رقصة الشعر بين النحت و الفكر
سارة بشارة الزين / شاعرة و ناقدة لبنانية
إنَّ عيْنَ الشاعر في جنونٍ رهيف
تجوبُ مابين السَّماء والأرض
والأرض والسماء
وكما يجسمُ الخيال
أشكال الأشياء المجهُولة
يمنحها قلم الشاعر شكلا ، ويخلعُ على الهبَاء
مستقرًا واسمًا.
-ثيسيوس
أحاول أن أنحت مقالتي هذه بإزميل الروح والخوف معًا، فصاحب الرقصة هنا نحّاتٌ ماهر، وملّاحٌ عميق، وأديبٌ أريب، وكاتبٌ ألمعيّ.
الشاعر “مارون أبو شقرا” يحمل في جوهره فلسفةً خاصّة في فهم الشعر وسبكه، ديوانه “رقصه ع باب الضو” جعل من الشعر رقصةً لا تنتهي في حضرة الصورة والدهشة، ولعلّ العنوان يشي بفلسفته الشعرية، فالضوء عنده هو اللمعة التي تفقدك ذاتك وتخرجك منك إليك بذكاء محترف.
من “بابل” إلى “أسبازيا” فـ”كفر حمام”، ومن “وديع الصافي” الى “منصور الرحباني” فـ”موريس عوّاد” وصولًا الى “فيروز”… يفرش الشاعر وطنًا بأكمله وثقافةً واعيةً حاضرةً بالأدب والفن والشعر والموسيقى، ومجدًا يعيش على جزيئات التفاصيل التي يجعل منها “أبو شقرا” قضيّة تستحقّ الاحتفاء.. ويصنع لها ذاكرةً تمتدُّ من جسد القصيدة إلى روح المتلقّي ليحقق مقولة “غوته”: “يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي توضع لك عثرة في الطريق”.
“السجاد: غيمة
والسما: خيمة
وكانو القمر والشمس يَوما جداد
وأطلس شِ إنّو قايم القيمة
وبعدن مَلايكْة القوافي ولاد
وعم ترقصي
وتطَّبّعي أعياد
ومطرح مَ إجرك وشوشِتْ غيمة
قالوا: شتي
عن غبرة السجّاد”
كثيرًا ما يغوص حرف “أبو شقرا” في فلسفة الأشياء ورمزيّاتها وعمقها وأبعادها، وكأنّه مصوّر حرّيف، يلتفّ حول الفكرة من زواياها اللامتناهية بحذاقة المترصّدين ليلتقط مشهدًا خاطفًا في لحظة تجلٍّ.. ثمّ يبدأ بعد ذلك النحت بهدوء على نار الشعر إلى أن تفضحه أنامله بنزفٍ جديد.
ثقافة الشاعر تظهر جليّةً في نصّه الشعريّ، فهو لباسه الأنقى والأصفى والأقرب لحقيقته ولما يتمنّى أن يكون عليه. وتظهر كذلك رؤيته الفكريّة بـ”ماكيافيليّتها” الذكيّة، ودبلوماسيّتها الأنيقة التي تشير إلى الأشياء من دون تسميتها، كما أنّ نظرته الثاقبة حول الحياة وترجّحها بين المادة والروح جعلت لحرفه وترميزاته لغة أشبه ما تكون بعقل الفلاسفة، لا يمكن الولوج إليها من دون التذرّع بالثقافة وسعة الاطلاع:
“كولوسيوم..
هيك الدني
كولوسيوم ما بْينمِحي
حيطان عالي
دْراج
حكّام وعبيد
يتقاتلو
يسنّو عَ دمّاتن حَديد
وتجّار تقبض
كل ما نَوْفَر وَريد
اللعبة تحت!
مطرح ما هيّي مسطّحه!
والْ فوق
عم بيزقّفو للمدبحه…”
يؤمن الشاعر كثيرًا بالحبّ، والحبّ وحده يشكّل عنده القضية الوجودية الأولى، هي التهمة التي يعشقُ أن تتلبّسه.
محبوبته متجدّدة ومتوهّجة، ففي كلّ قصيدة له ولادةٌ جديدةٌ ومختلفةٌ لها، وكأنّه يحاول أن يحيي نفسه عبرها، أن يستعيد شغفه في الأشياء وفي الحياة من خلال وجودها هي، وحضورها وجنونها هي.
لذلك نلاحظ أن حضور المرأة يطغى بقوّة في نصوص “أبو شقرا”، فالشعر عنده يتفجّر من تفاصيلها البكر، وكأنه يكتشفها في كلّ مرّة من زوايا مختلفة ويولد معها عند كلّ خفقة.
الشاعر ليس أبدًا من روّاد الحب العذري، فهو يؤمن بالجسد حدّ العبادة، ويتفجّر بالفكرة والروح حدّ الوله، بل إن الروح والجسد عنده لا ينفصلان، فهما يتماهيان ليكوّنا شهقة القصيدة المجاز.
“وبقعد لحالي بصير إتذكّر:
ليش الحبق بيفوح من إسمِك
عَ صوتك نْبيد السما بيسكَر
والليل حتّى تنعسي بْيسْهَر
والغيم ينقُل شِعر عن جسمِك”
لأبو شقرا معجمٌ خاص ينمّق من خلاله قصائده، ويطبع عليها حقوق الملكية الجنونية لابتداعات أكثر توسّعًا وخاصّيّة، “حفترلك، ينقح، مرشق، كركع، يشلّش،..” وغيرها من العبارات التي نكّهت نصّوصه وكأنه يرسم من خلالها بلادًا بثقافتها وعاداتها وتعابيرها وألفاظها، فيخلّد طِباع القرى اللبنانية العريقة ويترك في نفوس الناس إرثًا بطعم الشعر.
لا يمكنك أن تقرأ ديوان أبو شقرا من دون أن تلفتك علامات التعجّب في نصوصه، فالتعجّب عنده نقطة ارتكاز القصيدة وتوكّئها على عصا الدهشة وجفن التخييل… يُعمل حواسّه بانزياحٍ ملموس بين النظر والذوق واللمس والشم ويظهر بوضوح تعلّقه بالزهور (الغاردينيا على وجه الخصوص)… أمّا حاسّة السمع عنده فتظهر من خلال الإيقاع الداخلي لأغلب قصائده حيث أنّه يحرص على موسقة الحرف حتى تكتمل الرقصة معه فكما تقول الكاتبة الأمريكية “أناييز نين”: “الشِّعر هو الصدى الذى يرقص مع الظلال”.
ديوان “رقصه عَ باب الضو” حمل الكثير من اللمعات والصور البكر والنحت والترميز والعمق الذي يميل في بعضه إلى مخاطبة النخبة من القرّاء المثقّفين مما قد يدخله ذلك في جدليّة تحميل اللهجة المحكية ما لا تحتمله، غير أنّ إيمان الشاعر الكبير بأنّ الإبداع الشعريّ لا يؤطّره شكل أو لون أو حدّ جعله يغوص في حربه مع الفكرة حتى يقدّم للشعر وجهًا جديدًا وبصمةً يهتدي بها من بعده.
تحليل قصيدة “شغل أهلي”:
نصّ القصيدة:
“من قبل أوّل صبح
أهلي هوْن …
جدّي يْعمّر ،
يكتب ويزرع …
من لون وجّو الأرض تاخد لون …
وْمن كتر ما طرطق عَ سطح الكون،
فيَّق الشمس…
وْعوَّدا تطلَع !”
”ينبغي أن تكون إقامة البشرية على الأرض إقامة شعرية كي لا تتخشّب المشاعر.”
- الشاعر الألماني هولدرلين
ما هو الشيء الذي يمكن له أن يكون قبل أوّل صبحٍ موجودًا قبل الوجود؟
لعلّها الفكرة! هذه فلسفة الوجوديين الذين آمنوا قبلًا بقيمة الإنسان والهدف من خلقه وحياته.
الوجود هنا في فكر الشاعر هو أهله، وعلى الرغم من أنّ الشاعر استخدم ياء المتكلّم، أي نسب أصل الوجود إلى أهله هو، إلا أنّه لم يُرِدْ بذلك تخصيص الذات بقدر ما كان يعمد -باعتقادي- الى الإشارة الى الفطرة الأولى النقية الخيّرة التي فطر الله الناس عليها، وإذا ما أردنا تضييق الدائرة أكثر، نقول إنّه يقصد أهله اللبنانيين الأوائل لكي يقول إنّ هذه الأرض لنا، وكأنّه بذلك يُشير بلمحة ذكية وومضةٍ لافتة الى ما مرّ على لبنان وتاريخ لبنان من احتلالات وانتدابات وحروب وانتهاكات وسطوات وسيطرة من قبل دولٍ كثيرة من حوله، قريبةٍ كانت أو بعيدة، هو يرسّخ (بقوله “أهلي”) مفهوم الوطنية والانتماء والأحقّيّة والوجود.
وقد جاء استخدامه للفظة “جدّي” تحديدًا لافتًا جدًا ويحمل دلالات أساسيّة تصوّب فكرة القصيدة، فنحن إذا ما أردنا الحديث عن أصالة الشيء نقول “ورثناه أبًا عن جدّ”، والجدّ هنا هو التاريخ الذي بُنيت عليه حضارتنا، هو الأساس والأصل والأصالة المعتّقة برائحة الإنسان اللبناني الأوّل على هذه البقعة.
يقدّم الشاعر لنا على يديّ جدّه أسس بناء الحضارة:
الأدب/يكتب- العمران/يعمّر- الزراعة/يزرع.
هذه الثلاثية الذهبية هي التي تصنع الأوطان وتبني الحضارات، ونستطيع أن نلاحظ أنها مرتبطة بالـ”يد”، اليد التي تكتب وتعمّر وتزرع، تلك الأنامل التي غرزت في الأرض عميقًا حتى أعطتها من لونها وسحنتها وتعبها، وإن لون الوجه هنا لا يقصد من خلال الشاعر فقط سطحية البشرة، بل هو يتحدّث عن حكاية كدٍّ وتعبٍ وعملٍ وعناءٍ، كل هذا يختصره بلون وجه هذا الجدّ.
ثمّ إنّ من اللطائف الشعرية الذكية التي تجعل لأبو شقرا لونه الشعريّ الخاص قوله “طرطق”، وهذه الكلمة تفيد حركة الضرب القوي على الشيء وتحمل معها صدى مسموعًا وهي عمليّة تحتاج إلى تكرار مستمر كي تصدق عليه التسمية، وكأنه بهذه العبارة يقول لنا إنّ الأثر الحقيقيّ للأشياء والأعمال يحتاج الى نحتٍ جدّيّ، وعملٍ حقيقي يكون له صدى بارز وقوله “من كتر” دليل آخر على أهميّة المواظبة على الفعل وكأنّ نتاج التعب لا يتحقق بسهولة وبساطة بل يحتاج إلى أن يطرقه غير مرّة بنزف وجِدّة فكما يقول الشاعر أحمد شوقي “وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي.. وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا”.
“فيّق الشمس وعوّدا تطلع”، هذه الفكرة أو الفلسفة يؤمن بها أهل القضية والثورة والإصلاح، وهي أن الوجود مسخّر لهذا الإنسان وأن بيده أن يعوّد الشمس على شيء كنّا نظنّ أنها مسيّرة في فعله، وكذلك بيده أيضًا أن يدمّر ويغيّر ما كان يومًا نظامًا طبيعيًّا للوجود، فالفكرة هنا تحتمل الشيء ونقيضه.
يعتبر الشاعر أنّ نحت الإنسان الجادّ يغيّر سير الكون وما فيه “أتحسبُ أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر”، فمن عرق جبين الأوّلين طلعت الشمس وأخذت الأرض لونها. والشاعر يؤمن كثيرًا بأن يد الوطن وأهل الوطن أقوى من أي اعتبار وادعاء، وأنّها لو شدّت على زند الوطنية والإنسانيّة والتكاتف لأنجبت ألف شمسٍ جديدة ولولدت كل يومٍ حضارةً أجمل.
استخدام الشاعر للقافية (لون – كون) وما فيها من نكهة فريدة ولهجة تظهر عند اللفظ تحيّزًا واضحًا للهجة اللبنانية، مع استخدامه للقافية الثانية (يزرع-تطلع) وما للروي العين الساكنة من رنّةٍ وصدى سمعيّ، هو خيار يضيف الى القصيدة إيقاعًا متكاملًا وماتعًا يؤكد لنا أن الشعر يزداد تكاملًا كلّما احتضن المبنى والمعنى معًا.
“مارون أبو شقرا”.. شاعرٌ بلغ بمسيرته الشمس وعوّدها على سطوع حرفه بعد أن أشرق الشعر من بين يديه ذهبيًّا راقصًا على باب دهشته البكر.
*نقلا عن موقع lebanontimes .news