أدب وفن

حكاية عن (الوصية و البندقية)(لمناسبة الذِّكرى التاسعة والثلاثين لوضعه آخر قصيدة له)

الدكتور وجيه فانوس

             حِكَايَةٌ عَنِ

         {الوَصِيَّةِ وَ البُنْدُقِيَّة}

(لمناسبة الذِّكرى التاسعة والثلاثين لوضعه آخر قصيدة له)

  أُعْلِنَ لُبنان دولة مستقلة، و لحقت به دول عربية أخرى، تخلَّصت من السَّيطرة المباشرة للحكم الأجنبي على أراضيها؛ و كان هذا في أربعينات القرن العشرين. أرض فلسطين، وحدها،  لم تحظْ بمثل هذا الاعلان؛ فكان التَّقسيم، وكانت حرب 1948، وكان العمل على اعتبار الموضوع الفلسطيني القضيَّة الأساس  للعرب، و الأكسير السِّحري يشربونه فعل تحقيقٍ لوجودهم ولاستمرار حياة الأمة العربية.

          كانَ، في هذه المرحلة، رجلٌ انطلق من قرية لبنانية  جبلية، يبحث عن معنىً لوجوده و عن هدف لحياته. لم يكن أيُّ  أمرٍ جليّ في بال هذا الرجل؛ إنَّما موضوع السِّعي إلى تحقيق  معنى الوجود، كان الهاجس الوحيد المسيطر على كيانه. سعى  الى تحصيل العِلم، غير أنَّ الحياة فجعته بمطالبها المعيشية الملحَّة؛ فأضاف الى سعيه الأوَّل سعياً جبَّاراً لتحصيلِ الرِّزق. عمل الرَّجل في كثير من المِهن اليدويَّة، التي أمَّنتها له  بيئته الجبليَّة: صَقَبَ الصُّخور تحضيراً لاستخدامها في البناء، و تأهيل أرصفة شوارع المُدُنِ والقُرى، و عمل  في البناء، كما عمل اسكافيَّاً؛ وكان، اضافةً الى كل هذا، يُثابر على التَّحصيلِ العِلميِّ و ينظم الشِّعر.    

          أحبَّ الرَّجل وعَشِقَ. تشاجر، في طفولته، مع الذين  كانوا يحاولون تحقيراً لِمذهب أهله الدِّيني؛ وبرز، في صباه، وجودا مميَّزاً بين أقرانه  وناسه. توصّل الى النَّجاح، في امتحانات البكلوريا اللبنانيَّة؛ و توصَّل، بعدها، الى الالتحاق بالجامعة الأميركيَّة  في بيروت، طالبا يدرس الفلسفة.    وجد في المباديء الفكريَّة التي أعلنها  أنطون سَعادة، ابن قريته  الجبليَّة، أجوبةً كثيرةً، عن أسئلة طالما كانت  هاجسه في البحث عن معنى وجوده وهدف حياته. أدرك أنَّ الانسان لنفسه من خلال ناسه،  ولناسه من خلال ترقية نفسه بهم ومعهم. وعَلِمَ أنَّه لا بدَّ من وعي وثقافة وعِلم  ومبادرة، من  أجل تحقيق هذه الأمور. ثم حصلت أمور كثيرة، دفعت بهذا  الرَّجل إلى الرَّحيل عن الجماعة التي التقى معها حول  مباديء و أفكار أنطون سعادة. وسنحت الفرصة لأن  يسافر هذا الرَّجل الى انكلترة، ليحصّل درجة الدكتوراه في واحدة من كبريات جامعاتها.

          تعرّف في انكلترة على آخرين، من تلك الدول العربيَّة التي حصّلت اعلاناً لاستقلالها و لخلاصها من نير الحكم الأجنبي.  رأى الرَّجل أنَّ هؤلاء هم ناسه أيضا، وأنهم، كما ناسه في قريته أو في لبنان، يعانون الأمور عينها، ويقترب بعضهم من بعضهم الآخر عبر هذه المعاناة. رأى أنَّه ينتمي مثلهم إلى تراث واحد عريق، هو التُّراث العرب، وأنًّه مثلهم يرى في فلسطين قضيَّة أساسا للعالم العربي، ابن هذا التُّراث الحضاري الذي يضمهم جميعا على اختلاف أديانهم   ومذاهبهم.

          و كان الاعتداء على مصر اثر قضية قنال السُّويس. ورأى الرجل أن الذين في السُّويس بل في مصر كلها ليسوا  غرباء عنه؛ انَّهم مثله، أبناء هذا الإرث الحضاري العربي. وراجع الرَّجل المباديء الأولى التي أنطلق تفكيره السِّياسي والحضاري منها؛ فوجد أنَّ بامكانه أنْ يرى العرب، كلّ العرب، ينتظمون فيما كان يرى فيه ناسه الذين يتحقق وجوده بهم. ورأى أنَّ بأمكانه أنْ يكون أكثر غِنىً في نفسه من خلالهم، وأنَّه سيكون أشدَّ قدرة على التَّعاطي معهم من خلال التحامه بهم.

          أصبح الرَّجل مؤمناً بما عُرف بين النَّاس بالفكرة  القوميَّة العربيَّة؛ لكنَّه لم يشأ أنْ يكون فيها الاّ من خلال رحابها الواسعة؛ ولم يرض أن يدخل اليها، و فيها، من تلك الأروقة الفكريَّة الضَّيقة، التي كان بعض ناسها يسلكونها  اليها.

          شغلت فلسطين هذا الرَّجل كثيرا؛ شغلته باعتبارها  قضيَّة حقٍّ،  وشغلته باعتبارها مدخل احياء حضاري. آمن أنَّ العرب مقبلون على نهضة حياتية وحضارية كبرى، و آمن أنَّ  فلسطين تشكِّل أساساً أكيداً في سلوك طريق هذه النَّهضة. كانت قد  بدأت، قبل مدَّة من الزَّمن، سلسلة من الانقلابات العسكريَّة والسِّياسيَّة، في العالم العربي باسم فلسطين، و باسم  التَّحقيق الفعلي لوجودها، فعل تعبيرٍ عن الوجود العربي.  عوقبت القيادات المتخاذلة التي استسلمت، وبات المجال مفتوحاً للقيادات الجديدة المتألمّة من واقع الهزيمة  والمفجوعةِ بالاندحار. انفعل الرَّجل بما حصل، تحمَّس له، وقال هكذا يمكن أن يكون البناء الصَّحيح. وكانت تجربة للوحدة، في هذا العالم العرب؛ تجربة سوّلت للنَّاس أنَّ شقَّ الطَّريق الحقيقي لاستعادة فلسطين وحقوقِ الانسان الذي فيها، قد بدأ فعلا. و كان انهيارٌ سريعٌ للتَّشكُّل السِّياسي لتلك الوحدة.

          أحسَّ الرَّجل بالغصَّة، أحسَّ بكثير من الخيبة، عاش وجعاً ما عرفه من قبل؛ وجعُ الدًّخول، واعياَ، إلى الموت. ثمَّة أمورٌ أخرى، ناقصة، في ذلك البناء؛ ثمَّة أمور لا يمكن للبناء أنْ يقوم بدونها. والرَّجل معماري قديم، يعرف  كيف يحضِّرُ الحَجر و يصقله، ويعرف، بعد، كيف يرصف مدماكا  تلو الآخر، حتَّى يتَّشكَّل بناء. مات الرَّجل وجعاً، بل لعله مات حقَّاً أو كاد؛ لكنَّه خرجَ من قبر الموتى، عاد الى “لعبة” الحياة.  ولعله أدرك أنَّ ثمَّة ما يمكن أنْ يكون عودة إلى حياةٍ، ثمَّة  ما يمكن أنْ يشكِّل فعل إحياء للميْت؛ طمح أنْ يكون وناسه ذلك اللّعازر الجديد. قال، بعد سنة، إنَّه عاد؛ لكن كيف عاد؟! قال لا تسألوا، يكفي أنَّها عودةٌ من غياهب الموت وتشكُّلات العَفَنِ والصَّديد:

  “جارتي يا جارتي

   لا تسأليني كيف عاد

   عاد لي من غربة الموت الحبيب”

          لعلَّ رغبته بالعودة، وشبقه الرَّائع إلى تحقيق الوجود  وتأكيد معنىً للحياة، هما اللَّذان أقنعاه بأنّه عاد؛ لكنَّه كان على وعيٍ تامٍّ بأنَّ عودته إلى الحياةِ كانت فِعلَ شوقٍ أكثر  منها فعل واقع:

  “كيف يحييني ليجلو

   عتمة غصّت بها أختي الحزينة

 دون أن يمسح عن جفنيّ

   حمّى الرعب و الرؤيا اللعينة:

   لم يزل ما كان من قبل و كان

   لم يزل ما كان:

   برق فوق رأسي يتلوى أفعوان

   شارع تعبره الغول

   و قطعان الكهوف المعتمة

          عانق الرجل الميت شوقه الى الحياة، و مضى يمشي في  رحابها. صار يفتش عن بوارق النور و ومضات الأمل. ظل يبحث  عن أحلامه/آماله/جذوره/حقيقته في وحدة عربية تحقق السعي لاستعادة فلسطين مدخلا الى الوجود العربي الصَّحيح والقوي والمُرتجى.وكان يدرك أنَّ الدَّرب قد تكون طويلة، وطويلة، إلى حدٍّ أنَّه قد لا يكون على قيد الحياة حين تحققها؛ غير أنَّهُ كان يُمَنِّي النَّفس بأنَّها قد تتحقَّق، ولذا كانت وصيّته:

  “اذا تحقَّقت الوحدة العربيَّة بعد موتي،

   أتمنّى أن يذهبوا الى قبري و ينادوا:

   تحققت الوحدة”

          عاش الرَّجل الواقعَ الذي هو فيه؛ و لعلَّه كان يُعَلِّل النَّفس أنَّ أحداً ما قد يَقْرَع لهُ حجارةَ قبره، بعد أنْ يُدفن فيه؛ ويصرخ لهُ، محقِّقا الوصيَّة. ولعلَّ القضيَّة لم تَعدُ، عنده، قضيَّةُ تُعاش، بل هي قضيَّة يُوصى بها، بعد أنْ طوَّق الوجع كلَّ جوانب وجودها في حياته. ولعلَّه كان، آنذاك، و كما قالوا، يعيش  فِعل اختلالِ توازنِ الذَّات مع الحضارة. ولعلَّه، أيضاً، كان يدرك أنَّه المَيت الذي يُمارِسُ محاولةَ التَّنفُّس بإصرارٍ، ويُدرك، في محاولتهِ هذهِ، أنَّهُ ليس سِوى مَيْت:

   “جولي سبايا الأرض

    في أرضي

    و صولي و اطحني شعبي

    جولي و صولي

    و اطحني صلبي

    لن يكتوي قلبي

    لن يكتوي قلبي و لن يدمى

    تنحل حمّى العار

    في غيبوبة الحمّى

    لن يكتوي قلبي و لن يدمى

    قلبي الأصم الأبكم الأعمى

           جالت سبايا الأرض: صالت، وطحنت؛ تعاظم معها عهر بعض النَّاس، بعض الذين عاش الرَّجل على أنَّهم  ناسه، يعيش بهم ولهم  ومنهم، فوق كلِّ عهر. ازداد وجع الرَّجل، تفاقم. أصبح الوجع مارداً مخيفاً يبتلعه في كل آن، لكنَّه  لم يكن ليميته. ولعلَّه وجد صورة واقعه في دانتي عندما  أستشهد منه:

    “رأيت في أروقة الجحيم بشرا لا يعيشون و لا يموتون“.

          ظلَّ الَّرجل يعاني الوجع؛ وظلَّ يتقوَّى برغبة رؤيةٍ تُحقِّق معنى الوجود وهدف الحياة، عبر طريقٍ يشقُّها، انطلاقاً من الجنوب اللُّبناني “مصطفىً” ممَّن أحبَّ مرَّةً لَوْ يَعبُرونَهُ جِسْراً:

  “من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

   الى الشرق الجديد

انها رغبة تُحقِّق ما أراده صيحة

  “… تفنى

   على لهب يمازج زمهرير

   يتلامع الينبوع

   خلفهما

   و يعتصم القدير

          علَّل الرَّجل نفسه بأنَّ الطَّريق من الجنوب اللُّبناني هي الأمل، هي الوعد؛ وأنَّ فلسطين ستطلُّ، من هناك، فعل حياةٍ لقضيَّة هذا الوجود العربي، الذي ما برح يقتله و يحييه في آن. أصبحت عادة عنده أن يتلفت الى الجنوب؛ أصبح  الجنوب إيمانا و أملا، و طفق ينظر أبدا الى هناك.  آخر مرة كان ينظر فيها الى الجنوب، باحثا عن اشراقة  لفلسطين، سمع هدير آليَّة عسكريَّة. توقَّف، ذهل، غمرته رعشة  قاسية، هل نفّذ أحد صرخته القديمة:

  “أنبت الصخر

  حدّق الرَّجل أكثر، وأكثر، تمعّن فيما كان يراه؛ لكنَّه لم  يُصَدِّق، لَمْ يُصدِّق أبداً أنَّ قادة تلك الآليَّات كانوا من الاسرائيليين؛ ولم يكونوا من أولئك الذين نذر نفسه “جسراً لهم. لم يعتقد أنَّ “جحيم الكوميديا” كان صادقاً و نبّوئيّاً إلى هذا الحد. لم يكن لِيُصَدِّق أنَّ عليهِ أنْ يُصدّق نفسه إلى هذا الحد. في زحمة هدير الآليَّة العسكريَّة، التي كانت قد وصلت إلى “مُثَلَّث خلدة”، حيث مدخل بيروت، بَيْرُوُتُهُ، كان القتلى؛ وفي لجَّة تكاثرهم أدرك قولا له:

  “في زحمة القتلى

   على كفن و تابوت و بئر ضيقة

   عاينت خطا يمحي

   بين الزمان و لا زمان

   عاينت خطا يمحي

   بين التوهم و العيان

   أعددت للأعمار في الدنيا

   جنائز مطلقة

  قالوا إنَّه كان، وقتذاك، يمشي في شوارعِ “رأس بيروت”، حيث كان يقيم، ثائراً، ملتاعاً، شاتما:

    “كلاب! كلاب! كلّهم كلاب

  قالوا إنَّه توجَّه الى بيت صديق له. أنشد عنده واحدةً من قصائد ديوان “من جحيم الكوميديا“، عنوانها “في الجنوب“، وقال لهذا الصديق:

    “الجنوب في قلبي. من سيمحو العار عنّي؟ الأفضل أن  أنتحر“.

  ذهب إلى حيث كان يقيم. كانت الدُّنيا ليل. أصداء هدير الآليَّات العسكريَّة، القادمة من فلسطين عبر الجنوب الى  بيروت، كانت مسموعة. لم يستطع أنْ يرى الظبّاط الاسرائيلين، الذين كانوا يقودون تلك الآليَّات،  وهم يسألونه عن بطاقة  هويَّته العربيَّة، اذا ما خرج من بيته صباحا.

          كانت السَّاعة قد قاربت العاشرة و النصف من مساء ذلك اليوم، عندما لعلع صوت خرطوشة بندقيَّة صيدٍ، كان الرَّجل يملكها مِن زمن طويل. إنَّ رصاصةَ الخرطوشة، التي أطلقها بيده، اخترقت، حسب تقرير الطَّبيب الشَّرعي، الزَّاوية بين العين اليمنى والأنف، ففجَّرت الجمجمة وعظام الجبهة، ممَّا أحدث نزيفاً داخليَّاً سبّب الوفاة.

          لعلَّ الرَّجل عرف موته منذ زمن بعيد، الاّ انَّه رفض الدخول إلى دنيا القبر. كان تَوْقُ الحياة، و الحاح البحث عن معنى للوجود و هدف للحياة، العاملين اللَّذين يدفعانه يقوَّة متأجِّجة للخروج من قبور الموت. و كانت الحياة في رحاب الموت  فعل تمزّق مستمر لديه. آمن بالقضية حتى الثمالة، ورأى أن  الدرب اليها ليس الاّ من خلال العودة الى أرض فلسطين.  فلسطين وكانت البداية، و فلسطين كانت السحر الذي سيقود الى  الوحدة؛  والوحدة كانت الطريق الأعظم لتحقيق المبدأ القائل  بأن الانسان لنفسه من خلال ناسه، و هو لناسه من خلال ترقيته  لنفسه بهم و معهم. ولمّا بدأت أسراب اليأس تعربد في ذات الرجل، تؤكد له انه لا جدوى من استمراره ليرى حلمه متحققا؛  فانه، و من خلال ما تملّكه من بحث عن الوجود و عن معنى  للحياة، التجأ الى الوصية، وصيّته، يختبيء في تجاويف  معمياتها. وظلت الوصية ترنيمة حسرة، أو هزء، أو حق  تراود نفسه. ان حصل هذا الأمر يوما، فعليكم بقرع باب  قبري، و قد يعود اللعازر هذه المرة بحق! ولعله تساءل، في لحظة صدق مهيبة، ان كان ثمة دور ما زال بامكان الوصيّة أن  تلعبه فيما أصبح مسرحية في حياته.  وكان أن دخل الناس  بيت الرجل عند الصباح. وجدوه ميتا، و وجدوا أمامه  بندقية الصيد التي نحر نفسه بها بعدما عانى ادراكا مرعبا  لهول امعانه في التجول المر في رحاب الوصية!

          ذهبوا بجثمان الرَّجل الى قريته الجبلية؛ دفنوه هناك. أُقْفِلَ باب القبر باحكام شديد. أقاموا للرجل احتفالات  تأبين و ندوات تقدير. كتبوا عن أعماله، وأفكاره، وأحاسيسه، وانفعالاته. بكوه. بكاه أحبَّته كثيرا.

          لم يمض وقت طويل حتَّى تسابق زعماءٌ عربٌ، وقادة عربٌ،  ومقاتلون عرب،  ومفكرون عرب، و مغنُّون ومطربون عرب،  الى مصافحة أمثالهم من الاسرائيليين. سقط كثير من البنادق  المحاربة؛ أصبحت كثرة من البنادق تستعمل ليقدِّم حرس الشَّرف بها التِّحية للمتصافحين من العرب والاسرائيليين. وامتدّت أيدٍ كثيرة يصافح بعضها بعضها الآخر؛ أيد لعرب، و أيد لاسرائيليين.

          الذين دفنوا الرجل، و أغلقوا باب قبره، و أقاموا  للميت حفلات الرثاء والتقدير، و أنشأوا الأبحاث، و الدراسات  حوله، مشغولون الآن في مناقشة موضوعات التطبيع مع “العدو” الاسرائيلي قبولا أو تخوفا. كثيرون منهم يظنون أنَّ أحداً لن يتجشّم عناء التوجّه الى قبر الرجل ليقرع الباب  ويصرخ: “تحققت الوحدة“.

          بدأ بعض الناس يتحدثون بأصوات شديدة الارتفاع، وكثيرة الصخب،  وعظيمة الوقار عن لقاء شرق أوسطي، وعن حضارة شرق أوسطيةَّ، و عن تفاهم شرق أوسطي، وعن ديانةٍ إبراهيميَّةٍ وعن لقاءاتٍ تنبعُ من عُمْقِ الإنسانيَّةِ.

          بدأ الذين يتحدثون عن قوميَّة عربيَّة يخفتون من أصواتهم، في بعض الأحيان. قسم آخر منهم سكت، و قسم ثالث  ألغى الحديث السياسي من وجوده، وقسم رابع بدأ يجرّب  التحدّث في الموضوعات الشرق أوسطية اياها.

          واحد من بسطاء القوم سأل، بسذاجة، هل إنَّ كلَّ هذا يحصل لأنَّ  فلسطين لم تنل ذلك الاعلان عن الاستقلال، مثل بقيَّة الدُّول العربيَّة في أربعينات هذا القرن؟!

          ترى هل لا زال ضرورياً أن نعرف اسم الرَّجل؟ هل ما برح  اسمه فعلاً مميزا لتجربة وجوده؟ هل ما زال اسم قريته الجبليَّة وشماً لا بدَّ منه لتكتمل القصة؟  تراه هل لازال  مميزا بفرديةٍ لم تكن لغيره من أبناء جيله و ناس زمنه الذين أدرك أنَّهُ  لنفسه من خلالهم، و أنَّه لهم من خلال ترقية نفسه بهم و معهم؟ 

          هل ما زلنا نلح على معرفة اسمه، ولون عينيه، وطول  قامته؟ هل ما زال الأمر ضرورياً الى هذا الحد؟

          ان كان الأمر كذلك، فانّياسمح لنفسي بالقول إنَّ الكلمات و الاشعار التي استشهدتُ بها، هي لانسانٍ اسمه “خليل حاوي”، من قرية “الشُّوَيْر”  في لبنان؛ ماتَ بطلقٍ من بندقيته، ليلة وصلت الدبَّابات الاسرائيليَّة إلى مشارف بيروت سنة 1982. وقد أجد من يقول، إنَّ هذا مجرَّد اسم عامٍّ تنطبق صفاته، بدقّةٍ، على كثيرين في هذا العالم العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى