أدب وفن

قناع بلون السّماء لباسم خندقجي… ماذا تريد أن تقول؟*

قناع بلون السّماء لباسم خندقجي… ماذا تريد أن تقول؟*


أ.د دريّة فرحات*


مداخلتي ستكون في عدة نقاط أو لعلها تساؤلات خرجت بها بعد قراءة هذه الرّواية، بداية نبارك للأسير باسم خندقجي هذه الجائزة ونقول إنّ الحياة مستمرة ولو من وراء القضبان.
واسمحوا لي أنّ ما اود طرحه من تساؤلات لا يرتبط بكون الكاتب أسيرًا في سجون الاحتلال وهو ما يحسب له ولنضاله ونرجو أن يرى نفسه خارج القضبان وإن كانت الحريّة هي حريّة النّفس والهُوية والانتماء.
إنّ ما يتبادر إلى الذهن أنّ هذه الرّواية تنتمي إلى أدب السّجون كون كاتبها يعيش في الأسر، وأدب السّجون هو نوع أدبيّ يصف الأدب المكتوب عندما يكون الكاتب مقيدًا في مكان ضد إرادته، مثل السجن أو الإقامة الجبرية، ويمكن أن تكون الأدبيّات حول السّجن، أو عن مرحلة قبله، وإمّا أن تكون من باب السّيرة أو من باب الخيال.
وما وجدناه من أسر مراد صديق نور في السّجون الإسرائيليّة يحيلنا إلى هذا العالم، ومعاناة الأم في زيارة ابنها الأسير تعبّر عن هذا الواقع الأليم الذي رأيناه في أكثر من رواية من روايات أدب السّجون.
لكن الرّاوي يقودنا إلى عالم آخر بعيد من ذلك، ويأخذ الرّواية بعيدًا من أدب السّجون إلّا ما يتعلّق بكون كاتبها هو أسير في المعتقلات.
ولا ضير في ذلك… لكنّنا هنا قد نقول إنّ الرّواية تثير قضايا أخرى فيها ما قد نقف أمامه متسائلين عن المراد والمعنى المستبطن.


تنطلق الرّواية مستوحية في بنائها روايات عديدة، ومنها رواية (قواعد العشق الأربعون) في ما له علاقة ببنائها الزّمنيّ، وايضًا تتناص مع رواية (أولاد الغيتو) لإلياس الخوري، وفيها يقدّم لنا الياس الخوري راويها آدم الذي هاجر إلى نيويورك وأراد أن يكتب رواية فينتقل إلى رواية حكايته الشّخصيّة، وهنا نرى أنّ الرّاوي نور في رواية (قناع بلون السّماء) يبدأ بالتعريف بروايته التي يريد كتابتها، وفيها يريد أن يتحدّث عن حقيقة مريم المجدليّة التي عرفناها في المرويات والكتب المقدسة بعدة مريمات، وهو يريد أن يكتب رواية ليرد بها على دان براون صاحب رواية (شيفرة دافنشي).
وما يهدف إليه نور هو أن يعيد مريم المجدليّة التي سرقها الغرب ويعيد لها هويتها يقول نور”أليس الاستشراق الذي هلكتني به هو من قضى على أنفاس المجدليّة في بلادنا، وجعلها تُرنّم وتبتهل وتصلي باللاتينية واليونانية والفرنسية القديمة/ أليس من حقّي أن أستعيدها بمحاولة بحثيّة على الرّغم من تفاهة قدري وتواضع موقعي الثّقافيّ”.
هذا ما يبحث عنه نور، وهو ما يرفضه مراد صديقه الأسير، فهو يرفض ما يقوم به نور ويرى أنّ عليه أن يترك الماضي والبحث في قضايا معاصرة مثل قضية بيوت أهالي حي الشّيخ جراح، أو الحفريّات المستمرة تحت المسجد الأقصى.
نعم هي البحث عن سرديّة نواجه بها السّرديّة السّائدة، أو السّردية الصّهيونية، فوجد نور ضالته في العودة إلى الماضي أمّا مراد أراد الحاضر.
من هنا فإنّ نور يتخطّى بعض الحواجز في بحثه هذا وفي بحثه عن هويته وحقيقته، يتساءل من أنا؟ من أبي؟ ما هي الأزقة؟ أين هويتي؟ أين ظلي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟
وفي سياق هذا البحث يستبطن نور شخصية “أور” ويبني معها حوارًا، ومنه تظهر أمامنا تساؤلات عديدة لماذا هذا التّشابه بين اسمي “نور” و”أور”، كلاهما يحمل المعنى نفسه؟ لماذا هذا التّشابه في الشّكل؟ وقد يكون في الطّباع.
وما الحاجة إلى هذا القناع الذي ارتداه نور؟ هذا القناع الذي هو بلون السّماء، هل الإشارة الزّرقاء تتطلّب ربطه بالسّماء؟؟ اي قدسية نبحث عنها؟
وتتعدّد الحوارات في الرّواية بين “نور” و”أور”، ومنها ربما نستبطن المسكوت عنه في الرّواية، فهل انتحال شخصيّة الصّهيونيّ هو الوسيلة لتقديم السّرديّة الصّحيحة عن حقيقة البلاد، وهل يمكن في تحطيم المرآة أن يتخلّص “نور” الخاضع من “أور” المسيطر، لعل الحوار الوارد في ص 134 من أبرز الحوارات التي تثير الشّك في النّفس، فكيف يمكن أن يولد “نور” من رحم صهيونية “أور” ومن النّكبة التي ألحقها به، ما يجعل “نور” جزءًا من “أور” و”أور” جزءًا من “نور”، ماذا يريد الرّواي/ السّارد أن يقول لنا؟ هل في ذلك اشتباه في الدّعوة إلى التّعايش معا، وإلى التّطبيع؟
ونتساءل عن “سماء” حبيبة “نور” التي شبّهها بمريم المجدلية، “سماء” الفتاة الفلسطينيّة ابنة الأرض التي حملت البطاقة الزّرقاء بعد 1984، وهي التي تشارك مع هذه الحملة للبحث عن الآثار. فلماذا تعاطفت “سماء” مع الهولوكست؟ وان كانت تؤكّد أنّها ضد الصّهيونية، وهل الهولوكست حقيقة أم هي سرديّة صهيونية بنت عليها خدعة كبيرة. وحمّلت النازية هذه المحرقة.
و”سماء” الغاضبة من “نور” عندما اعترف لها بهويته وبأنّه فلسطينيّ وأنّ البطاقة التي معه مزيّفة، فاتهمته بأنّه إمّا مجنون أو مطبّع خائن أو ضابط شاباك، وعليه أن يختار لنفسه القناع الذي يشتهيه.
أسئلة كثيرة لن أجعلها تطفو على السّطح، لكنّها تظلّ تثير الشكوك والرّيبة.
وهنا أرى أنّ الرّاوي قد بنى روايته التي كتبها على عدّة روايات لكن في الحقيقة وفي أثناء قراءتي لهذه الرّواية تخايل أمامي رواية لم يذكرها الرّاوي، فمن منا لم يقرأ رواية عائد إلى حيفا لغسّان كنفاني، وفي بنائه الرّوائي القائم على شخصية خلدون/ دوف فهما وإن اشتركا في جسد واحد لكن خلدون يحمل الهوية الفلسطينية ودوف يحمل الهوية الإسرائيلية(طبعا بين هلالين إن جاز أن نقول الهوية الإسرائيليّة) وإذا كان بطل غسان كنفاني قادته ظروف قاهرة إلى هذا الصّراع الوجوديّ في هوية الشّخصيّة، وأصبح خلدون معادلًا موضوعيًا لفلسطين، وتم الاستيلاء عليه من قبل عائلة يهوديّة مستوطنة حاولت غسل دماغه كما قام الاحتلال الصهيوني بشطب ذاكرة المكان، ولم ولن يجدي الحوار في استعادة خلدون/ فلسطين. فهل استطاع باسم خندقجي أن يصل إلى هذه الخاتمة، وإن مرّ في إشارات عديدة في روايته على توجيه اللّوم إلى بعض من استأنس السّلطة وقبل بها.
إنّها تساؤلات عديدة وهواجس تخطر على البال، ربما هي تدفعنا إلى هذا الحوار، فمن النقيض قد نصل إلى الهدف.
وإذا تركّزت مداخلتي على طرح هذه التساؤلات فإنّ هذا لا ينفي سلامة البعد الفنيّ والمنهجيّة السّرديّة المتينة، مع تحفظي على ما ورد في الرّواية من مقاطع فيها ما يخدش الحياء ومن تعابير جنسية، وتحفظي يرتبط ببناء العمل إذ إنّ حذف هذه المقاطع لن يؤثر على الرّؤية التي تقدّمها الرواية.
مع الشكر والمباركة من جديد وكل الرجاء بأن يتخلّص باسم خندقجي من قيوده المكانية، لأنّ الأسر لم يقيد فكره وخياله.

  • مداخلة قيلت في أمسية عن رواية قناع بلون السّماء (السّاردون يغردون) على منصة ZOOM
  • قاصّة وناقدة وأستاذة جامعيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى