أدب وفن

أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة (الحلقة الثانية)


تأسيس الدُّور الحكومية
(مـسجد الـمـدينـة)

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

يوم أَذِن الله، سبحانه وتعالى، للرَّسول ﷺ أن يترك “مَكَّة” مهاجرا إلى “يَثْرِب”، فإن رسول الله ﷺ كان يدرك تمام الإدراك أنَّ مرحلة جديدة من مراحل نشر الدِّين الإسلاميَّ قد بدأت. فلئن كانت “مَكَّة” مسرحا للدَّعوة إلى الإسلام، ومكانا لترغيب القبائل ووفود الحجِّ للإقبال عليه؛ فإنَّ “يَثْرِب” كانت تُعَدُّ لتكون مسرحا مختلفا، ومجالا مميَّزا، لمرحلة جديدة عظيمة الشَّان وكثيرة الأهميَّة، وشديدة التَّأثير، في تاريخ هذا الدِّين ومسيرته.
ثمَّة من الدَّارسين من يرى أنَّ الرَّسول ﷺ ترك “مَكَّة”، هذه المرة؛ وهو يدرك أنَّها مغادرة لا عودة إلى إقامة دائمة له فيها أبدا. غادر النَّبيُّ ﷺ “مَكَّة”، وقد وطّن النَّفس على البدء بمرحلة جديدة من مراحل الدَّعوة الإسلاميَّة؛ وإنَّها تحديدا، مرحلة بناء المؤسَّسة الإسلاميَّة، والانتشار، مِن خلالها، عبر بقاع الأرض وأبعاد الزَّمن الآتي. ولعلَّ ممَّا يؤكِّد هذا، أنَّ الرَّسول ﷺ لَمْ يُبْقِ “يَثْرِب” على اسمها الذي عُرِفَت به بين النَّاسِ، في مرحلة ما قبل الهجرة؛ بل سرعان ما أطلق النَّبيُّ الكريم ﷺ عليها اسم “المَدينة”؛ وهو الاسم الذي ما برح ملازما لهذه البقعة المشرَّفة من الأرض، منذ أن دعاها به النَّبي ﷺ.
أمَّا “المدينة”، لغة، فلفظ مشتقٌّ من الجَذر (م د ن)؛ ومن الدّلالات التي تفيدها المعاني المستخرجة من هذا الجَذر:
1- “الإقامة”؛ إذ يقال “مَدَنَ بالمكان”، أي أقام به.
2- “التَّحصين”؛ فيقال كلُّ أرض يبنى بها حصن في أصطمتها (أي وسطها) هي مَدينة.
3- “الإمتلاك”؛ إذ يقال للأَمَةِ (الجارية المشتراة أو المتوارثة) “مَدينة” أي مملوكة؛ كما يقال للعبد (القِن المشترى أو المتوارث) “مَدين”، أي مملوك؛ ولعلَّ هذه التسمية جاءت من باب أنَّ كلبهما مدين بثمن حريَّته لمالكه.
ولعلَّ الرَّسول ﷺ كان يقصد من وراء تسميته لـ”يَثْرِب” بـ”المدينة”، أنَّه ﷺ كان يريد لهذه البقعة من الأرض أن تكون:
1) المكان الذي يقيم فيه ﷺ، بإذن الله تعالى، إقامة دائمة؛ طالما هو على هذه الأرض حيَّا وفيها ميتا.
2) الحصن الذي يُلاذ به، حمايةً للمسلمين ونصرة للإسلام.
3) المنطلق الأبرز والأساس للمسلمين، في ممارسة المُلك أو الحكم الإسلامي في سائر بقاع الأرض.
المهم، أنَّ رسول الله ﷺ ما كان يقصد من وراء هجرته اجتناباً منه لأذى المشركين ومضايقتهم له؛ قدر ما كان يقصد تأمين البيئة المناسبة لإطلاق المؤسَّسة الإسلاميَّة. لقد انتهى زمن الإرهاصات الأولى، كما كان الحال في “مَكَّة”، واتت مرحلة الاستعداد لزمن تكون فيه الإدارة الإسلاميَّة قائمة على ركائز ثابتة ومؤسَّسات واضحة. ويبدو هذا المنهج في التَّفكير واضحا، من خلال تصرُّفات الرَّسول ﷺ بمجرَّد وصوله إلى تخوم “يَثْرِب”.
غادر النبي ﷺ حدود “مَكَّة”، بعد أن أمضى بعض الوقت في غار “جبل ثور”، من دون أن يقيم في أيِّ مكان آخر؛ حتى وصل إلى بقعة من الأرض كانت عند تخوم “يَثْرِب”، يقال لها “قِباء”. وفرح النَّاس في “قباء” بقدوم الرَّسول ﷺ؛ ونزل النَّبيُّ ﷺ فيهم ما ينوف على خمسة أيام. وممَّا يُلاحظ، ههنا، أنَّه ما أن استقرَّ الرَّسولﷺ في “قِباء”، حتى فصل بين مكان إقامته الشَّخصيَّة

وبين مكان إدارته لشؤون المسلمين. صحيح أنَّ النَّبيَّ ﷺ جعل مقرَّ سكنه في “قباء”، في بيت “كلثوم بن هدم”؛ بيد أنَّه ﷺ جعل لنفسه في “قباء” مقرَّا خاصَّا يستقبل فيه حوائج النَّاس، هو بيت “سعد بن خيثمة”؛ وكأنَّ الرَّسول ﷺ، كان يبدأ بتأسيس مفهوم لـ”دار للحكومة” في الإسلام ومقرٍّ له، بل لعلَّه ﷺ كان يؤكِّد بهذا التصرف على:
1) ضرورة فصل مجالات الشُّؤون الخاصَّة لمعيشة القائد أو الحاكم ومتطلَّباتها، عن مجالات ممارسة هذا القائد أو الحاكم ، لحياته العامَّة في مجالات الشَّان العام ومتطلَّباتها.
2) ضرورة وجود مقرٍّ مستقل، قائمٍ بذاتهِ، تدار منه وفيه شؤون النَّاس ومصالحهم.

وعندما غادر النَّبيُّ ﷺ “قباء”، فإنَّه لم يتركها قبل أن يؤسس فيها مسجدا يلتقي فيه أهلها لأمور دينهم وحياتهم؛ وهو أول مسجد بُنِيَ في الإسلام، ويعرف باسم “مسجد قباء”؛ ولعل بالإمكان التعريف عنه بأنه أول دار للشؤون العامة في الإسلام.
يصل الرَّسول ﷺ إلى “يَثْرِب”؛ وما أن يستقرَّ فيها، بعد أن جهد كلُّ واحد من مؤمنيها في دعوته للنبي ﷺ للنُّزول في بيته والإقامة فيه، حتى يسارع النَّبيُّ ﷺ إلى تحويل موضعٍ كانت تُحبس فيه الابل، إلى مسجد. وفي هذا المكان كان الرَّسول ﷺ:

• ينشر التَّشريعات والأحكام، التي كانت تُوحى إليه.
• يدير الشُّؤون الحياتيَّة لجماعة المسلمين ولسواهم.
• يستقبل وفود القادمين المستفسرين عن الإسلام.
• يبعث بالكتب إلى ملوك الأمم، يدعوهم فيها إلى الدِّين الحنيف.
• يتلو على الصحابة ما يدونوه من الوحي.
• يعلّم القرآن ويفسره.
• يصدر القرارات المتعلِّقة بالحرب والسِّلم.

وكأن هذا المسجد قد أضحى، ليس مجرَّد مكاناً للعبادة وحسب؛ بل صار داراً للحكومة التي تنتظم فيها؛ وشملت أعماله ونشاطاته، وفاقا للتَّرتيب الآنف ذكره، وبالمفهوم المعاصر لأيَّامنا الحاليَّة، وزارات أو إدارات حكوميّة تُعنى بقضايا الدَّولة المتعلِّقة بشؤون:

• الداخليَّة.
• الثَّقافة.
• الإعلام.
• ما يتنزَّل من الوحي.
• المعارف.
• الحرب.

من الواضح أنَّ ممارسة لهذا الأمر لم تكن زمن إقامة الرَّسول ﷺ في “مَكَّة”، رغم أن النَّبيَّ ﷺ أقام فيها ما ينوف على عقد من الزَّمن يدعو إلى الإسلام. ولعلَّ بالإمكان القول، ههنا، إنَّ مرحلة الهجرة إلى “المدينة”، هي، إن جاز التَّعبير، مرحلة التَّصميم العلميِّ والموضوعيِّ على بناء الدَّولة الإسلاميَّة؛ وإنَّ هذا التَّصميم، ما كان له أن يحقِّق أهدافه، لو لم يُسارع الرَّسول ﷺ إلى بناء مؤسَّسة “دار الحكومة”، ممثَّلة بالمسجد، فور وصوله ﷺ إلى تخوم “يَثْرِب”.
لقد كان “مسجد قباء” أول مؤسَّسة لإدارة الشُّؤون العامَّة للمسلمين؛ وكان “مسجد المدينة”، المؤسَّسة المركزيَّة الأولى للإدارة والحُكم في الإسلام. ولعلَّ ما حقَّقته دولة الإسلام، في مراحلها التَّالية من نجاحات، يعود إلى ما وَفَّق به الله، سبحانه وتعالى، نبيَّه محمَّد ﷺ من إدراكٍ كبيرٍ لأهميَّة بناء هذه المؤسَّسات في المجتمع الإسلامي.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى