أدب وفن

إلى الشعر …من باب الأمير

الكاتبة سارة بشار الزين

“أين تبحثون عن الجمال؟ وكيف تجدونه إن لم يكن هو الطريق والدليل؟” (جبران خليل جبران)

لقد دلّني على الجمال “عكّاز الريح” الذي توكّأتُ عليه كي أعبر عاصفة الحرفِ المسكون بالذاتيّة العالية، وأرق الوجود، ووجع الإنسانية.

ديوان “عكاز الريح” للشاعر “محمد عبدالله البريكي” يحمل الكثير من التعب الموشّح بالندى والحزن والبكائيّات التي تقرّبك من الشاعر وهواجسه وجوهره.

يتدثّر بالمجاز، ويلتحف الحداثة حدّ الدفء والشغف. يُتقنُ الرقص على الوجع المخنوق بين صدر القصيدة وخاصرة الحرف.

يؤرشفُ لغة الذات بتقنيات شعرية وسردية أنيقة يسكبها في جسد القصيدة حتى تستحيل امرأةً من تعب، أو وطنًا من وجع.

ولا يخلو حرفه من الفخر وعزّة النفس وتفرّدها كما ظهر واضحًا في قصيدته “الى مصر من باب الأمير”:

“فلي وقفة الأهرام في كلّ خفقةٍ

ولي في ابتهالات المشاعر مسجدُ”

وفي غير موضع حيث انتشى الحرف مزهوًّا رغم ما يعانيه من ألمٍ وانصهارٍ مع الحزن والتيه:

“يا ليت أمّي التي لم تنجب امرأةٌ

مثل الذي أنجبتْ.. ما أربكت أبتي”

إلى أن يقول لسيّدته وحبيبته وكأنّه يعود من جديد إلى ذاتيّته وماضيه وفطرته(وظنّي أنه يخاطب روحه الطفلة التي حملت حزنه وذكرياته):

“منذ اقتسمنا رغيف العمرِ كنتِ معي

توزّعين على الألحانِ حَنجرتي

هناكَ حيثُ نسينا الطينَ، تحرُسُه

أفلاج قريتنا، خَلَّفتُ أقنعتي

وطفتُ كوكب أحلامي وليس معي

إلا مدينة أحزانٍ بها صفتي

تضمُّ لوزَ خطا الذكرى وفُستُقها

وشفرةً تحلقُ الأيّام في السنةِ

وطاسةً لحليبِ الشمسِ أحفظُها

وكسرتين من الأوهامِ للعنتِ”

بين القهر والدمع، يبني الشاعر خيمةً أعمدتها والداه، ولكنّ بريق عينيّ أمّهِ يسطعُ كلّ حين من الحروف محمّلًا بالبركة والخير والأنفة والعزّة…

يُغريك الدفء المنسابُ من أطراف القصيدة حين يعلو منسوبُه كلّما ارتفعت حرارة الشوقِ في العبارات التي يحاكي فيها الشاعر ذكرياته وحنينه.

تغريك التفاصيل بل تحييك كلّما دغدغت برقّتها إحساس المتلقّي ولامست ماضيه وحرّكت الساكن في مخيّلته العطشى الى حنين الأماكن والأزمنة الغابرة.

يتحدث الشاعر عن الفقر، فيفرش أمام عينيك عالمًا ثريًّا بالمثل والقيم:

“لنا خيمةٌ

قال عنها أبي

إنها قصر أحلامه

لا تضمُّ الدواليبَ والكنباتِ

بها وجه أمّي

وصندوقها

فيه شيء من الكحلِ والأدويةْ

وبجانبها موقدٌ

حين يلسعنا البرد

نرمي بأجسادنا حوله

نتأمّل إبريق أمّي الذي

يضحكُ الزنجبيلُ بأحشائه

ثمّ يأوي إلى جوفنا

فتخفّ البرودة

ثمّ ننام على الحلم

دون سريرْ”

الشاعر “البريكي” صيّادٌ ماهرٌ للّقطات التي تحمل مشهديّة عالية التصوير للإحساس الإنساني والشجن والحزن الوجوديّ. يُدخلك الى عالمه من أوّل حرف، وتبقى مأخوذًا حتّى آخر نزفٍ وتنهيدة، ويُقنعك بأنّ دم القصيدة منهمرٌ من شريان حزنه، وأن قربانه الأكبر والأقدس هو ذاته المضرّجة بالوجد والاتقاد.

“ولستُ بعيدًا، همْ إذا شُقَّ صدرُهم

سيَكْشِفُ أنّي حولَهم أتشجّرُ

يُظلِّلُهم غُصن السؤالِ وإن غدوا

على الغصنِ عصفورٌ يقولُ: تأخّروا..”

للشاعر أسلوبه الخاص في تقديم قصيدته وبصمة متفرّدة بحرفه ونصّه، ومعجم ينسجمُ مع رؤيته الحداثيّة للشعر كقوله “يُدفتر” وغيرها من التعابير.

قدّم ديوانه مناصفةً في الشكل بين القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة وكأنّه يثبت من خلال ذلك فكرة مفادها أنّ الحداثة لا تتعلّق بالشكل بل بالفكرة والشعرية التي يحلّق من خلالها النص صوب عالم تجديديّ واسع الامتداد.

يقول الشاعر الإيطالي “دانتي أليغييري”: “الجمال هو ما يشعل الروح”، وهذا الديوان أوقد نارًا وآهة في روح المتلقّي ستبقى مشتعلةً في بال الشعر حتى قيامة الحرف.

تحليل قصيدة “عكّاز الريح”: (القصيدة التي تحمل اسم الديوان)

بحر المتدارك في هذا النص جاء متراشق الإيقاع، خاطفًا للأنفاس، سالبًا للحواس،  مع الروي الحاء الساكنة وهي حرف مهموس يفضح حكاية حبّ وولهٍ تتشكّل في رحلة نحو المعشوق والتي هي في هذه القصيدة تونس الخضراء.

القصيدة موزّعة على ستة مقاطع متفاوتة الحجم، تموج بالصور البكر والاستعارات وتشخيص الجماد وأنسنة الأشياء والتراكيب والمجاز. (الشّباك المطعون بسيف البرد…)

يقدّم الشاعر قصيدةً على شكل حكاية ويدخلنا في دهاليز رحلته بأناقةٍ سردية عالية، وبمقدمة شعرية حملت صورًا حديثةً حاشدة.

“في الغيمة”، عبارة تشير الى المكان، أي أن الكاتب يكتب قصيدته في الطائرة بينما هو يحلّق نحو هدفه المنشود ويعبر من مكان الى مكان.

“والساعة كاهنة الرحلة يحملها عكّاز الريح”، الصورة هذه أرّقتني، فيها أكثر من بعد، من جهة، الساعة التي تشير الى الوقت، هي الكاهنة لهذه الرحلة، إذن هي من تأخذ القرابين، ولكنّ من يحملها من جهة أخرى هو عكّاز الريح، والريح عادةً لا تعرف القرار والاستقرار، أمّا العكّاز هنا فهو يشير الى الشيخوخة والحركة البطيئة التي تطلّبت عكّازًا، وكأنّ الشاعر يصوّر لنا حالته، وأنّ الوقت يسير كشيخ عجوز بطيء ولكنّه أيضًا كاهنٌ ينتظر من هذا الكاتب قربانًا حتى يستحقّ الهبوط في النقطة المرجوّة.

ينتقل الشاعر في المقطع الثالث ليتحدّث عن أرق القصيدة قبل ولادتها، ولا يخفى عليه ذكر المكان وأنّه أصبح على مقربة من الدار البيضاء “كازا”، وما زال محلّقًا ينتظر الوصول الى وجهته التي لم تتبدّ لنا معالمها بعد، ولكنّ “نخلة أحلامه” ألقته في بحرها، وكأنه يقول إنّ أحلامه نضجت مع الوقت وتحوّلت الى رطب شهيّة القطف وهو يسند قلبه المتّقد على شباك رحلته البارد في الطائرة.

يحاول الشاعر أن يكتب القصيدة، يراود الوحي والإلهام كي يصف شوقه لرؤية معشوقته. البطل في هذه الحكاية هو “ناطور الفكرة” الذي يرتقب ومضةً يحوك من خلالها ثوب قصيدته كي تخرج عروسًا بكرًا ساحرة تليق بالمحبوب، ينتظر مفتاحًا ليعبر بوابة الشعر الذي حاول طرقه سابقًا بقصيدة عنها من دون نتيجة.

ينتقل الشاعر في المقطع الرابع ليعبّر عن شوقه بالتشويق والتصوير العالي! “علّقت على شماعة هذا الليل قميصًا فاحت منه عطور الشوق”. الأفكار تتدفّق في باله كالسيل، ومخافة أن يخدش تدفُّقها فكرته، راح يمشّط أحلامه كي يهدّئ من جريانها.

ثم ينقل عدسة التصوير ليركّز على مشهد تفصيليّ دقيق جدًا، يصرخ النادل في المقهى كي يصرفه ويختلي بحظوته مما تبقى من الليل بعد التعب والمعاناة، فخيال الشاعر ممتلئ بالمتعبين.

يفتتح الكاتب المقطع الخامس بموجة استفهامات تدلّ على الحيرة والقلق، ولكنّه أخيرًا يصل الى مبتغاه، تدبك الأفكار في رأسه حتى تستقر عند جسد حبيبته “تونس”، مشبّهًا حالته بحالة يعقوب الذي ارتدّ إليه بصره عندما شمّ من بعيد ريح يوسف. “وكتبتُ قصيدتها بالعطر القادم منها”، وكأنّه أصبح قاب نفَسٍ وقصيدة، وقد شمّ عطرها من عل فارتدّ إليه حرفه وانساب الشعر والسحر في جدول روحه!

ثمّ يتجلّى المشهد واضحًا وتنسدل الستارة ليبدأ الشاعر بمخاطبة معشوقته من دون حواجز أو فواصل، فيغازلها بتفاصيل قطوفها المتدلّية على حواسّه المتخيّلة وخيراتها الكثيرة: أكشاك، زيتون، حوت صغير… ثمّ يمرّ بمعالمها العريقة كتمثال ابن خلدون في تونس ثمّ يشير الى مدينة “القيروان” التي أنشأها “عقبة بن نافع” حيث سمّاها باسم بانيها، ويتحدّث عن الزربيّة القيروانية وكأنّه يسرد تاريخًا من العراقة في السجاد التونسيّ.

وخلال هذا الوصف الشعريّ التاريخي التوثيقيّ، يتغزّل بجمال تونس ودلالها ليروي عطشه نحوها بالشعر، فوحده الشعر يستطيع أن يسقيه شربةً لا يظمأ بعدها.

الشاعر يحاول أن يستعيد نفسه وكينونته من بعد انصهاره بمعشوقته، فيسألها أن تفيض عليه بغنجها “لأكتبني” بعد أن بلغت فيه مبلغًا أنزله في مقام الحلول.

من اللطائف التي تلفت في النص هي أن الكاتب استخدم لفظة “الشارع” أربع مرات في القصيدة، وكأنه بتكراره لهذه الكلمة يشير إلى أن سحر تونس يكمن في خبايا شوارعها.

أمّا اللطيفة الأبرز، فهي أن الشاعر يبدأ قصيدته متحدّثًا عن سطوة وسلطة الريح التي يحمل عكّازها الوقت ويسير بطيئًا فيطول الانتظار والموعد الموعود، ولكنّه يختم القصيدة بشكل مختلف “ومحوت الريح” وكأنّه يقول إنّه عند اللقاء، يتوقّف الوقت والزمان والوجود، لا سلطة هنا إلا للقلب وحده!

ديوان يضجّ بالشعرية والحداثة والإحساس والدفء.. سيجد مكانة عالية في ذاكرة الشعر العربي.

هنا نصّ القصيدة:

في الغيمة

حيث الأرض تودّع في عينيّ الريحانَ

وعطر الشيحْ

ألقيتُ برأسي في المعنى

وعبرت الى قلبي

والساعة كاهنة الرحلة

يحملها عكّاز الريحْ

كنت قريبًا من “كازا”

ألقتني نخلة أحلامي في بحرِكِ

كان الشباك المطعون بسيفِ البردِ

يُلاعبُ جمرًا في قلبي

وأنا ناطور الفكرة

أرقب في العتمة ضوءًا

يأتي من أعمدةِ الشارعِ

يُلقي بالوحيِ عليَّ

ويمنحني مفتاحًا للباب الموعودِ

بأغنيةٍ للروح وللتجريحْ

علّقت على شمّاعة هذا الليل قميصًا

فاحت منه عطور الشوق

ورتّبتُ فساتين الألحانْ

فالفكرةُ يخدشها السيلُ

لذلك أحضرتُ الفرشاة لأحلامٍ

تتمايل نحو البحر

وأحيانًا للشارعِ

حيث تفوح القهوة في المقهى

ويصيح النادل

يا سيّد هيّا

فالليل سيترك باب المقهى

وسيأتي الضوءُ ليستلمَ الوقتَ

فدعني أسرقُ منه قليلًا

كي أنسى ضجري

وأعودَ الى الشارع ثانيةً

وأنوّمَ في الأنفاسِ تباريحْ

ماذا يدبك في رأسي

والليل يغطّ على خاصرة الشارع؟

هل يكفي الكرسيَّ جلوسي فوق تخوم الماء؟

وهل سمّيت الفكرة ليلى؟

وكتبتُ قصيدتها بالعطر القادم منها

وبعينين تبثّانِ الشعر

ويجري في جدول روحي

يا سيّدة البحر المتمدّد عند البابِ

يغازل جدران القريةِ

يلمسُ وجه الأكشاكِ

يمرُّ على باب الزيتونة

يأكلُ

حوتًا أصغرَ مما يتخيّلُ

يمضي نحو الشارع

يلتقطُ الصورة للتمثال الخلدونيّ

ويأخذه الموجُ سريعًا نحو مدينة “عقبة”

حيث البيت يُحلّقُ بالشعر

وتبدو أرض “الزربيّة” غصنًا

يلمحُكِ الشعر

تمرّين عليه

وتلقين البسمة فيّ

فترتجُّ ضلوعي

ويضيعُ فؤادي بين أصابعك الخجلى

فيفيضُ عليه الماءُ

وينسى ما كان يراوده من عطشٍ

يترنّم في جوفِ ذبيح ْ

يا أنتِ

أفيضي من هذا الغنجِ

لأكتبني

فأنا هيّأت التربةَ للأغنية الأولى

ومحوتُ الريح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى