قراءات حضاريَّة معاصرة في أحداث من التاريخ النَّبويِّ الإسلامي (2)
الدكتور وجيه فانوس
اجتمع أطراف المثلث في قاعة حكم النَّجاشِيّ ملك «الحَبَشَة»، ولعل كل واحد منهم كان يمسك أنفاسه قلقا وترقّبا. وهنا سأل الملك الحبشي المسلمين عن قولهم في عيسى بن مريم. وأجاب جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، عن جماعة المسلمين، بما عرفه من الإسلام وما علّمه النَّبِيّ محمد صلى الله عليه وسلم؛ بأنَّ عيسى بن مريم هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. واعتقد عضوا البعثة القُرشيَّة أنهما انتصرا بمجرد تلفُّظ رئيس وفد المسلمين بهذا الكلام الذي سمعه النَّجاشِيّ. لكن النَّجاشِيّ سرعان ما خيّب ظن عضوي البعثة القُرشيَّة، وأمّن على ما قاله جعفر بن أبي طالب. ولم يكتفِ النَّجاشِيّ بذا، بل أمر بِرَدِّ الهدايا التي حملها إليه عضوا البعثة القُرشيَّة، بما فيها تلك التي استلمها بطارقته. ثم أكّد النَّجاشِيّ ضمانه لأمن المهاجرين المسلمين في بلاده، وأعطاهم حرية الإقامة فيها. فعاد عضوا البعثة منهزمين، رغم كل ما يمثلانه من عزّة ومنعة تعيشهما «قُرَيْش» آنذاك. ودخل ملك «الحَبَشَة» في لقاء ودي وتحالف مع المسلمين الذين سيشكّلون، لاحقا، واحدة من الدول العظمى.
لا تتوقَّف أحداث الهجرة الإسلامية إلى «الحَبَشَة» عند هذا الحد. فقد حصل أنَّ عبيد الله بن جحش، أحد المهاجرين إلى «الحَبَشَة»، قد ارتدَّ عن إسلامه؛ ودخل في دين أهل «الحَبَشَة». وكان لا بدَّ، وبناء على تعاليم الإسلام، من التَّفريق بين هذا المُرْتَدِّ وزوجه التي هاجرت معه، وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان. وهنا يكتب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، إلى النَّجاشِيّ، يخطب منه أم حبيبة لنفسه. فأمُّ حبيبة، وإن كانت قرشيَّة مسلمة مِن أتباع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، نسباً قرشيَّاً وولاءً إسلاميَّا، فهي، حينذاك، في حماية ملك «الحَبَشَة»؛ وهو بالتَّالي الذي يُسألُ عنها. ولذا، فإنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لم يخطبها من ابن عمِّه، جعفر بن أبي طالب (رض)، الذي كان قد عيّنه على رأس المهاجرين إلى «الحَبَشَة»، بل خطبها مِن النَّجاشِيّ المسؤول الأوَّل والرَّسميِّ عن حمايتها ورعايتها.
من جهة ثانية، فإن جماعة من أهل «الحَبَشَة» أعلنوا، وقتذاك، العصيان على النَّجاشِيّ. وقد تطوّر هذا الأمر إلى نزاع مسلّح بين الفريقين، وعلى الرغم من الحماية التي حصل عليها المهاجرون المسلمون من النَّجاشِيّ، وعلى الرغم من تعاطفهم الضمني معه، فإنهم لم يدخلوا طرفا في الصراع، ولم يطلب منهم النَّجاشِيّ هذا الأمر أبدا. وكأنهم كانوا يمارسون حيادا في الصراعات الداخلية في الدولة التي قدمت لهم حق اللجوء إليها. اكتفى المسلمون بالمراقبة؛ وكي يبعدوا عن أنفسه أي صفة في التحيّز، فإنهم كلّفا الزبير بن العوام بالمراقبة؛ وكان وقتها صغير السن لا يعتبر وجوده قريبا من ساحة الصراع فعل انحياز لأي فريق من المتخاصمين.
ينتصر النَّجاشِيّ ملك «الحَبَشَة» على أخصامه الداخليين. وتقوى شوكة الإسلام في جزيرة العرب؛ وينتصر، رسول الله، محمَّد صلى الله عليه وسلم، على المشركين. وهنا، يستعد وفد المهاجرين إلى «الحَبَشَة» للعودة إلى ديارهم؛ ويأبى النَّجاشِيّ أن يعيدهم بمفردهم. فيأمر ابنا له بمرافقتهم إلى بلادهم مع كوكبة من ستين فارسا حبشيا تؤمّن لهم الرعاية والمحافظة على أمنهم في طريق عودتهم.
يفهم من هذه الرواية لأحداث الهجرة إلى «الحَبَشَة» نمط من التصرف الدبلوماسي الراقي والمتقدم في أبعاده السِّياسِية والإنسانية، والذي ما زال النَّاس يفتقدون كَثِيراً من أسسه في زماننا المعاصر، ويسعون عبر المؤسسات المحلية والدولية والعالمية إلى تحصيله. أمّا موضوع هذا التصرف فحق اللجوء السِّياسِي وطرق تنظيمه.
أولا: لا يمكن النظر إلى فكرة الهجرة الإسلامية إلى «الحَبَشَة» إلا على أنها طلب للجوء السِّياسِي تتقدم به مجموعة مضطهدة سياسيا وعقائديا في بلدها إلى حكومة بلد آخر. وهذا اللجوء السِّياسِي الذي قام به المسلمون إلى «الحَبَشَة»، هو من نوع اللجوء السِّياسِي الجماعي وليس الفردي. هذه الجماعة اللاجئة أبدت تنظيما أساسا في وجودها؛ تجلّى في أنها عمدت إلى اللجوء بناء على قرار اتخذه المسلمون في بلدهم بشخص المسؤول الأول عنهم. ثم أن هؤلاء اللاجئين كان لهم تنظيمهم الخاص، إذ عيّن رئيس لهم، وحملوا معهم كتاب تعريف بهم وبمعتقداتهم من مسؤولهم الأول في بلدهم.
ثانيا: لا يمكن فهم ما قامت به «قُرَيْش» إلاّ باعتباره أعدادا لبعثة لاستعادة اللاجئين السِّياسِيين المعارضين لها. وأن هذه البعثة قد اعتمدت وسائل الدهاء الدبلوماسي ولم تعتمد الحرب أو الاغتيال أو الخطف؛ مما يدل على وجود رقي في مجالات التعامل مع الدول الأخرى، حتى ولو كان ثمة اختلافات أساسية في الرأي معها.
ثالثا: إن موقف النَّجاشِيّ ينطلق من مبدأ قبول اللجوء السِّياسِي ممارسة مثاليّة قائمة على حماية من ترى سياسة البلد اقتناعا بآرائهم ومعتقداتهم، وأنهم لا يسعون إلى إيقاع السوء ببلدها.
رابعا: إن طلب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يد أم حبيبة من النَّجاشِيّ، وليس من جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، لدليل على إدراك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لتابعية أم حبيبة، بحكم كونها لاجئة سياسية، للحاكم الحبشي الذي منحها حق اللجوء، وعلى أن علاقة اللاجئين السِّياسِيين ببلدهم الأم تتم من خلال حكومة بلدهم والبلد المضيف، وليس عبر علاقات مباشرة بين البلد الأم واللاجئ السِّياسِي.
خامسا: إن عدم تدخّل المهاجرين المسلمين إلى «الحَبَشَة»، في النزاعات الداخلية التي حصلت في البلد المضيف، وعلى الرغم من ميلهم الضمني إلى أحد فريقي النزاع، تعني إحتراما أساسا لمبدأ اللجوء السِّياسِي والذي يطلب عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للبلد الذي يمنح اللجوء.
سادسا: يدلُّ هذا جميعه على أنَّ المسلمين و«قُرَيْش»، كما ملك «الحَبَشَة»، كانوا يعيشون زمنذاك، وعيا حضاريا راقيا ومسؤولا في المجالات الدبلوماسية. ولعل عاملا من عوامل هذا الوعي يكمن فيما كانت تفرضه البيئة الاقتصادية القائمة على التِّجارَة المثلثة، والتي كان يشترك فيها العرب مع الآخرين. فمستوى المسؤولية السِّياسِية الدبلوماسية كان مشتركا بين المسلمين والمشركين في هذا المجال وعلى حد سواء.
سابعا: يظهر من كل هذا أنَّ الحياة العربية، قبل الإسلام، وخاصة في «مَكَّة»، لم تكن حياة تقوم على الفوضى والهمجية والغزو والسلب. لقد كانت حياة المجتمعات التجارية الراقية؛ وأنَّ الإسلام قد أتى ليدفع بهذه الحياة إلى رحابه السمحة، وليضعها أمام التزاماتها الإنسانية الراقية أنَّ كان تجاه المادة أو تجاه الروح. ولذا، فإن مسلكية المسمين في هذه الهجرة لم تكن إلاّ دفاعا لهذا الرقي الدبلوماسي، ولكن عبر إبعاده عن الكذب والرشوة والتضليل والتعسّف. وفي هذا ما يظهر عظمة بل إعجازا للإسلام في استيعابه لما سبقه ومدّه للخير الذي فيه بإمدادات السمو والرقي الإنساني العام.
*****
(إلى اللقاء مع الحلقة الثالثة: اعتمادُ مَبْدأ التَّمثِيلِ النِّيابِيِّ في مـُبـايَعَـةُ الأنْـصـارِ للـنَّـبـي صلى الله عليه وسلم).
————-
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي