مُحَمّد شُكري وصداقاتُه الأدبيّة مع مشاهير طنجة في ذّكراه ,من قريةٍ صغيرةٍ مغمُورة .. إلى حاضرةٍ كبيرةٍ مشهُورة
مُحَمّد شُكري وصداقاتُه الأدبيّة مع مشاهير طنجة في ذّكراه
من قريةٍ صغيرةٍ مغمُورة .. إلى حاضرةٍ كبيرةٍ مشهُورة
د. محمّد محمّد الخطّابي *
الكاتب محمد شكري الذي ملأ الدنيا وحيّر القرّاء المزداد فى قرية بني شيكر، وهي قرية ريفية صغيرة مغمورة، غير بعيدة عن مدينة الناظور (شمالي المغرب)، ولد في أسرة فقيرة فى الخامس عشر من شهر يوليو عام 1935 –والمتوفّى فى الخامس عشر من شهر نوفمبر 2003) ، وقد أرغمته معاملة أبيه العنيفة له وظروف عيشه الممضّ على الفرار، ثم الهجرة وهو لمّا يزل فى شرخ شبابه وريعان عمره، وبعد راويته ( الخبز الحاف) نقله أدبه من المَحليّة إلى العَالميّة .
عاش سنواته الأولى في مدينة ملتقى البحريْن طنجة محاطاً بأجواء العنف ،والبغاء،والفقر، والتهميش، والمخدّرات، وعندما بلغ العشرين من عمره انتقل للعيش في مدينة العرائش للدّراسة، وخلال هذه المرحلة من عمره طفق يهتمّ بالأدب، وفي فترة السّبعينيات عاد إلى طنجة من جديد، حيث كان يتردّد على الحانات، ويرتاد مواخير وأوكار البغاء، كما بدأ يسجّل تجاربه الشخصية المُعاشة، وينشرها على الناس، كانت أولى قصصه تحت عنوان «عنف في الشاطئ»، التي نشرها في مجلة «الآداب» اللبنانية عام 1966. وقد أفضت به اهتماماته الأدبية لمصاحبة كتّاب أجانب معروفين عالميين، كانوا يقيمون في طنجة مثل الكاتب الأمريكي بول باولز، والكاتب الفرنسي جان جينيه والأمريكي تنيسي وليامز وسواهم، وقد سجّل لقاءاته بهؤلاء الكتّاب في مذكراته «بول باولز وعزلة طنجة» أو «عزلة بول باولز في طنجة»، ثم في كتاب «جان جنيه وتنيسي وليامز في طنجة»، بالإضافة إلى إبداعاته الأدبية، ترجم كذلك إلى اللغة العربية أشعاراً لشعراء إسبان مثل أنطونيو ماشادو، وفيسينتي أليكسندري (جائزة نوبل في الآداب عام 1933) وفيدريكو غارسيا لوركا وآخرين.
من المحلية إلى العالمية
وجاءته الشهرة منقادةً إليه تجرجر أذيالها – في ما بعد – بفضل روايته الذاتية الذائعة الصّيت «الخبز الحافي» (1973) التي نقلته من المحلية إلى العالمية، والتي ظلت محظورة في البلدان العربية، ولم تنشر في المغرب سوى عام 2000، له كذلك “زمن الأخطاء” (1992) و”وجوه” (1996) وهاتان الروايتان الأخيرتان تشكّلان إلى جانب روايته الأولى الثلاثية التي تحكي سيرته الذاتية أو قصّة حياته.
الترجمة الإسبانية لكتابه «بول باولز وعزلة طنجة»، كانت قد صدرت عن دار النشر الإسبانية «كاباريه فولتير» في مدينة برشلونة، يدور كتاب شكري حول هذا الكاتب الأمريكي الذي عاش في هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947، والتي ظلّ فيها إلى حين وفاته عام 1999.
يشير الكاتب الإسباني كارليس خيلي إلى «أن محمد شكري يأسف للسّطحية التي عالج بها بعضُ الكتّاب الأجانب صورة مدينة طنجة، والأدهى والأمرّ من ذلك الاحتقار، والكراهية، والعنصرية والنظرة الدّونية التي كان ينظر بها هؤلاء الكتّاب إلى السكّان البسطاء في هذه المدينة». وقد علّق شكري عن ذلك بقوله: “أيّاً كان من هؤلاء الكتّاب بعد أن يقضي بضعة أسابيع في طنجة يمكنه أن يؤلّف كتيّباً عن هذه المدينة.”
الأمريكي بول باولز و زوجته جِينْ
ويشير الكاتب كارليس خيلي إلى أن كلاّ من الكاتب الأمريكي بول باولز وزوجته جين اللذين استقرّا في هذه المدينة منذ عدّة سنوات، كانا بؤرة وبوتقة اهتمام العالم الأدبي الذي ينقله لنا شكري بصراحة مُرّة، الذي كان يعرف جيّداً بول لمدّة تزيد على 25 سنة، حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كلّ صباح من سيرته الذاتية، التي كانت في ذلك الوقت تحمل عنوان «من أجل كسرة عيش» أو «من أجل لقمة خبز»، والتي كان بول باولز يترجمها إلى اللغة الإنكليزية، بعد ذلك بدأ الخلاف يدبّ بينهما ، والشنآن، والتباعد، والتنابذ يستشري بينهما.
يصف لنا شكري باولز بتلقائية مطلقة، حيث يقول عنه إنّه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش (الكِيف كما يُعرف في المغرب، وكما يورده، أو يكتبه الكاتب الإسباني كارليس خيلي )، إلاّ انّه خارج المنزل كان يشرب السجائر، كان إباحياً، مثليا، ولم يخف شيئاً على رفيقة عمره جين، كما أنّه كان نخبوياً وعنصرياً، يقول شكري عنه: “كان يروقه المغرب وليس المغاربة، وكان دائماً في حاجة للابتعاد عن العالم”.
ويضيف الكاتب الإسباني قائلاً: «إنّ شكري عندما يحلّل، ويشرّح بذكاء الحياة الأدبية لبول باولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية، كان ينتقد نقداً لاذعاً أحد كتب باولز وهو «مذكّرات رحّالة» حيث كان يقول عنه أنّه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملّة، كانت الغاية من وضعه أداء تكاليف التطبيب والعلاج لجين»، وفي رأيه أنّ الجنس كان هو سبب جميع المصائب، والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهدّدة بتدمير وتحطيم نفسها ودائماً تنتظرها نهاية مأساوية مؤلمة وقاسية». ويشير شكري إلى “أنّ هذا العمل الأدبي قد شاخ كثيراً مع مرض جين ممّا دفع بباولز إلى القيام بترجمات متعدّدة لكتّاب عرب، كما أنه كان يدلي بلقاءات واستجوابات أدبية، ثم أخيراً طفق في كتابة يومياته الشخصية»”.
حقائق مرّة وأسرار مثيرة
يقول الكاتب كارليس خيلي إن كتاب شكري أثار حفيظة بول باولز ـ حسب “ميغيل لاثارُو ” مسؤول دار النشر (كاباريه فولتير) فى برشلونة . وكان الكاتب الفرنسي جان جينيه قد غضب كذلك على شكري لنشره أسرارا كان قد أسرّ بها له من قبل ضمن كتاب آخر باللغة الإسبانية، الشيء الذي أدّى إلى قطيعة بينهما، وقد وعد المسؤولون عن دار النشر آنذاك أنهم سيعملون على إصدار هذا الكتاب كذلك باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى كتيّب آخر لشكري كذلك حول الكاتب الأمريكي تنيسي وليامز يحمل عنوان: «جان جينيه، وتينيسي وليامز في طنجة”.
يشير الكاتب الإسباني إلى أنّ هذه الكتب والمنشورات الجديدة لشكري جاءت نتيجة التقارب والتعاون اللذين كانا قائمْين بين الناشر ميغيل لاثارُو والمترجمة رجاء بومدين، وبين شقيق شكري عبد العزيز. الكاتب لم يترك أيّ وصيّة مكتوبة رسمية وموثّقة، إلاّ أنّ الوارث يحتفظ في مرآب في ظروف غير جيّدة بمكتبة شكري الخاصّة وبعض الموروثات الأخرى، منها “وجوه” و”زمن الأخطاء” (حول التضحيات التي بذلها شكري لتعلّم القراءة) . كما كانت دار النشر كاباريه فولتير قد وعدت بإعادة نشر كتابه الشّهير «الخبز الحافي» في طبعة جديدة جيّدة على أساس أن يحمل هذه المرّة عنوان «الخبز» وذلك باقتراح من الكاتب الإسباني الراحل المعروف خوان غويتيسولو (الذي كان مقيماً آنذاك في المغرب) الذي كتب تقديماً أو تمهيداً للكتاب، الذي نحن بصدده حول بول باولز، حيث كانت له هو الآخر “معرفة واسعة عن تلك الفراديس الأردية الواقعة في شمال أفريقيا”.
إنطلاقاً من صداقته وقربه من الكاتب بول باولز كتب محمد شكري هذه الشّهادات الحميميّة التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق المرّة والأسرار المثيرة التي ظلّت طيّ الكتمان، والتي لم يتمّ نشرها من قبل عن المعايشات والمغامرات الطنجوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي. في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتّاب المرموقين في عصره مثل وليلم بوروغس، وألن جينسبيرغ، ترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت بهذا الكاتب الغريب وزوجته جين. إنه كتاب ينبض بالعواطف ويحفل بالعنف، ويطفح بالحقائق المثيرة حول باولز وكلّ هؤلاء المحيطين به الذين جلبواً كثيراً من المتاعب الخطيرة، ووجع الدّماغ لشكري، ولقد بلغ الأمر بواضع هذا الكتاب إلى الإفصاح عن شعوره بنوعٍ من المرارة والمضض والضنك من نشر هذا المؤلَّف، حيث قال شكري عنه:” بكتابي هذا حول بول باولز قتلتُ والدي الثاني”.
بول باولز وعزلة طنجة
كان قد صدر هذا الكتاب باللغة العربية تحت عنوان «بول باولز وعزلة طنجة» عن منشورات الجمل الطبعة الأولى عام1997. وكان هذا الكتاب قد تمّ تقديمه بعد ترجمته إلى اللغة الإسبانية بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2012 في مكتبة «الأعمدة» في مدينة البوغاز (طنجة) بحضور الكاتب الراحل خوان غويتيسولو ، ومترجمة الكتاب رجاء بومدين، ومديرة المكتبة سيسيليا فيرنانديث، وأشارت المترجمة إلى أنها واجهت صعوبات جمّة حتى رُخِّص لها بنقل هذا الكتاب إلى لغة سيرفانتيس من طرف ورثة محمد شكري، خاصّة من طرف أخيه عبد العزيز.
كما واجهت صعوبات في التعاقد مع ناشر إسباني لإصدار هذا الكتاب في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تشهدها إسبانيا فى ذلك الإبّان ، إلى أن رحّبت دار النشر «كاباريه فولتير» بنشره بمبادرة من الناشرالإسباني ميغيل لاثارُو غارسيا، وعبّرت المترجمة المقتدرة عن سرورها وابتهاجها لخروج هذا الكتاب إلى النور.
أمّا الكاتب خوان غويتيسولو فقد كان قد نوّه بالوصف الذي يقدمه شكري للموسيقار الأمريكي برايان جيسين الذي عاش هو الآخر في طنجة، وتعلّم اللهجة الدارجة المغربية (العاميّة) لمعايشته عن قرب للمغاربة، واغتنم غويتيسولو هذه الفرصة ليتحدث عن تصفية الحسابات التي كانت بين شكري وباولز الذي وصفه «بأبيه الأدبي» لدواعٍ مادية، وقال الكاتب الاسباني «إنّ هناك نوعاً من التظلّم في هذا الشأن، ويبدو لي أنه من الأهميّة بمكان معرفة وجهة نظر مغربي مُعوز كان يعيش بين ثلّة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة فردوسا أرضيا، ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا».
وكان غويتيسولو قد ذكّر الناشر ميغيل لاثارو بمطلبه السابق وهو أنه عند إعادة نشره لكتاب شكري «الخبز الحافي» عليه أن يضع له عنوان «الخبز» فقط، لانّ عنوان الخبز الحافي يمجّه الذّوق الإسباني، وهو لا يعني شيئاً في اللغة الإسبانية، وكان قد قال له مازحاً في هذا السبيل ” إنّك لو احتفظتَ بهذا العنوان فتأكّد أنّك سترتكب جريمةً في حقّ اللغة الإسبانية ! ” .
في ضيافة هِرَقل ومغارته الشّهيرة
كان بول باولز يقول إنّ حياته تنساب في هذه المدينة في هدوء، وأصبح لا يطيق العيش ولو لمدّة شهر واحد في المدن الغربية الكبرى. ولم يكن لديه ما يفعله في أخريات حياته سوى الكتابة التي كانت قد أصبحت متنفّسه الوحيد، كان يستقبل في منزله العديدَ من الأصدقاء، وقد تحوّل بيته إلى صالون أدبي من طراز رفيع يؤمّه مختلف الأدباء والكتّاب، فضلاً عن المشتغلين بالسّينما الذين كانت لهم رغبة في نقل بعض أعماله إلى الشاشة الكبيرة، وهكذا عندما أخرج المُخرج الإيطالي المعروف برناردو برتولوتشي روايته «السّماء الواقية» لباولز لم يكن يتوقّع هذا الأخير أن يحقق هذا الشريط أيّ نجاح، وعندما أخبره صديقه رُوسل «أنّ هذا الفيلم قد تمّ عرضه كذلك بنجاح في المكسيك عبّر عن دهشته، وكان يقول ربّما كان خير قرار اتّخذه في حياته هو عدم الإقامة في إحدى المدن الغربية. فهو في طنجة كان يعيش حياة هانئة هادئة ولا يزعجه أحد قطّ، بل أنّ قراره باختيار العيش في طنجة كان من أهمّ الأحداث المهمّة في حياته، وهو لم يشعر قطّ بأنّه كان وحيداً، بل كانت له علاقات اجتماعية متنوّعة، وأصبح معظم الناس يعرفونه. وكان يقول إنّ الحياة في الغرب تحوّلت إلى كابوس والكوابيس لديه منها الكثير. إنّ وجهه المستطيل، وإنّ عينيه اللاّمعتين والصّافيتين، وقامته كل ذلك لم يكن ينسجم مع صوته الخفيض الذي يبدو وكأنه ينبعث من أعماق محيط بعيد. كانت حياة باولز تمرّ في هدوء في طنجة، فهو كان يصحو باكراً ليكتب بضع وريقات، وعندما يأتي المساء كان يشعر بسعادة غامرة، فالمساء جميل وليس له نظير في هذه المدينة السّاحرة التي تطلّ على أوروبّا، والتي أقام ونام فيها «هرقل» في مغارته الأسطوريّة الشهيرة بعد أن أنجز عمله، والتي عَلِق بها وعشقها العديد من الأدباء والشعراء والشخصيات التاريخية والسياسية والأدبية والفنية والسينمائية المعروفة. كما تمّ تصوير العديد من الأفلام العالمية بها. كان باولز يقول في هذه المدينة يعيش المرء في هدوء وبدون استعجال.
صداقات باولز مع كبار المشاهير
كانت تربط بول باولز صداقات مع العديد من الأدباء الكبار المعاصرين له من مختلف الجنسيات مثل كارلوس فوينتس، وأوكتافيو باث، وخوان غويتيسولو، وخوان رولفو، وكان من أشدّ المعجبين بهذا الكاتب المكسيكي، كما كان يحلو له الحديث عن الأدباء والفنّانين، والشّعراء، والمشاهير الذين زاروا مدينة طنجة، أو أقاموا فيها، منهم باربارا هوتون، وزوجها غاري غرانت، وأوجين دي لا كروا،و ونستون تشرشل، وخورخي لويس بورخيس، وروبين داريوّ، وتنيسي وليامز، وبرايّان جيسين، وماريانو فورتوني، وهنري ماتيس، وجان جينيه، ورامبرانت، وجاك ماجوريل، وإيف سان لوران، ومارلين ديتريش، وغاري كوبر، وسواهم وهم كُثر، كلهم هاموا بهذه المدينة وكتبوا عنها الكثير.
الكاتب والرّوائي الإسباني خبيير بالينسويلا (صاحب آخر عمل روائي عن مدينة طنجة بعنوان «الطنجوية» أو “طنجيرينا” الصّادرة عن دار النشر الإسبانية المرموقة «بلانييتا»، والتي نقلها الى اللغة العربية المترجم الحاذق الصّديق محمد العربي غجّو ) يقول عن صاحب «الخبز الحافي»: «كان محمد شكري كاتباً كبيراً، وشخصاً رائعاً، هذا المغربي الذي حتى سنّ العشرين ربيعاً من عمره لم يكن يكتب ولا يقرأ، والذي انسابت طفولته، وانصرم شبابه في بؤسٍ مدقع، وعنفٍ فظيع ،وظروفٍ قاسيةٍ صعبة كان كاتباً يُنتسب إلى طينة هؤلاء الكتّاب الذين يُنعتون بالملعونين، لقد خلّف لنا أعمالاً إبداعية قصيرة، ولكنّها أعمال مؤثّرة وجريئة تنبض بحبّ الإنسان والإنسانية، ونبذ الظلم والمظالم، والأستبداد والإستعباد ».
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب ، عضو الاكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.