أدب وفن

السلال!…/قصة قصيرة / بقلم الروائي حسن حميد


السلال!
بلى،
هاهنا، وفي هذا المكان.. واعدتُ رجوة!
سألتها مرات ومرات إن كانت تعرف المكان!
فقالت لي: أعرفه تماماً.
قلت: المكان حيي ولطيف، وصغير مثل عش، كلُّ ما فيه مشتق من النباتات، الطاولات والمقاعد والصواني والأكواب.. حتى القهوة التي تقدم فيه.. هي كائنات نباتية!
تعالي يا رجوة، ولو لدقيقة واحدة، كي أراك!
قالت بثقة: أنا قادمة، انتظرني!


ما كنتُ أعرف رجوة، وما كانت تعرفني!
الهاتف هو من كان صلة الوصل بيننا، ولا أدري من أين جاءت برقم هاتفي، كما لا أدري بالضبط لماذا هاتفتني في المرة الأولى.
قالت لي: أنا أعرفك، رأيتك مرة واحدة في معرض الرسم، فغصّ قلبي!، رأيت الناس يحيطون بك، ويدورون حول لوحات ثلاث متجاورات لك، ربما كانت لوحاتك زينة المعرض.
لم أتكلم معك، رحتُ أراقب اللوحات، وأنظر إليك، وكم وجدت أنك تشبهها، وأنها تشبهك، ومن دون أن أدري السبب أحسست أنك شخص تهمني، وأن روحي انشدت إليك!
وقالت: أصارحك.. أنه لولا الحياء، وكثرة الناس، والعيون التي تحدق إليك لاقتربت منك وكلمتك، وربما صافحتك، بل ربما تجاسرت أكثر وأخذتك بين ذراعيَّ في شوط أنثوي لا يدانى! صحيح أنني لم آخذك بين ذراعيَّ، لكنني أخذت دليل لوحات المعرض، وقرأت نبذة صغيرة عن سيرتك الذاتية، وعرفت عمرك، وقرأت سطوراً عن أهمية لوحاتك، وقبل أن أغادر المعرض، وقفت أمام لوحاتك الثلاث الجميلة لمرة أخيرة راجية الله أن يطبعها نقوشاً في صدري، ونظرت إليك، فرأيتُ! أتدري ماذا رأيتُ؟! رأيتُ أنك اللوحةُ الرابعةُ والأهمُّ في المعرض!
وحين عدت إلى البيت رحتُ أطاردك في المواقع الإلكترونية لأعرفك أكثر!
قلتُ: وماذا وجدتِ! قالت: الكثير! ثم صمتت في تلك المكالمة! لم تبح لي بشيء عنها سوى اسمها!


أذكر أنني، في المرة الأولى، ومع المهاتفة الأولى: قلت لها: وماذا ستعرفين عني.. يا رجوة!؟ المدن الشائخة غير جديرة بالمعرفة! قالت: أنت زينة الشباب! قلت: ماذا؟! قالت: لقد رأيتك! وأغلقت هاتفها!
أعترف بأن قولتها يومذاك، هزّتني، لذلك دفعت خطاي نحو مرآة البيت الكبيرة وواقفتها، ولم أغادرها إلا عندما قلت لنفسي: ما أحلى البنات الكذّابات، إنهن قصب مصّ حين تذهب الأنفاس! فأنا أدلف إلى سنواتي الستين، والشيب يفضحني، ونحولتي رفيقتي مثل أنفاسي، لا شيء فيَّ سوى هذا الطول الذي لم يغو فاتنةً من الجميلات الفاتنات اللواتي مررن بيَّ، فظللت أعزب الدهر الذي لم يطابق وجهه وجهاً كي يتوحّد فيه! وكانت رجوة، كما أخبرتني فيما بعد، تخطو نحو سنواتها الأربعين، وقد طلبت من الحياة الكثير الكثير، لكنها صدّت عنها، فلم تفتك منها عنوةً سوى شهادة طبابة الأسنان، ثم هجرتها الحياة، وأغلقت وراءها الباب. قلت لرجوة التي تمنيت ألا تستجيب إلي، أن تأتي.. لأراها. لكنها تخذلني وتواعدني، وتقول: إنها قادمة، لكنها لم تأت! ولم تتب عن مكالمتي، مثلما لم أتب عن مواعدتها وانتظارها!
الآن،
وفي هذه المرة، وبعد هذه المهاتفة الفائتة، أشعر للمرة الأولى أنها قادمة فعلاً، فقد أحسست أن في صوتها اندفاعة ما عرفتها من قبل، وفي كلماتها حرارة لم أشعر بها أيضاً، وقد كلمتها مئات المرات. روحي الآن، تقول لي: إنها قادمة! كنتُ أريد ملهوفاً أن أضع حدّاً لهذا التعب العاطفي الذي راح يساهرني كل ليلة، مثلما تساهرني الألوان، وأن أبعد طيفها الذي تصورته لها وهو يراقصني أمام الشموع في كل ليلة، والألوان تجول بي مثل نحل طريد!.
كنت أريد أن أُخرج رأسي من كتاب الاعتذارات الكثيرة التي كنت اختلقها لها بعد كل مواعدة حين لا تأتي، ولكم درّبت نفسي طويلاً لكي أغضب منها وعليها حين تكلمني في الهاتف، ولكنني أخفقتُ، لم أقو على ذلك، ولو في مرة واحدة. كانت، وما إن تقول لي مرحبة ممطوطة، حتى أنسى غضبي، وأغفر لها كل شيء! وحين تتحدث، أتركها تتحدث كي أصير طائراً محوّماً في الفضاء، فلا تستعيدني إلا عندما تقول لي: أين أنت؟! فأقول على عجل: أنا في السماء! فتضحك! وعندئذٍ أشعر بهبوط الأنهار من منابعها جرياً نحو مصباتها، وقد أحاطت بها الضفاف قرىً، وغاباتٍ، وأجمات قصب، وأسيجة توت، وأشجار طيون، وأسراب أوز وبط، وقطعان ماشية، وشجو نايات، وصبايا يرمين الهموم والأماني والأغاني إلى هدرة الماء الصخَّابة في النهر الطويل.
ثم تسألني راجية، وقد بُحّ صوتها ورق: سآتيك، ولكن إلى أين؟! فأقول لها وأنا بين جفون اليقظة والنوم: عند مقهى البنت سعدية! فتقول فرحةً: فرصة، كي أعرف سعدية أيضاً!


الآن،
وقبل ساعات فقط، أقسمت رجوة الأيمان الغليظة، يميناً يتلوه يمين، بأنها قادمة لتمحو كل زلاتها السابقة، ولتقول لي قولتها التي هزّتني منذ هاتفتني في الأيام الأولى: أحبك يا مجنون!
لهذا.. ها أنذا.. أهفو إلى موعدها مثل طائر حجل يكرج نحو حافة غدير، كي أراها، فلا أصل إلى مقهى سعدية، ولا مقهى سعدية يبين، لكأنني لم أمش بعد، أو لكأن الطريق لم يأخذني إليه، أو لكأن قلبي يقول لي إن موعد رجوة بعد ساعات! لكنني هاأنذا هنا، وسط الشارع، وبين البيوت، أمشي وراء خطاي، ولا موسيقا تحفُّ بي سوى دقات قلبي، ومن فوقي وحولي شرفات تطلُّ عليَّ وقد امتلأت بالخلق، وروائح القهوة، والنباتات، والضحكات، والأحاديث المتداخلة، ومحال شرّعت أبوابها، وأبدت زينتها، وجدران تتقدم وتتأخر، تمرُّ بي وتوازيني، وتنظر إليَّ!
يا إلهي، لكأن كل ما هو حولي يعرف موعدي مع رجوة ويباركني! أمشي مثل طريد، فلا أقف إلا أمام سعدية، التي تسقي نباتاتها، وحين تراني تبتسم! أجمل شيء في سعدية ابتسامتها البيضاء الواسعة. حين أرى ابتسامتها ألعن الظروف وقسوتها، والصدود وساعاته، إذ كيف لابتسامة مثل ابتسامة سعدية لم تشد إليها عشرات الرجال، كيف مضى الزمن كلُّه ولم تتزوج سعدية، صحيح هي بنت سمراء، وناحلة، ولكن طولها زينة، وابتسامتها تساوي طيور الدنيا كلَّها، وروحها شوط من الشوق… وأبعد!
حين رأتني سعدية ابتسمت، وهي تستعيد انحناءة جسدها إليها، وهممت بخفوت: رجوة!
فتمتمتُ، وجسدي يرجّ بي: رجوة!
قالت ممازحةً: ألا تتوب وقد دمرتك الأيام! قلت: من يؤوب لا يتوب يا سعدية! ترامشت عيناها، ثم دلقت رأسها نحو صدرها! يا لهذه السعدية.. حمامة! بل حمام! وسمعتها تسألني: قهوة! فأقول: قهوة! وتسألني: واحد! فأقول: اثنان. عندئذٍ، شعّت ابتسامتها وأضاءت أكثر.
سعدية تعرفني، فكلما واعدت رجوة عندها، طلبت فنجاني قهوة، الأول لها، والثاني لي، فلا أغادر، إلا بعد أن أشرب فنجاني القهوة في دور أول وثانٍ وثالث انتظاراً لرجوة التي.. لا تأتي.
حين عادت سعدية إليَّ، بالقهوة والماء، سألتني إن كان مجيء رجوة هذه المرة مؤكداً، لا سيما وأنني آتيها اليوم مبكراً، قلت: مؤكد بالطبع، هي التي طلبت الموعد! قالت بحزن: قلبي يرجف منذ سنوات.. كي أراها! قلت: اليوم، وبعد قليل، سيدق قلبك فرحاً لمرآها! قالت: أرجوك.. دعني أعرفها بنفسي، لكن ساعدني، قل لي كيف هي؟!
قلت: وقد هزّني سؤالها: هودج ورد، سرب من السنونو، بلاد.. تغني! قالت وهي تخفي عني شحوب وجهها: سأعرفها من النظرة الأولى! واستدارتْ! واستدرتُ عنها لأرى قربي رجلاً ممتلئاً، يحمل عشرات السلال في يديه، وعلى كتفيه، وفوق ظهره.. حتى ليظنه المرء، وقد غطّته السلال، رجلاً يمشي في كرنفال. حطّ الرجل وسلاله قربي. فرأيت ما فيها، إنها ملأى بالزبيب الأشقر، وحين نظر إليَّ نظرتُ إليه بغضب شديد، وصرخت به: أنت حطّاب الدوالي! فبهت الرجل، وصرخ هو أيضاً بارتباك واضح: حطاب، دوالي.. ماذا تقول؟! ولا أدري كيف قفزت من فوق الطاولة، ومن فوق فناجين القهوة وكاسات الماء، ومن فوق السياج النباتي الذي يحيط بطاولات مقهى سعدية، وأطبقت على الرجل بذراعيَّ، وصوتي يتعالى: حطاب حطاب..، فما كان من الرجل الممتلئ، إلا أن احتواني بذراعين من صخر أو حديد، ودوّرني حول جسده دورة أو أقل وطرحني على الأرض، فشعرت بجسدي يتفكك، وبعظامي تتقصف مثل أغصان الشجر، وسمعت أصواتاً تتعالى، وضجيجاً يتراكم حولي مثل الغيوم، ثم ما عدت أحس بشيء لكأن غيبوبة افتكتني مما أنا فيه. وحين أفقت، عرفت أنني في المشفى، وأن الرجل الجالس إلى جواري هو رجل السلال الذي فكك جسدي، وكسَّر عظامي، وهو لم يغادرني منذ جئت إلى هنا. ابتسم لي حين رآني أنظر إليه، وهمهم: أنت بخير، لا تقلق! قلت: والموعد، ورجوة!
قال، وقد انشقّت شفتاه عن ابتسامة ما رأيت مثلها قط: جاءت رجوة، وسألت عنك، وتعرفت إلى سعدية وعانقتها، وسعدية أكرمتها بدورين من القهوة!
لحظتئذٍ، شعرت أن رضا الله يمطر في قلبي يمطر.. يمطر يمطر، وأن غيوماً تشيل بي، فهممتُ أن أنهض لكي أقبّل رجل السلال الطويل الممتلئ.. لأنه أول كائن بشري يصدق أن لي حبيبة اسمها رجوة، وقد جاءت إليَّ على موعدها إلى مقهى سعدية، وأن سعدية التي تلعن الرجال ألف مرة في اليوم.. أكرمتها بدورين من قهوتها العسل، بعد أن عانقتها عناقاً طوله ألف عام.
وحين عجزتُ عن النهوض، لأن يديَّ رجل السلال حالتا دون أن أنهض أو أستدير نحوه تماماً، قلت: وأين هي رجوة الآن؟!
قال: تركتها عند سعدية!
قلتُ: وسعدية؟!
قال: تحكي لها عنك!
قلت: وأنت؟!
قال: جئت بك إلى هنا!
لأنك نمت على الكرسي، كعادتك، وحين غفوت تماماً، صرخت فجأة وناديت: رجوة، رجوة، ثم سقطت على الأرض، على ذراعك اليسرى.. فكسرتها. كنت بجوارك كعادتي أيضاً، وقد فرغنا من الحديث عن أصناف الزبيب وشقرته الراهجة!
قلتُ: والسلال!
قال: السلال تركتها لـ رجوة!
قلت: أهي قادمة إلى هنا؟!
قال: قادمة!
قلت: متى تصل؟!
قال: بعد أن تملأ السلال بالماء.. من نبعة الطاحون!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى