مقالات واقوال مترجمة

إيميلي ديكنسون وفضاء عزلتها الواسع

إيميلي ديكنسون وفضاء عزلتها الواسع

  • ترجمة وتقديم: رامي زكريا
    poetryletters.com/mag

    لا يمكن دراسة الشعر الأمريكي الحديث دون المرور على قصائد إيميلي ديكنسون، فهي تعد الآن من أهم الشعراء الممهدين للحداثة الشعرية في القرن التاسع عشر إلى جانب والت وايتمان. وقد صنفها الناقد الأدبي هارولد بلووم (جامعة ييل) ضمن أهم 26 كاتباً وكاتبةً غربيين عبر التاريخ.
    لم تغادر إيميلي منزلها كثيراً، فقد عاشت حياة إنطوائية إلى حد بعيد. كتبت، في مساحتها الخاصة في منزل أبيها، ما يزيد عن 1700 قصيدة لم ينشر منها خلال فترة حياتها إلا 11 قصيدة في بعض الصحف المحلية بأسماء مستعارة. هكذا لم يعلم أحد عن موهبتها سوى حلقة ضيقة من أفراد أسرتها والمقربين من الأصدقاء. ولم يخطر ببال أحد– ولا حتى إيميلي نفسها – أن قصائدها سوف تحدث ثورة أدبية في القرن العشرين. وبعد وفاتها بسبعين سنة نُشر أول كتاب جامع لقصائدها دون تعديل.
    سأستعرض هنا بعض النماذج من قصائدها التي تميل إلى القصر والتكثيف، وسأناقشها في محاولة لفهم وتحليل الفلسفة الشعرية التي صنعتها لنفسها في عزلتها تلك.
    علينا أولاً أن لا ننخدع بالمظهر العام التقليدي لقصيدة إيميلي ديكنسون، فهي وإن لم تحاول تعديل شكل القصيدة جذرياً (على عكس وايتمان) إلا أن التجديد عندها كان تجديداً في مستوى فكرة القصيدة وطريقة السرد وبناء الاستعارات. فمعظم قصائد ديكنسون تميل إلى الموسيقى السلسة وكأنها تكتب أغنيات يرددها الناس في جلساتهم، إلا أن محتوى القصيدة يعكس أمراً مختلفاً، فالوصول إلى جوهر القصيدة يحتاج إلى قراءة متأنية، أو ربما إلى قراءات عديدة. و كثيراً ما أشارت إيميلي في قصائدها إلى صعوبة السباحة إلى ضفة الفهم.
    لقد كتبت إيميلي شعرها بحريّة كاملة، وهذا ما جعلها مختلفة عن شاعرات وشعراء عصرها. إذ أنها كانت تكتب لنفسها في عزلة عن العالم الخارجي وبعيداً عن آراء النقاد ومتطلبات أصحاب دور النشر.
    في قصيدتها “أُقيمُ في الإمكان” (I dwell in possibility) مثلاً، تتكلم ديكنسون عن الشعر والإمكانات التي يفتحها الشعر للعقل البشري، معلنةً تفوق الشعر على جميع أنواع النثر. لكنها ترى أن دخول عوالمه يتطلب مهارة وجهداً من القارئ، تقول:
    أُقيمُ في الإمكان – –
    منزلاً أبهى من بيوت النثر – –
    نوافذهُ لا تُحصى – –
    مداخلهُ – – مُحصنةٌ – –
    وحجراته السامقة كالأرْزِ – –
    عصية على الأبصار – –
    وسقفهُ سماءٌ أبديّةٌ – –
    أما زوّاري – – فهم الأجمل – –
    وأنا لا شغل لي إلا – – هذا – –
    أن أفرُدَ يديّ الصغيرتين – –
    لأُلملم الفردوس – –
    تُشكّل هذه القصيدة تعريفاً للشعر كما تراه إيميلي ديكنسون. فالشعر عندها هو منزل واسع من الاحتمالات ، وتلك الاحتمالات تقبع خلف أبواب ثقيلة صعبة الولوج. لكن الشعر في الوقت ذاته مشرع النوافذ على العالم، ولا يحده شيء “فسقفه السماء”. وهي شاعرة تحب زوارها، الذين يكابدون جهد الـتأمل للوصول إلى عالمها، وهي مشغولة بجمع عناصر الجمال كي تخلق قصيدتها التالية.
    هي أيضاً شاعرة تدعو إلى تحفيز الفكر، والسباحة عكس التيار، والخروج عن المألوف. وكأنها رسولة تتلو مبشرات الحداثة في فترة ما قبل الحداثة. فقد اعتبرت نفسها خارج منظومة شاعرات القرن التاسع عشر، حيث كان ينتظر منهن قراءة الشعر لا كتابته، وإن كتبنه، فعليهن صياغته بطريقة محددة. كانت تصنع مجازاتها من المصطلحات العلمية، والأدوات الصناعية، وكل ما هو عصري آنذاك. بل وتجاوزت ذلك عندما طرحت أسئلة أساسية حول الإيمان والخلق رغم البيئة الكاثوليكية المحافظة التي نشأت بها. وهي تقول في قصيدة أخرى:
    العقلُ على سِكّتهِ
    يسيرُ مُنتظماً – – آمناً – –
    لكنْ إذا سَمحتَ لهُ يوماً بالجنوح – –
    سيكونُ مِن الأسهلِ – –
    إعادة سيول الفيضانِ ثانيةً لمسارها- –
    بعدَ أنْ تشقَّ التلالَ – –
    وتصنعَ دروباً جديدةً – –
    وتُوقف عنفاتِنا القَديمة – –
    يُنظر أحياناً إلى ديكنسون على أنها نقيضُ والت وايتمان Walt Whitman (1819- 1892) . وايتمان الراديكالي الصادم مقابل إيميلي اللطيفة الهادئة.
    ويتمان القادم من الفقر، والمتحدث باسم الفقراء والمهمشين، مقابل ديكنسون المنعزلة عن الناس.
    المشترك بين وايتمان وديكنسون هو الدعوة إلى التجريب في الكتابة والخروج عن المألوف. لكن من الجلي أن وايتمان كتب كي يُقرأ، بعكس ديكنسون التي (كما يروى) رغبت بحرق جميع أشعارها قبل وفاتها. فنحن هنا أمام فلسفتين: ديكنسونية منغلقة على نفسها، مقابل وايتمانية منفتحة تدعوك أن تدخل في عالم القصيدة، وتصبح أنت شاعرها. ورغم أننا لا نستطيع تعميم هذا على كل الشعر الأمريكي المعاصر، إلا أن المدرستين فرضتا رد أي نص كتب في الفترة اللاحقة إلى عناصر من تلك الفلسفتين. وكما أشرت سابقاً، فإن ديكنسون أن القصيدة لا تمنح مفاتيحها إلا لمن يجهد في التفكر وقراءة ما بين السطور، فهي ليست من أنصار الوضوح في الشعر، كما هو الحال عند وايتمان الذي يكتب للجميع ويؤمن أن باستطاعة الشعر تغيير العالم. أحد الأدلة على الصعوبة التي تغلف أفكار قصائد ديكنسون، هو أن إحدى الأنثولوجيات الشعرية (إدمون ستادمان) أدرجت قصيدة قصيرة لديكنسون لا تتجاوز الثمانية أسطر بعد أن عمد المحرر إلى تعديلها – كما لا ينبغي له – في 13 موضعاً ، لتصبح أكثر سهولة. ومن فلسفاتها الشعرية، التلاعب بالحقائق وتغليفها بغلاف لغوي فني، والابتعاد عن المباشرة في عرض تلك الحقائق، فتقول في قصيدة شهيرة:
    قُلِ الحقيقةَ كاملةً
    لكنْ قُلْها مُتدرجةً
    وابلُغها عَبرَ مَتاهاتِ الكذبِ
    فالحقُّ الأبلجُ شديدُ الوطأةِ
    حينَ يُباغتُ بهجتنا الهشةِ
    كالبرقِ، نُبسّطُ معناهُ برِفقٍ للأطفال
    وكذا الحقائق، إما أنْ تَسطعَ برويّة
    أو تُصبح البشرية أجمعها عمياء
    رحلت إيميلي ديكنسون سنة 1886 بصمت في ماساتشوستس، الولايات المتحدة، مخلفةً إرثاً شعرياً عظيماً. وفي السنة ذاتها وفي مكان آخر من العالم، ولدت شاعرة أخرى سيكون لها صيتٌ وأثرٌ كبيرٌ في الأدب العربي. المكان هو الناصرة، فلسطين. والشاعرة هي مي زيادة … وهذا حديث آخر ليوم آخر.
    مراجع وهوامش:
    (1) Dickinson, Emily, and Ralph William Franklin. The Poems of Emily Dickinson. Vol. 1. Harvard University Press, 1998. pp 483-484., also available online at :http://www.poetryfoundation.org/poem/182904
    (2) The Poems of Emily Dickinson, Ralph W. Franklin, ed., Cambridge, Mass.: The Belknap Press of Harvard University Press
    (3) Voices and Visions- Emily Dickinson (TV Documentary 1988)
    (4) Emily Dickinson, “Tell all the truth but tell it slant” from The Poems of Emily Dickinson: Reading Edition, ed by Ralph W. Franklin, available online at: http://www.poetryfoundation.org/poem/247292
    (5) Lectures of Professor Al Filreis on Modern & Contemporary American Poetry, University of Pennsylvania.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى