أدب وفن

أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة (الحلقة الثَّالثة)

أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة
(الحلقة الثَّالثة)
فن الإعلام
(الآذان)


الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)



فَرَضَ اللهُ، سبحانه وتعالى، الصَّلاةَ على المسلمين؛ ممارسةَ عبادةٍ وتطهُّرٍ، تُقام في أوقاتٍ محدَّدةٍ، خمسَ مرَّاتٍ في اليومِ الواحد. ومنذ أنْ كانت هذه الفريضة،

والمؤمنون يُقبلون عليها، لحظة سماعهم للآذان بها؛ أيَّاً كانت مشاغلهم أو حالاتهم. ولقد حضَّ الله، سبحانه وتعالى، النَّاس على أداء ما فرضه عليهم من صلاة، وهم جماعة أو فرادى؛ وجعل لمن يقوم بصلاته المفروضة مع إخوانه، أجرا أكثر من أجر من يقوم بها بعيداً عن الجماعة.
ومن يوم أن فُرضت الصَّلاة على المسلمين، وحتَّى المراحل الأولى من الهجرة النَّبويَّة إلى “المدينة المنوَّرة”، والمسلمون يجتمعون إلى النَّبيِّ محمَّدٍ ﷺ للصلاة لحين مواقيتها. كان عدد النَّاس، في البداية، قليلا؛ ولعل بيوتهم ومساكنهم كانت متقاربةً فيما بينها في أماكنها؛ فكانوا يتداعون ببساطة مباشرةٍ إلى إقامة الصلاة. لكن، ومع توسّع انتشار الإسلام، بعد نجاح الهجرة إلى “المدينة”؛ فإنَّ أعداد المسلمين تزايدت، وأماكن سكناهم، كما أعمالهم ومجالس انشغالاتهم، تكاثرت، حتَّى تباعد أوَّلها عن آخرها؛ فبات من الصَّعب، أو لعلَّه صار من المستحيل، استمرار عملية التداعي المباشرة البسيطة إلى الصَّلاة، كما كان الحال في السَّابق. وكان لا بدَّ من ابتكار وسيلة إعلامٍ وإعلان:

1) تعلن عن دخول وقت الصَّلاة
2) تدعو النَّاس إلى إقامة هذه الصَّلاة
3) تحضُّ القوم على ممارسة هذا العمل، وترغِّبهم به
4) تؤكِّد الشَّخصيَّة الإسلاميَّة لهذه الممارسة
كان القوم، باختصار، بحاجة إلى تحديد ممارسة إعلاميَّة وإعلانيَّة، قادرة أن تحقِّق لهم، في الوقت عينه، ما يصبون إليه من عناصر الإعلان والدعوة والحص والتَّأكيد. وقد يمكن الاستخلاص، ههنا، أنَّ الصَّلاة، وإن فُرضت من قبل الله عزَّ وجَل، فإنَّ تنظيم الدَّعوة إلى القيامِ بها، وخاصَّةً في مجتمعٍ لم يعرف عادة تحديد الوقت بدقَّة، ولم يعرَّف التَّصرُّف من خلال التَّنفيذ الجماعي المشترك والمنظَّمِ والمرتبط بتوقيت محدَّد واجتماعٍ منتظم للنَّاس فيه، تُرِكَ للنَّاس أنفسهم القيام به؛ ولربَّما كان هذا التَّركُ، مسعىً إلى توجيه وعيهم إلى المسؤوليَّة العامَّة والجماعيَة، وكذلك في استيعاب حسنات التنظبيم والانتظام في واحدٍ من أركان الإسلام.
لم يكن المسلمون وحدهم أصحاب صلاة في ذلك الزَّمن؛ فقد كان لمن حولهم من يهود ونصارى صلواتهم الخاصَّة بهم؛ وكان لكلِّ واحدٍ، من هذين الفريقين الأخيرين،


وسيلته الخاصَّة في دعوة ناسه إلى ممارسة صلاتهم وتنظيمها. استخدم اليهود البُوقَ، ينفخون فيه دعوة ينفر بها جماعتهم إلى الصلاة؛ واستعمل النَّصارى النَّاقوسَ، أداةً يُبَلِّغون فيها جماعتهم أوقات تأديتهم لممارسة الصَّلاة. وكان لا بدَّ للمسلمين من بحثٍ عن وسيلة تعينهم في الإعلان عن دخول وقت صلواتهم، ودعوة المسلمين من الناس إلى الاشتراك في أدائها، فعل عبادة وتَطَهّر.
مما لا شك فيه أن الرَّسول ﷺ رأى ضرورة البحث عن وسيلة إعلام تساعد المسلمين في الإعلان عن مواقيت صلواتهم، وتحض الناس على الاجتماع للصلاة والقيام بها. وثمّة من المؤرخين ومدوني السِّيرة النَّبويَّة من يذكر أنَّ رسول الله ﷺ ظن أن استعمالا لبوقٍ، من قبل المسلمين، قد يفيد في هذا المجال. ومن الأكيد أن رسول الله ﷺ سرعان ما كره هذه الفكرة. ولعل كراهته ﷺ لها، أتت جرياً على سنَّته في الدَّعوة على تأكيد انمياز تصرُّفاته وتصرُّفات المسلمين، عن تلك التي كان يقوم بها اليهود؛ ولعل هذا كان نتيجة معادة اليهود للنَّبيِّ ﷺ، رغم جميع ما قام به من محاولات لتقريبهم من الإسلام؛ وما كان اليهود يضمرون للنبيِ ﷺ، وللدَّعوة الإسلاميَّةِ، من حقد وضغينة؛ ويعملون ما استطاعوا على محاربته وتسفيه من اتَّبعه في الدعوة إليها. وثمَّة من يذهب إلى أنه ﷺ فكّر في اتِّخاذ ناقوسٍ في هذا الشَّأن، كما تفعل النَّصارى؛ بل يُقال أن ثمة من بدأ بالإعداد لاستعمال هذا النَّاقوس.
لم يكن الرَّسول ﷺ قد اتَّخذ، بعدُ، قرارا نهائيَّاً في هذا الشَّأن؛ لكن بدا جلِيَّاً لمن حوله ومعه، وكأنَّه ﷺ يريد ممارسة إعلاميَّة في الإعلان عن الصَّلاة، تكون من طبيعة النَّاس الذين دخلوا في الإسلام، مؤمنين بالله ومستجيبين لدعوته لهم إلى إقام الصَّلاة؛ كما تأتي منبثقة من حقيقة وجودهم، وطبيعة الأمور التي ينماز بها هذا الوجود. ولعلَّه، النَّبي ﷺ كان يطمح إلى أنه إذا ما سمع النَّاس هذه الوسيلة أو عرفوا بشأنها فإنَّها،

لن تسمح لهم بالخلط بينها وبين أيَّة وسيلة إعلام أو إعلان أخرى تدعو إلى الصَّلاة عند غير المسلمين؛ وفي هذا ما يؤكِد الزَّعم بأنَّ الرَّسولﷺ كان يأمل التوصل إلى استنباطٍ لوسيلة إعلام خاصة ومميزة في هذا المجال.
يبدو أنَّ مجموعة من المسلمين قد انشغلت، آنذاك، بالتَّفكير في هذا الأمر؛ إذ ما هو إلاَّ وقت قصير، حتَّى أتى أحدهم، وهو “عبد الله بن زيد بن ثعلبة”، رسولَ اللهﷺ فرحا مستبشرا. لقد خطرت على بال “عبد الله بن زيد”، هذا، فكرة عن وسيلة إعلاميَّة يعلن من بها المسلمون عن الدَّعوة إلى إقامة كلِّ صلواتهم في أوقاتها المحدَّدة لها؛ يحضُّون النَّاس على القيام بها، وينمازون بها من سواهم. ويستبشر رسول اللهﷺ، ومن معه خيراً من قدوم “عبد الله”، الذي يخبرهم أنَّ رؤيا خطرت له، مفادها صياغة دعوة عن الإعلان عن أوقات الصَّلاة والدَّعوة إليها. ويبدو أنَّ الرَّسولﷺ سُرَّ بما بفكرة “عبد الله بن زيد”، وطلب من “عبد الله” أن يُخبره عنها.
يقترح “عبد الله بن زيد بن ثعلبة” أن يكون الإعلام عن مواقيت الصَّلاة كما الإعلان عن الدَّعوة إلى إقامتها في كل ميقات، بالكلام؛ وليس بالبوق أو بالناقوس. ويقترح، “عبد الله”، لهذا كلِّه، صياغة كلاميَّة بسيطة وواضحة وملتزمة بمضامين الإسلام، والغرض من الصَّلاة. يذكر “عبد الله”، للجَمْعِ الذي تحلَّق حوله من المسلمين، صياغة كلاميَّة قوامها جُمَلٌ قصيرة مقطَّعة تقول:
“الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمَّدا رسول الله، حيَّا على الصَّلاة، حيا على الفلاح”.
تنبسط أسارير القوم لِما يذكره أمامهم “عبد الله بن زيد”؛ ويثنِّي رسول اللهﷺ على ما جاء به عبد الله، ويقول ﷺ لمن حوله من المسلمين، ما مفاده أنَّ ما جاء به هذا الرَّجل، ما هو إلاَّ رؤيا حقٍّ بإذن الله. ويطلبُ رسول الله محمَّد ﷺ، من “عبد الله بن زيد” أن يُعَلِّم الصَّحابيَّ “بلال” هذه الصِّياغة، إذ كان صوته أحسن وأبدع من سواه من الحاضرين؛ ثم يطلب الرَّسولﷺ من “بلال” أن يرتقي مكاناً مرتفعا، يستطيع الناس أن يسمعوا صوته منه، وأن يشدو بهذه الدَّعوة المباركة؛ وكان هذا أوَّل أذان للصَّلاة في الإسلام.


يمكن للمرء أن يُلاحِظَ، على المستوى الإعلاميِّ، في هذه الحادثة، أمورا عديدة راعاها النَّبيُّ ﷺ ووعاها المسلمون الذين كانوا في صحبته، عهدذاك؛ ولعلَّ من أبرزها:
• أهمية العنصرين الإعلامي والإعلاني في الحياة.
• الإعلام والإعلان وجودان مترابطان.
• ضرورة انمياز الوسيلة لإعلاميَّة، التي تتبعها مجموعة معيَّنة من النَّاس، عن سواها مما تتَّبعه المجموعات الأخرى.
• مراعاة أن تكون الأداة الإعلامية متناغمة والطبيعة الحضارية لمن توجه إليهم.
• مراعاة عناصر “البساطة” و”الوضوح” و”المباشرة” و”الصّدق” و”العمق” في النَّصِّ الإعلانيِّ.
o وهنا تناغمت الوسيلة الإعلانية عن الأذان، عبر الكلمة التي يشدو بها النَّاس، مع عادة العرب، زمنذاك، في الإقبال والتَّأثُّر بالكلام الملفوظ، خطابة وشعراً وحديثلً، الذي كان يروى وأكثر ما يكون الإقبال عليه منهم.
• مراعاة جمال القالب الذي تخرج به الصياغة الإعلانية.
o وهذا يبدو من خلال تعيين النَّبيﷺ، لبلال، صاحب الصَّوت الرَّخم، لأداء الأذان؛ وليس لأي شخص آخر.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى