أدب وفن

«كَارَه وكَوَاره» لكارولين زعرب طايع جسر تلاقي الأجيال على التراث والقِيَم

الشاعرة ميشلين مبارك

ما أصعب الكتابة باللغة الفصحى عن كتاب بـ «اللغة المحكية»، والصعوبة لا تكمن في ماهية الكتابة بل في إيصال الرسالة التي أرادها الكتاب والكاتبة إلى القرّاء، خصوصاً وأنّ اللغة المحكية هي لغة القلب المباشرة كما يُقال، فكيف بالحريّ إن كانت لغة تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا اللبنانية الجميلة الساكنة في القلب والوجدان.

«كَارَه وكَوَاره» كتاب صادر حديثاً للروائية والحكواتية كارولين زعرب طايع. يطالعنا الغلاف الخارجي للكتاب بلوحة تراثية مضيئة للفنان التشكيلي هادي يزبك. لوحة تمثل معصرة الزيتون العلماوية الجنوبية في غرفة عقد عتيقة تحاكي البيت الأول والحبّ الأول في كلّ تجليّاته. تخرج هذه اللوحة عن صمتها لتخبرنا عن الكاره التي هي الوسادة التي توضع عليها العجينة قبل خبزها على الصاج. والكواره أي المكان حيث يُخزّن فيه القمح. كلّ ذلك يمهّد للقارئ للإبحار في رحلة عبر الزمن، وهو ليس زمن كارولين فحسب بل زمن اللبنانيين جميعاً على إختلاف انتماءاتهم المناطقية والطائفية.

مقدمة الكتاب للشاعر هنري زغيب باللّغة المحكية بعنوان «التراث اللبناني بلغتو وأعلامو»، يسلْط فيها الضوء على اللغة البيضا المحكية التي هي «لغة القلب المباشرة، هيي اللغه الباقية بعدما بتنمحي اللغات المكتوبة»، كما ويشدّد زغيب على الوصف السردي عبر الكتابة للكاميرا وهو ما ميّز فعلاً أسلوب الكاتبة، داعياً إلى أهمية إعادة التذكير بتراث الضيعة اللبنانية للحفاظ عليه.

يحتوي الكتاب على ثلاث عشرة قصة محكية تبدأ بحكاية زخيا الذي يحب مدرسة الطبيعة أكثر من مدرسة الضيعة، يحمل في ذاكرته أبجدية العنزات والبقرات والأشجار أكثر من حروف اللغة العربية والحساب… وحكاية «تلاقوا العيون» قصة حبّ جميل ونزهه من أول نظرة إلى أول لقاء على العين وبوسة بيسرقها الحبيب من حبيبته مع آه الميجانا ودبكة الدلعونا… وصولا إلى آويها الزلغوطة ورفعة المحدلة وجرن الكبة… أمّا حكاية «تجا» المرأة العاقر ابنة كاهن الضيعة والتي تقصد المنجم المغربي في محاولة للخروج من مأزقها، فتكتشف في النهاية «أنّ توقيت السما غير توقيت الأرض» (ص: 74).

في رحلة الإبحار مع الكاتبة طايع، ننتقل إلى حكايات الأجداد وكنوز الأرض وقصة «إم سمير» وزهرة الملح وإرث الملاحات، ليتعرّف القارئ على أنواع الملح واستخداماته: «خلطة الملح مع المي وكل نوع ملح وإلو طقس» (ص: 91)، ثم قصة «تشوشط خير» مع أبو نجيب المنتظر غلات قمحاته قائلاً لزوجته: «كمرا السنبلة المليانه بتقول نحن مين ت نشمخ راسنا قدّام رب العالمين». وقصة ديب وشتلة التبغ وزيزفونة المنتظرة الموسم لتشتري فستان جديد. وموسم العزّ مع دودة القز والحرير، وغيرها الجميل من الحكايات. ولعلّ أجمل ما فيها ليس الحنين إلى الماضي وما لهذه البساطة من إنعاكس على حياة من سبقونا فحسب، بل تجلّت المقدرة الجمالية في تمرير الكاتبة بأسلوبها السهل والرشيق: رسائل عن قِيَمٍ فقدناها أو كاد الجيل الجديد أن يفقدها، ألا وهي الفضائل، كالحشمة، والخجل، واحترام الكبير، ومحبة الزوج لعائلته وطاعة الزوجة له… ولعمري أنّ أجمل كل تلك الفضائل هي القناعة. في الواقع، «كاره وكواره» جمع مشاعرنا وذكرياتنا المتناثرة من أحزان وأفراح، ليبني منها جسراً بين تراث الأجداد وفضائلهم لتلاقي الجيل الجديد، فتمدّه بالقوة وقت الضعف، والعزيمة أثناء الشدائد. جسرٌ بنته الكاتبة بلغة محكية جميلة وبأسلوب تملك صاحبته عين كاميرا تصوّر التفاصيل لتُبرز العمق. كتاب زهّر في حقل الثقافة، ليؤكد لكل مواطن هنا وفي الإغتراب أنّ لبنان ما زال جميلا، وأنّ جمال المرء ينبع من الداخل من البساطة، والفرح يكمن في القناعة.

المصدر : صحيفة اللواء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى