أدب وفن

رحلة / قصة قصيرة / الكاتبة عبير رجب – سوريا

رحلة
لن أنسى ذلك اليوم في حياتي، فقد طُبِعتْ لحظاته في خلايا زمني.
كان يوماً غاضباً كأيام الصيف المعهودة، يُمارس رياضة الملاكمة اليومية على رأس ووجه كل من يجرؤ ويخرج من منزله أو من مكان عمله للاستراحة أو من جامعته كحالتنا أنا وصديقاتي في طريق عودتنا لمكان إقامتنا في السكن الجامعي.
إحدى الصديقات اللواتي كنّ يخفن على وجوههن من لكمات ذلك اليوم قرّرتْ البقاء حتى يهدأ غضبه ويرحل بسلام ليسمح لصديقه الليل بالقيام بمناوبته.

كان آخر يوم في الامتحانات النهائية وصديقتي تلك قررت السفر إلى منزلها مساءً، وطبعاً تحتاج مساعدتنا لحمل حقائب السفر معها إلى المحطة، وقد قبِلْتُ بذلك كعادتي رغم أنني سأضطر للسفر إلى منزل أهلي في الصباح التالي أنا وصديقتي الأخرى،فأنا كما تقولُ هيَ: شقراءٌ لن أتحول إلى رغيف خبز محروق بسفري النهاري ولكنها سمراء ستُشوى شواءً، وستضيع ملامح وجهها.

قضينا ساعات جميلة محفوظةً في ثلاجة الذاكرة إلى الآن؛ حتى دقّت ساعة الوداع، حملنا الحقائب ومضينا، وأوصلنا صديقتنا اللطيفة إلى المحطة.

وفي طريق العودة عرضَت صديقتي التي بقيَت معي أن نستقلّ حافلة ركاب كبيرة تمر تماماً من أمام السكن الجامعي حتى لا نضطر أن نمرّ ليلاً في الأحياء الشعبية المليئة بأناس يعتبرون الفتاة المتعلمة (( فتاة ليل))، وافقت على الفكرة وأنا مُطمئنة البال، فصديقتي هذه تحمل الكثير من الحكمة والشجاعة —-لم أكن في وقتها أملكها——

انتظرنا قليلاً حتى وصلَت الحافلة ، صعدنا وكانت الأمور على ما يُرام إلى أن مررنا من الطريق المقابل للسكن الجامعي والتي من المفروض أن تمر بها الحافلة التي تُقلّنا.

نظرْتُ إلى صديقتي بعينين متسائلتين، أجابتهما بابتسامة لتقول: أنا متأكدة أنها ستمر من ممر آخر.

سارت الحافلة وبدأ الناس بالنزول منها شيئاً فشيئاً وهي تبتعد أكثر وأكثر عن السكن الجامعي، وقد كانت خلايا جسدي متحدة في الدعاء لله كاتحاد شيوخ في يوم استسقاءٍ عظيم. ولم أعُد التفت لتعابير وجه صديقتي التي بدأ الخوف يسير بظلّه عليه للمرّة الأولى مذ عرفتها.

نهضَتْ من مقعدها في الحافلة واقتربت من السائق لتسأله عن وجهته التالية، وقد لحقتُ بها و لحق بنا بعض الشبان المراهقين الذين كانوا على وشك النزول ولكنهم توقفوا ليستمعوا إلى ما تقوله صديقتي، وما أخبرنا به السائق أن هذا هو الموقف الأخير له وسيعود إلى منزله في اتجاه معاكس تماماً لسكننا وهذا ما جعل أحد الشبان يُبادرُ ليقول: بابتسامةٍ أشبَه بابتسامة ذئبٍ جائعٍ في وجه فريسته أنه سيساعدنا في إيجاد حافلة أخرى تعيدنا إلى مكان إقامتنا ولكنّ
{{{السائق ذو الملامح القاسية والتي زادت في نظري آنذاك ظلام الليل ظلاماً }}}}

طلب من المراهقين النزول من الحافلة ، وقال لنا بصوته الأبويّ اللطيف: ابقيا سأوصلكنّ لأقرب مكان أستطيعه.

خجلْت من نفسي لأنني حكمت على إنسانٍ ظُلمَاً فقط من ملامح وجهه والتي هي مجرّد جزء صغير من كينونة مخلوق كاملة، وتعلّمتُ درساً قاسياً أثبت لي أن الوجه الذي قد لا يُعجبني قد يحمل جوهرة ثمينةً في داخله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى