أدب وفنمقالات واقوال مترجمة

في الذّكرىَ المائوية”لمعركة أنوال المجيدة” 1921-2021 الحلقة -التاسعة عشرة – من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”

في الذّكرىَ المائوية”لمعركة أنوال المجيدة” 1921-2021 الحلقة -التاسعة عشرة – من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون

( سيرة بطل مُجاهد شهيد معركة “أنوال” الماجدة)

الدكتور مُحمّد مَحّمد خطّابي


“.. أواخر القرن التاسع عشر عندما كان (مُوح) قد تجاوز الثلاثين من عمره كانت قريته (أجدير) تنعم بالسكينة والهدوء، كانت قرية مترامية الاطراف، مناظرها الطبيعية قلّ نظيرها بين القرىَ المُجاورة لوقوعها على أخاديد خليج طبيعي ساحر ، كان البّحر يمتدّ أمامه كصفحة زرقاء متلألئة، يعانق الأفق البعيد عند مُنحنيات جبال تمسمان الشّامخة وهضابها وآكامها التي تحاذي هي الأخرى البحر المترامي الأطراف من كلّ جانب.
وعلى بُعد بضعة أمتار قليلة من “الصّفيحة” وهو الشاطئ المفضّل عند (مُوح) تظهر جزيرة أو حجرة النكور السّليبة التي تبدو للناظر إليها من البرّ وكأنّها باخرة عملاقة تمخرُ عبابَ البحر البلّوري المتلألئ السّاكن، وغير بعيدٍ عن ” صخرة النكور” ناحية اليسار تتمدّد صخرتان أخريتان تكاد الواحدة منهما تلامس الأخرى في رومانسية حالمة، كان أهل القرية يطلقون على الجزيرة الأكبر منهما إسم “جزيرة البحر”، وعلى الجزيرة الأصغر”جزيرة البرّ “،وهتان الجزيرتان الصّغيرتان اللتان تكسوهما أشجار الصبّار كما تكثر فيهما شُجيرات التّين الشّائك المثقلة بثمراته اللذيذة هما أقرب إلى البرّ من جزيرة النكور الكبرىَ المُجاورة المُحتلة من طرف الإسبان .
كانت قرية أجدير تعتمد على الفلاحة كمصدر أساسي للرّزق حيث كان السكان يزرعون أراضيهم الخصبة التي كانت توجد في الغالب في السّهول الواطئة البسيطة التي يطلقون عليها ( الوطاء) وهي سهول زراعية، ومَرَاعٍ خصبة،وأراضٍ فلاحية مترامية الاطراف تمتد من أكمة مسجد (إمجاهدن) (المجاهدون) العتيد الذي هو محلّ تقديسٍ لدى السكّان، بني على ربوة عالية بمحاذاة المعالم الأثرية القديمة لمدينة (المَزمّة) التاريخية المندثرة ،إلى أراضي “الوادي البالي” التي تحاذي نهر (وادى غيس) مروراً بمرتفعات (أزغار)،وبشاطئ ” الطايث” عند مصبّ نهر غيس، والواد المالح.
كان الناس يعيشون على البساطة ،والفطرة ،والقناعة ،كانت منطقة (الوطاء) أرضاً منبسطة خضراء ذات تربة ثرية معطاء ، وكانت الخيرات بها وافرة، والفلاحة مزدهرة في مواسم الحصاد، وكانت المياه غزيرة منهمرة ،كانت تُستقدم من وادي النكور المُجاور، ومن نهر واد غيس بواسطة سواقي صُمّمت بهندسة الريّ التقليدي الضّارب في القِدم حيث كانت المياه تنساب عبر قنوات مائية تضمن السّقي بالتناوب (النّوبث) لمجموع الأراضي الواقعة على طول هذا السّهل المترامي الأطراف .
و من بيت (مُوح) كانت تبدو من بعيد أراضي “تمسمان” الخصبة المحاذية لسواحل البحر الأبيض المتوسّط التي تنتهي عند آخر اليابسة، حيث يظهر ضريح الوليّ الصّالح “سيدي شعيب انفتاح” لساكنة قرية أجدير من بعيد كذلك كبقايا وشمٍ يلوحُ في ظاهر اليد .
في هذه السّواحل الفسيحة ظهرت، وتألقت، وازدهرت، وسادت ثم بادت “إمارة بني صالح” “نكور” التاريخية الواقعة على شطآن سواحل السّواني الشاسعة ، هذه الإمارة لم يعد لها وجود كما كانت عليه في غابر الأزمان سوى في ذاكرة السكّان ،حالها مثل حال “مدينة الزّهراء” الأندلسية القريبة من حاضرة قرطبة ،حتى وإن بقيت من هذه الأخيرة أطلال، وجدران ،ومعالم، ومآثر متهالكة،لم يبق لنا منها سوى رزمة باهتة من القصص، والحكايات، والذكريات، والأحاجي، والمرويّات، والأساطير، وآثار بقايا السّواقي المائيّة المرصُوصة بالصّخور الصّلدة التي كانت على عهد الفتىَ (مُوح) ما فتئت تشقّ أديمَ الثرىَ وتفتح مسالكها وسط الأخاديد، والنتوءات، والمُنعرجات، والمُنعطفات،والمُنحدرات، والوهاد، والهضاب،والمرتفعات، والآكام فى مختلف الوِجهات والإتجاهات ، هذه السّواقي لم تكن تحمل إلى السكّان المياه الزلالية البلّورية الصّافية وحسب، بل كانت بمثابة بريد مائي يجرّ ويجلب معها لهم على ميازيبها الجارية العديدَ من الرّسائل، والمراسلات، والعقود، والمواثيق محشوّة داخل جُعبٍ من قصبات متينة مُغلقة بإحكام تصل إليهم وتمرّ بأراضيهم وهي طافية والتي لها صلة بمختلف المواضيع التي كانت تهمّهم من كلّ نوع ..(يتبع).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى