحَوِّلَهُ إلى شارِعٍ عَريضٍ، تَعْبُرُ عَلَيْهِ السَّيَّاراتُ والحافِلاتُ جِيئَةً وذَهاباً، وتَمْشي فوقَ رصيفِهِ أرتالُ النَّاس صُبْحاً ومَساءً؛ لَتَمَكَّنَ، بِحِكْمَتِهِ وكَدِّهِ وإصرارِهِ، مِنْ أنْ يَجْعَلَ مِنْ هذا الجِدارَ، ليسَ شارعاً وَحَسْب، بل «أوتوستراد دُوَلي».
إضطُرِرتُ وكانَ معي كثيرين من أهل بيروتَ، في منتصفِ ثمانيناتِ القرنِ العشرين، جرَّاء ما عاناهُ كلٌّ واحدٍ منَّا، من الوضع الأمنيِّ القاسي الذي تعرَّضت لهُ المدينةُ، إلى الانتقالِ للسُّكنى في «دوحةِ عرمون»، وكانت زمنئذٍ، منطقة هادئةً تبعد زهاء 20 كلم عن العاصمة. كانَ العملُ جارِياً، وقتذاكَ، في «الدَّوحة» على إعادةِ بناءِ مُجَمَّعٍ كَبيرٍ لـ«مُؤسَّساتِ الرِّعايةِ الاجْتِماعِيَّةِ»، والتي طالما عرِفناها، مِنْ قَبْلُ، باسمِ «دارِ الأيتامِ الإسلاميَّةِ»؛ وقَدْ سَبَقَ أنْ تَهدَّمَ هذا المُجَمَّعُ بفِعْلِ القَصْفِ المُجْرِمِ الذي وجَّهَتْهُ إِلَيْهِ القوَّاتُ الصُّهيونيَّةٌ الغاصبةُ، إبَّانَ مُحاوَلَتِها اقْتِحامَ لبنان سنة 1982. وكانَ أنْ تَمنَّتْ عليَّ مجموعةٌ كريمةٌ، في طليعتِها الأخُ العزيزُ الحاج سُهَيْل مُكَحَّل، وهُم مِنَ البَيارِتَةِ الذين اختاروا «دَوْحَةَ عَرَمُونَ» مَكاناً لِسُكْناهُم، أنْ أُلْقي في الاحتِفالِ، الذي سيُقامُ لمناسبةِ افتِتاحِ هذا المُجَمَّع لـ «دار الأيتامِ الإسلاميَّةِ» كلمةً باسمِ الأهالي، وذلكَ من بابِ شدِّ عرى الأخوَّةِ الإنسانِيَّةِ وتوثيقِ والتَّعاونِ الاجتماعِيِّ بين ساكني تلك المنطقةِ وإدارة المُجَمَّعِ. وما كانَ مِنِّي إلاَّ أنْ وافَقْتُ، فخوراً، على طلَبَهِم هذا، خاصَّةً وأنَّهُمْ أَبْلَغوني أنَّ الإدارةَ القائمَةَ على شؤونِ «المُجَمَّع»، راغيةٌ في هذهِ المشاركةُ من قِبَلِ الأهالي؛ بَيْدَ أنِّي ما لَبِثتُ، آنَذاكَ، أنْ ازدَدْتُ سعادَةً وألقاً، حينَ عَلِمْتُ مِنْ هذهِ المَجْموعةِ أنَّ «الأُستاذ مُحَمَّد بركات»، مديرُ مؤسَّساتِ الرِّعايَةِ الاجتِماعيَّةِ»، لَنْ يكونَ حاضِراً لحَفْلِ الأفتِتاحِ هذا وحسب، بَلْ سيكون المُشْرِفَ على تفاصِيلِهِ ودقائقِ تنفيذِها. كانتْ تِلكَ فُرصتي الأُولى، لِأَلْتَقي «الأُستاذ بركات»، وَجْهاً لِوَجْه.
(وإلى اللقاء مع الحلقة الثانية من «عميد الخير العربي»)
—————-*
رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية