أدب وفن

مقبرة الأحياء/ قصة قصيرة/ الروائية حنان رحيمي

قصة “مقبرة الاحياء” من ضمن مجموعتي القصصية “بائعة الاعشاب” اهديها الى كل من سمح لهم ضميرهم رمي اهاليهم بمأوى العجزة…

(مقبرة الأحياء)
وصلت إلى حيث أرشدتني الموظفة في مأوى العجزة.
كان الباب مفتوحاً، رائحة كريهة تنبعث من الغرفة مترافقة مع صراخ وشتائم وأنين إنسان، وكأنه في حالة إختناق.
رأيت امرأة ترتجف غضباً، تمسك بكتفي امرأة عجوز هرمة ممددة على سرير في زاوية الغرفة.. تهزها بعنف صارخة:

  • إنها المرة الرابعة اليوم التي أنظفك وأبدّل ملابسك… كفى.. ارحميني، ألا تتركيني أرتاح!!…
    كانت تبدو متعبة الجسد والأعصاب تكاد تفقد السيطرة على نفسها.
    تابعت صب غضبها غير آبهة بعذاب العجوز الخائفة.
    ـ آه.. انقطع ظهري، اللعنة على الساعة التي جئت بها إلى العمل في هذا المكان الكريه..
    ليتك تموتين أيتها التعيسة.. لماذا تعيشين؟..
    الحياة تركلك في كل مكان من روحك، مثلما ركلك من أتيتِ بهم إلى الحياة…
    موتي لم يعد لك مكان..
    لم يبق لك في هذا العالم سوى أنفاس واهية وجسد فانٍ، مجرد كومة لحم وعظام تسيل منها الأقذار، وتثير اشمئزاز من حولها.
    حتى الموت الذي تتوسلينه لا يسمعك…
    لا أعرف ماذا ينتظر ليحقق لك حلمك بالراحة الأبدية وينهي عذابك وعذابي!!..
    تابعت العاملة كلامها وهي تنظف العجوز:
    تباً لها من لقمة مغمسة بالقهر والعذاب وبأقذار الآخرين.
    كان أنين العجوز مريعاً، كلمات لا تستطيع النطق بها تتدافع في حنجرتها، تخنقها، فيرتعش جسدها لا إرادياً بما بقي فيه من أثر لحواس لم يكتمل موتها بعد..
    تنتفض مع كلمات العاملة، كل كلمة سوط يجلدها..
    يفر الألم دموعاً حارقة من عينين غادرهما الضوء.. لتملأ تجاعيد وجه حفره عمرا يناهز التسعين.
  • ماذا أرى؟ أين أنا؟.. ما الذي يحدث هنا؟…
    لم أشعر إلاّ وأنا أدفع العاملة بعيداً عن سرير العجوز:
  • أيتها المجرمة.. كيف تسمحين لنفسك الاستقواء على إنسان عاجز؟…
    حدقت بي العاملة ، رأيت الدموع تغسل وجهها قائلة:
  • من أنت؟.. من سمح لك بالدخول إلى هنا؟.. وما شأنك بالأمر؟…
  • جئت لزيارة هذه السيدة، هي من أقارب جدّتي، الصدفة أتت بي لأشاهد ما أشاهد من سوء معاملة.. كنت اعتقد أنني في مكان لرعاية العجزة والمسنين، فإذا بي في مكان للتعذيب.
    أجابت العاملة:
  • أنا لست مجرمة!…
    المجرم هو من اختار لأهله دار العجزة في آواخر أيامهم، ورمى بهم في مقبرة الأحياء هذه.. يأتون بهم حين يصبحون ورقة صفراء، ليفتتها صقيع الوحدة وتذريها آهات قلوبهم في لحظات النبض الأخير…
  • هذا يدفعك لمراعاة مشاعرهم والعطف عليهم وليس الغضب والتعنيف…
  • ما أراه هنا يكاد يصيبني بالجنون.. معاناتهم تسكنني.. غضبي سعير عذابهم اليومي المكدس في أعماقي..
    لست قاسية ولا عديمة الشعور، أنا أم أيتها السيدة!!…
    وحدي من يشعر بعمق جراحهم، صدى أنينهم لا يسمعه أحد سواي..
    أرقب عيونهم اللاهثة خلف الحزن.. يدخل عيوني رماد أيامهم المتناثر في أروقة وزوايا هذا المكان..
    أنا أقرب الناس اليهم، فعملي هنا العناية بنظافتهم..
    ليس أشق ألماً وخجلاً على الإنسان من هذا الموقف…
    كم أسمعهم يتمنون الموت وأنا أنظفهم.
    حتى الموت هنا مختلف…
    يقوم بمهمته على دفعات…
    يزورهم يومياً…
    يتفقد أجسادهم…
    يمتص جزءاً من الحياة فيها…
    يأخذ معه بعضاً من أنفاسهم ويذهب.
    أعاملهم بكل حنان، بعضهم يتعلقون بي لاعتقادهم أنني أحد أولادهم.
    حتى أسماء أولادهم التي لا يتعبون من الهذيان بها، حفظتها عن ظهر قلب.
    “تعبت يا سيدتي ما عاد قلبي يحتمل، كثير هذا الالم”.
    كانت العاملة تتكلم تاركة العنان لدموعها:
  • أنا التي أعمل ليل نهار من أجل أولادي، اتخيل نفسي أن أكون، يوماً ما مكان هذه العجوز، وحيدة في هذا المكان الموحش…
    لم اتمالك نفسي أمامها، وامام مرارة الواقع.
    خفق قلبي بشدة، توقف الزمن بي وعلامات الاستفهام المرعبة مزقت حواسي وألقت بها خارج جدران الغرفة…
    مصير الإنسان مجهول… ما الذي يمنع أن أكون أنا أيضاً، يوماً ما مكان هذه العجوز؟!…
    إقتربت من العجوز، هالني ما رأيت… وجه جمجمة مغطى بجلد أصفر شديد الشحوب… جسد ضامر ، أكله الكبر والعجز، حتى بات بحجم جسد طفل…
    يا له من قدر حين يبدأ بنا العمر أطفالاً لينتهي من حيث بدأ!…
    تفتح العجوز فمها، ذقنها يعلو ويهبط، تحاول إلتقاط صوتها لتقول شيئاً، ولكن تذهب محاولاتها في الفراغ…
    سألت العاملة:
  • أين أولادها وأحفادها؟… لماذا لا تتصلون بهم؟… العجوز تبدو في لحظاتها الأخيرة… أنا طبيبة وأعي هذه الأمور.
  • لديها ثلاثة أولاد خارج البلاد، اتصلت بهم إدارة المأوى بعد أن ساءت حالة العجوز، قالوا إنهم سيأتون قريباً… الطبيب قال إنها تحت وطأة العجز وأمامها أيام قليلة في الدنيا.
    انحنيت فوق الجسد المسجى، رأيت وجه أمي ووجه أبي.. رأيت وجهي، ووجوه امهات وآباء عبروا وسيعبرون من هنا..
    قبلت جبينها… إمتدت يدي تمسح دموعها.. تلامس شعرها، تغمر يديها الباردتين..بدأت إرتجافتها تخفت شيئاً فشيئاً، تبدلت ملامحها… ثمة إبتسامة إرتسمت على وجهها.. وكأن دفء الحياة تسلل إلى شرايينها الجافة…
    شعرت بيدها تتشبث بيدي.. من أين أتت العجوز بهذه القوة؟!…
    نطقت يدها بما عجز لسانها عن البوح به…
    فهمت عليك يا جدتي الطفلة، أنت سعيدة ومطمئنة الآن، تعتقدين أنها يد أحد أولادك…
    فلترقد روحك بسلام، لن أدعك ترحلين وفي عينيك صور أبنائك القاتمة، جرحاً كاوياً في إغماضاتك الأخيرة…
    لن أدع قلبك يودع الحياة محترقاً دون أن تطفئه لمسات حنان… سامحيني يجب أن أكذب عليك..فصرخت بها:
  • أمي أنا هنا بجانبك.
    قالت العاملة وهي ترتجف:
  • يبدو أنها تحتضر… لاحظت عليها ذلك منذ الصباح.
    أعرف جيداً هذه اللحظات الرهيبة.
  • همهمات مخيفة تنطلق من العجوز.. لهاث أنفاسها يتسارع… صدرها يعلو ويهبط بسرعة…
    ثمة كلمات تتزاحم على فمها سبقتها دمعة كبيرة من عينين جاحظتين في الفراغ، لينطلق صوتها بعد عناء:
  • إبنتي…
    تصمت بعدها إلى الأبد…
    لا أعرف كيف خرجت من قلبي صرخة قوية :
    ـ أم….ي!!!…
    حنان رحيمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى