ثَمَنٌ لِمَهابَةِ أشخاصٍ مِن أهلِ السُّلطة العُليا في الحُكم
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
تَضُجُّ المَحافِلُ في لبنان، بِالحَديثِ عَن ضرورةٍ جازمَةٍ لِلْمُحافَظَةِ على مَهابَةِ أَشْخاصٍ مِن أَهْلِ السُّلطةِ العُليا في الحُكمِ؛ بَلْ ثَمَّةَ مَن ما بَرِحَ يُؤكِّدُ، لَيْلَ نَهارٍ، أنَّ التَّمسُّكَ بهذهِ المُحافَظَةِ، “خَطٌّ أحمر” في فاعِلِيَّةِ الاستقرارِ الوَطَنِيِّ في لبنان، وعاملٌ أصيلٌ في استمرارِ التَّوجُّهاتِ الإيجابيَّةِ لِمساراتِ التَّعايُشِ الطَّائفيِّ والمَذْهَبِيِّ للبلد.
إنَّ هذا الحال يَعني، في ما يعنيه، أنَّ مَهابَةَ أهلِ السُّلطةِ العُليا، وكذلكَ مسارات التَّعايُشِ الطَّائفيِّ والمذهبيِّ، عند هؤلاءِ الضَّاجين ولَدى جماعةِ وَضْعِ “الخُطوطِ الحَمْراءِ”، تَتَفَوَّقُ على أيِّ أهميَّةٍ سواها؛ حتَّى وَلَوْ كانت أَهَمِيّة العدالة. والعدالةُ، كما تَوافَقَ عليها أهلُ الفِكْرِ والدَّرسِ والتَّحليل، من باحثين وأكاديميين في علوم الاجتماع والحضارات الإنسانيَّةِ، وكما ما بَرِحَ النَّاس جميعاً يتواضعون عليها، تكون في ما مفاده “الاستقامة على طريقِ الحقِّ، واستعمال الأمورِ في مواضِعِها ومقاديرها، مِن غيرِ ما إسراف ولا تقصيرٍ”. ولعلَّ مِن أفضل ما يُمَثِّل هذا الفَهم للطَّبيعةِ الحقَّةِ للعدالة، ما درجَ النَّاسُ على تشخُيصها بهِ، بأنثى معصوبة العينين، وقد رفعت بيدها ميزان العدلِ، وذلك من دونِ ما تمييزٍ تقدر عليهِ بين من يطلبون رعايتها ويلوذون باحكامها؛ فتبقى، أبداً، إلى جانب الموضوعيَّة، وتظلُّ دائماً نصيرة للحقِّ أينما كان وكيفما كان.
تُلْغي مجالاتُ الإدراكِ الإنسانيِّ، وكذلك الوَطَنِيِّ، التي لا ترى في العدالةِ أهميَّةً أساساً، أو وجوداً تأسيسيَّاً لأيِّ وجودٍ آخر، عامِداً مُتعمَّداً، ركائزَ جوهرِيَّةٍ للوجودين الإنسانيِّ والوطنيِّ، على حدٍّ سَواء. أوَّلُ ما يلغيه التَّعامي عن العَدالَةِ، بادِّعاء تَحصينِ مهابَةِ أهلِ السُّلطةِ العُليا الحاكِمَةِ، هو وجودُ السُّلطةِ الحاكِمَةِ عَيْنِها؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لوجودِ هذه السُّلطةِ، ولا لِوُجودِ القائمين بها، إذا لم تكن العدالةُ دَيْدَن السُّلطَةِ وناسِها الأساسَ والوحيد. كما أنَّ هذا الإدراكَ، الذي تَغيبُ عنه أُسُسُ العدالةِ ومفاهيمها وقِيَمِها، لن يكونَ سوى استخفافاً مُتَهَوِّراً بِسلوكِيَّاتِ الأنبياءِ، ومنهم السيِّد المسيح، الذي طَرَدَ التُّجَّارَ واللُّصوصَ مِنَ الهيكلِ، في معبد حَيْرُودَ، في القُدْسِ، تحقيقاً منهُ للعدالةِ؛ وكذلك رسولُ الله محمَّد، الذي قال، في سبيلِ تحقيقِ رؤيتِهِ إلى العدالةِ وممارسَتِهِ لها، “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد؛ وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”.
ثمَّة إلغاءٌ آخر، يَشْرَئِبُّ بحضورٍمَنْكُودٍ وبائسٍ له، في مجالاتِ عدمِ اعتبارِ العدالة أولويَّةً أساساً؛ ألا وَهُوَ إلغاءٌ لِرؤيَةِ وجودِ مصدرِ العدالةِ والدَّاعي الأساسَ لها، بل تجاهُلٌ مُتَعَمَّدٌ لِمَن تكونُ العدالةُ جوهرَ وجودِهِ ومفتاحاً للدُّخولِ الحقِّ إلى رِحابِ حضورهِ، ألاَّ وَهُوَ اللهُ، رَبُّ العالمين. يبرز، ههنا، التَّساؤلُ المَوْضوعيُّ والعضويُّ في آنٍ، إذْ كيفَ يكونُ نَظَرٌ إنسانيٌّ إلى اللهُ، وقد أغفلَ القَوْمُ العدالةَ مِن نطاقِ فَهْمِهِم لحضورِهِ وسِرِّ وجودِهِ ومصدرِ العِبادَةِ له؟ وكيف لا؛ وقد وَرَدَ في “الكِتابِ المُقَدَّسِ”، في سِفْرِ طوبيا 3: 2 “عادلٌ أَنتَ ايُّها الرًّبُّ وجميعُ احكامِكَ مُستقيمة وطُرُقِكَ كلُّها رحمةٌ وحقٌّ وحكمٌ”، وفي سِفْرِ المزامير 111:3 “عَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَد”، وفي رِسالة بُولُس الرَّسول الثَّانية إلى أهل تسالونيكي 1: 4، 5 “قَضَاءِ اللهِ الْعَادِلِ”؛ كما جاء في “النَّصِّ القرآني”، في سُورَةِ النَّحلِ: 90 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، وفي سُورَةِ الأَعرافِ: 29، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}، وكذلك في سورة ص: 26، {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}.
من جهة أخرى، وبعيداً عن أي توجُّهٍ تأسيسيٍّ غَيْبِيٍّ، دينيٍّ كان أو غير ديني، فإنَّ المراقبة المستمرَّة للعيش الإنسانيِّ عَبْرَ العصور المتعاقبة، تُبَيِّنُ، بما لا يقبلُ الشَّكَّ، أنَّ العدالةَ مِن أشدِّ الموضوعاتِ شُيوعاً في مُتَطلبَّاتِ السُّلوكِ الاجتماعيِّ؛ حتَّى باتت المُسَلَّمَةَ العالمِيَّةَ التي تُجْمِعُ عليها الإنسانيَّةُ، عَبْرَ عصورِها المُتعاقِبَةِ وفي مجتمعاتِها الحضاريَّة كافَّة؛ قاعدةً اجتماعيَّةً أساساً لِدَيْمُومَةِ التَطَوُّرِ الإيجابيِّ المعطاءِ للحضارةِ الإنْسانِيَّةِ.
إنَّ عَدَمَ إعطاءِ العدالةِ، الفاعِلِيَّةَ الأساسَ والأولى، في العَيْشَيْنِ الإنسانيِّ منهما والوَطَنِيِّ، أو أيِّ إهمالٍ لمساراتِها أو محاولةٍ لِتناسي وجوبِ حُضورِها، تَذَرُّعاً بِحِفاظٍ ما على مَهابَةِ أشخاصِ أهلِ السُّلطةِ العُليا في الحُكْمِ، أو تَمَسُّكاً بخطوطٍ حمراءَ، لِصالِحِ دِينٍ مُعَيَّنٍ أو مَذْهَبٍ مُحَدِّدٍ، أو تَخَفِّياً وراءَ مصلحةٍ سياسيَّةٍ لهذا الفريقِ أو ذاكَ؛ إنَّما يَصُبُّ مباشرةً، وبكلِّ تَهَتُّكٍ إنسانيٍّ ووطنيٍّ، في خانةٍ واحدةٍ وحيدةٍ لا سِوى لها؛ خانةٌ لُحمَتُها، الوجودُ الإنسانيُّ، بِحضارَتِهِ العريقَةِ، وأنبيائِهِ ذوي الوَحيِّ، وأديانِهِ المُنْبَثِقَةِ مِن هَديٍّ مُنْزَلٍ مِن لَدُنِ اللهِ؛ أما سُداها، فالوطنُ بِكُلِّ ما فيهِ، وناسُهُ، بكلِّ ما هم.
يقودُ التَّخلِّي عن العدالةِ، بجوهرِ مفهومها، والتَّراخي في صونِها وتعزيزها، ومن دونِ أيِّ مواربةٍ أو سَتْرٍ أو تَمَلُّقٍ أو مُدَاراةٍ، إلى نَقْضِ أُسَّ الوجودِ الإنسانيِّ ، وبطلانِهِ بأبعاده كافَّةً؛ وكذلك إلى إِعْطاِ ُأَرُومَةِ العُنصرِ الوَطَنِيِّ وإفسادِ مَحتَدِهِ؛ وما هذا، برمَّتِهِ، إلاَّ مِن بابِ تَدْمِيرِ العدالةِ، وإلغاءِ جميعِ ما يستندُ إلى مفاهيمها وينهضُ على قيمِها، وإبطال حقيقةَ ما يُسْتفادُ مُنْها ويُسْتَلْهَمُ من مبادئها، وطبعاً، وقبل كلِّ شيء، تحريفٌ لجوهرِ الإنسانيَّةِ وتَقبيحٌ له.
تُرى، وبعد كلِّ هذا، أوَيُدْرِكُ القومُ في لبنانَ، عند أيِّ مُنْزَلَقٍ هُمُ اليومَ ذاهبونَ، وعند أيِّ دَركٍ مِن أغوارِ الفجيعَةِ الحضارِيَّةِ هم مُنْقَلِبون؛ سعياً وراء مَهابَةٍ لأشخاصٍ مِنْ أهلِ السُّلطة العُليا في الحُكم؟!