فصل من رواية “رجل في مقتبل النسيان ” للروائي هيثم سعد زيان
جرأة بيضاء
(*)” لغتي تطفو على تابوت المعاني”
الجوّ مطير في الخارج. شجرة التّين التي كانت صيفًا تمنح الفِناء الظّل و تمنح العصافير نصيبا من التّين الطازج، أصبحت صلعاء، تشبه إلى حدّ كبير أشباحًا ميّتة. الفِناء يفتخر بالوحل الذي يجثم على كلّ أرجائه. كانت “مّا” مسعودة العجوز في غرفتها المعزولة، تُلهي نفسها بالمِنْسَجْ، تَحيكُ عليه قشّابية جديدة كانتْ قد وعدت بها ابنها السّعيد قبل دخول الشّتاء. ظروفها الصّحيّة حالت دون ذلك. الرّبو المقيت يحاصر صدرها، يخنقها حدّ الموت في الغالب…الرومتزم يُقيّد من حركتها و لا يمنحها إلّا حريّة قضاء حاجتها في الكنيف المنصوب في الفناء. أمر عسير على امرأة في سنّها المتقدّم، لكنّه محتوم و لا مناص منه. هي لا تتعاطف مع فصل الشّتاء إطلاقًا إذ يعقّد من حالتها لذا تمقتُ الجوّ عندما يكفهرّ ولو في فصل الصّيف. في أجواء غرفتها الموسومة بالدّفء الشّحيح أين تتمسّك بعض الجَذَوات بعرى نار باهتة، تُمسك ” مّا” مسعودة بالخُلاّلة و ترصّ بها خيوط الصّوف بعناء. مازالت المسيرة طويلة، إذ لم تنجز إلّا ثلث المهمّة لكنّها تعاند و تبالغ في إرهاق جسمها المعتل. أصبحت الخُلاّلة هذه المرّة أثقل في يدها، إنّها بنود الوهن الذي يفرض سطوته على أرذل العمر. ركنت “مّا” مسعودة الخُلاّلة جانبا و استسلمت لهستيريا كُحّة لا ترحم. تحاول ككلّ مرّة التستّر على السّعال، تستنجد بكفّيها لتصدّ بهما رَجْعَ الصّوت محاولةً خنق الكُحّة في داخلها، هي تخاف من أن يكتشف السّعيد أّنها قد تخلّتْ عن استعمال البخّاخة، فيؤنّبها بوابل من نصائحه القاسية.
في الطّرف الآخر من الفِناء، كان السّعيد في غرفته يُوضّبُ نفسه أمام ما تبقّى من مرآة دولاب متهالك. يخزر إلى تقاسيم وجهه بشوق كأنّه يفعل ذلك للوهلة الأولى في حياته. يستنزف حرقته في تأمّل أسباب نحافته المتطرّفة. كان يومها مختلفًا عن السّعيد الذي يقطنه، يخالج قلبَه شعور صعب التأويل. كان يستعدّ للقاء يبدو مهمّا على جميع الأصعدة. لكن كبداية حتمية، كان يجب عليه أن ينال بركة و موافقة “مّا” مسعودة المريضة. يتساءل بمرارة و تحدّ:
- أنا مقبل على أمر غير مسبوق. قد أُنعتُ بالخبل لأجله… لا يهمنّي ما يظنّهه الغير بي. أريدها إلى جانبي بميثاق رسمي و لو لدقائق. لا يمكن أن أتخلّى عنها. لقد حُرمتُ منها و لا أريد أن يتكرّر ذلك الغياب القاتل. إنّها زبيدة الأغنية التي تُطرب كياني كلّما ضاق عليّ الزّمان و المكان. إنّها الوردة التي تشتهيني و اشتهيها، لن تُغيّبها حتى أجود ماركات العطور…ياه!…كم اشتقت إلى ضفائرها الصبيانية و هي تسابق الريح مثل الحمَل الأنيق عائدة من المدرسة، تتصفّح في ملامح السّعيد رجولة تستند عليها حين يكبران و يجمعهما القدر تحت سقف واحد…ياه!…لا أريد التّصديق أنّها قد استلقت على فراش رجل آخر و مارست معه الحبّ بعنف حتى الثّمالة…لا أريد أن أقرّ أنّ النّسل الذي حلمنا به معا ذات شباب يافع، قد نفثه غيري في رحمها و أنّ الرّحم قد تقبّله دون تذمّر…يا الله، أنّى لي أن أنسى أنّ عاصم و هاجر، هما الاسمان اللّذان ملآ دفاتري و كتبي المدرسية حبورًا، دوّنتهما في كلّ مكان دون تحفّظ، استرقتُ من الصّبْية عهدهم و عدتّ إلى لعبة الصّلصال و نحتّهما على هيئة أنيقة، و كنت لا ألج غرفتي إلّا و أدمن النّظر فيهما و ألقي عليهما ألف تحيّة و تحيّة…كيف تريدونني أن أفتعل النّسيان بمحض إرادتي و أنّ الصّداع الذي يسكن دماغي، يقتات أصلا من ذكراها المتأجّجة، كلّما فكّرت في التّناسي و لو لبرهة إلّا و عمد الصّداع إلى تقمّص كلّ وسائل الاحتجاج حتى و لو تعلّق الأمر بشلّ قدرتي على التّفكير البسيط ككائن سويّ…إيه كم هو موجع حالي…!
كيف ستتقبّل “مّا” مسعودة الأمر، أعقد قراني على زبيدة التي ينخرها السّرطان نخرًا. ستعتبرني حتما مجنونا قادما من مجرّة أخرى و قد تتبرّأ منّي و من فكرتي إلى الأبد.عونك يا الله…!
بعد أن أمعن في محاورة ذاته و عبّر عن الهواجس التي تمشّط سريرته و لمّا استنفد كلّ نواميس التّبرير لديه، عاد ليشاكس ذاته في المرآة. كانت الرّطوبة المتجدّدة تحجب عنه ملامح وجهه، بالكاد يستطيع تمييزها في زخم الضباب المرابط على وجه المرآة. فيستثير شطارته و يكرّر مسح المرآة بستار النّافذة. هو عادة لا يهتمّ بمظهره كثيرا إنّما لشَعره عليه أكثر من حقّ، يسرّحه على مهل و بمهارة خاصّة. كان يمسك بالمُشط و يغازل حدود شعره بإخلاص. فجأة يلمح الوشم المختوم على ذراعه الأيسر، لم يعد يهتمّ بالتّسريحة، يتوقّف عن تصفيف شعره، يتأمّل الوشم مليًّا و يخاطب المرآة كأنّها كائن يحسن سجيّة الإصغاء: - أترينَ يا مرآة، الحرفين المختومين على ذراعي، هما يرمزان لي و لها. أذكر أنّه حين اشتّد ولعي و اشتياقي لزبيدة ذات ليلة شتوية المراس، بالغت في استهلاك السّجائر حتى شارفت على الهلاك. اختنقت كالعصفور في هبّة دخّان غشيم. كنت كالعادة بمفردي، تخيّلت الغرفة سجنًا ضيّقا و كان يزداد ضيقا كلّما أدركت أنّني سجين وحدتي و أنّ زبيدة تنأى عنّي أكثر فأكثر.
يتوقّف بغتة عن الكلام. يتصوّر حالة زبيدة مع السّرطان. ينفجر بالبكاء، فيبكي و يبكي حدّ النّواح. يجفّف دموعه بكفّيه. يتشجّع و ينظر إلى المرآة ويكمل سرد حاله.
ليلتها حين بلغ القلق منتهاه ، قرّرت على حين غرّة و تهتُ في الخلاء، تهتُ و فقط …مارستُ العدو ليلا، مزجت عرقي الموحش بحبّات المطر المقدّس، جرّبت تطهير الرّوح من وجع الآه… كنت أركض دون تروّ، كنت ندّا للريح و المطر الغزير الذي كان يمشّط المدينة تمشيطًا، و لم أكن أحسّ بالبرد الذي جمّد حتى أطراف الشوارع. جلتُ و صلتُ طويلا حتى تعبتُ و هدأ عنّي توترّي. عدت بعدها في ساعة متأخّرة إلى وكري. بدأ الصّداع يتسلّل شيئا فشيئا إلى رأسي حتى تمكّن منه كليّة. عصبتُ الرأس و أويت إلى فراشي أنشد إغفاءة مستعجلة. لم يفلح اجتهادي. بقيت على حالي أكابد الأرق و الحنين. دبّت في مفاصلي حمّى باردة أجبرتني على تكويم كلّ ما طالته يدي من أغطية فوق جسمي لكن دون طائل. كنتُ أرتجف مثل فرخ حمام مبلّل. انتفضتُ من مكاني و أنا ملفوف في بطّانية قديمة الطراز قاصدا المدفئة، أبحث عن الدّفء المفقود…هيهات، لم تُوفَّق بقايا الجمر المتوهّجة في المدفئة من الحدّ من شعوري بالبرد القارس وهو يقضم جسمي دون رأفة. أتدرين ماذا حدث بعد ذلك يا مرآة…؟
قفزتْ إلى قلبي فكرة جنونية: مسكتُ بالمِخْيط و نحتُّ أوّل حرف من اسمي و اسمها على ذراعي الأيسر ثمّ ذررتُ قليلا من رماد المدفئة عليه. كان الأمر جد مؤلم لكنّه نجح في منحي فرصة معتبرة من النّوم حتى تخوم الصّباح الموالي. نعم لم أتورّع عن وشم هذا التّذكار الموسوم على ذراعي. كنتُ كلّما خلوت بنفسي إلاّ و كشفت عن ذراعي و مارست طقوس التّأمل بذاتيّة معتبرة…
بينما هو مسهب في سرد قصصه المثيرة للمرآة كالرّاوي المحترف و إذ بسمعه المرهف يلتقط موجة حادّة من السّعال الدّيكي قادمة من الحجرة الأخرى. انفعل بشدّة: - يا لطيف “مّا” مسعودة في أزمة، الله يستر!
أسرع إليها حافي القدمين، يدعك الوحلَ دعكًا. تعثّر مرارًا في الفناء قبل أن يصل إليها و قد بقّع الطّين كلّ جسمه. وجدها خلف المِنسج، تسند رأسها إلى الجدار، يدها على صدرها، تلهث بصعوبة، شارفت على الإغماء. أسندها على صدره ثم انتزع البخّاخة من جراب أدويتها، قدّمها إليها طالبا منها الاستنشاق لمرّات عديدة. - يا “مّا” اعْلاَهْ تَعْمْلِي في رُوحَكْ هاكْ…!
ألم أطلب منك أن تتوقّفي عن الحياكة. و قد وعدتِ بذلك.. ألم أقل لك أنّني لا أريد هذه القشّابية…حرام عليك، أنت تعاندين و ترفضين تناول الدّواء و استعمال البخّاخة. الرّبو مرض لا يرحم خاصّة في فصل الشّتاء. حملها إلى فراشها و غطّاها ثُمّ جلس عند قدميها. ظلّ ينتظر حتى استعادت عافيتها و ذهبت عنها الأزمة. الأزمة لا تلتزم بمواعيد مهذّبة بل تروح و تجيء وفق هواها. ضمّها إليه بحنّان، قبّل رأسها و يديها و قال لها: - لقد قرّرت أن أتزوّج يا “مّا”…
رغم أنّ سمع ” مّا” مسعودة قد ثقّله سنّها المتقدّم إلّا أنّ كلام السّعيد عن الزّواج تسرّب إلى أعماق أعماقها. لم تستطع أن تمنع نفسها من التّعبير عن سعادتها رغم حالتها. رمت بزغرودة ساخنة دفّأتْ بها أرجاء الغرفة. - هل وجدتَ شريكة تناسبك؟
سألته بلهفة غير مألوفة. - نعم، يا “مّا”…
- ابنة مَنْ هي يا إبني؟
- يا “مّا” زبيدة، بِنتْ سليمان الجزّار…!
اشمأزّتْ من ذكر زبيدة. ظنّتْ في البداية بأنّ الأمر مجرّد مزحة، فعاودها الفضول إلى تضمين سؤالها من جديد: - لكن زبيدة قد تزوّجتْ و هي حتما الآن أم، تفتخر بأولادها.
ربّت على يدها و أجاب: - لقد ترمّلتْ يا “مّا”…نعم لقد مات عنها زوجها. و عادت إلى المدينة مع ولديها.
انتفضتْ ” مّا” مسعودة و دفعتْ ابنها بكلّ ما أوتيت من قوّة غاضبة: - أنت بلا شكّ مريض، يا بنيّ. يجب أن يفحصك الطبيب في أقرب وقت و إلّا يكون قد فات الأوان…
يجيبها بتودّد: - أنتِ تعرفين يا “مّا” أنّها حُبّي الأوحد تعذّبت لأجلها و لا زلتُ. حاولتُ أن أنساها أو أتناساها بعد زواجها، لكنّ طيفها رفض الفكرة و عشّش في روحي إلى الأبد. و إن كنت ُ قد رفضت الزّواج إلى حدّ السّاعة فذلك بسبب قلبي المخطوف.
تبالغ “مّا” مسعودة في تأنيبه. كانت تريد أن تثنيه عن قراره الغريب. قلب الأم عادة يقدّر مصلحة الأبناء بكثير من الخوف: - يا بنيّ، بلا شكّ أنت مجنون. الدّنيا لم تنجب سوى زبيدة. البنات كُثر…أشرْ و ستأتيك مائة امرأة طواعية…أنا لا أفهمك..امتنعتَ عن الزّواج لمدّة طويلة رغم إلحاحي الشّديد و رغم مرضي و ها أنت حين تقرّر، تفضّل الانتحار على أسوار حبّ قديم، غابر. يا بنيّ كيف تسوّل لك نفسك الارتباط بامرأة مطلّقة، هذا عيب و عار..إمرأة مطلّقة… ستجلب لك معها غدا ربيبين…يا للسّخرية!…أيّ رجل عاقل يُقبل على ما أنت مقبل عليه!..لا شكّ أنّ بك مسّا من جنّ محترف. يجب أن أرقيك… هذا جنون رسمي…!
كانت “مّا” مسعودة العجوز تناور بقدر ما تستطيع، بسجيّتها الشفّافة كي تُذهبَ عن ابنها رجس فكرة طائشة، كي تُفسدَ مراسم زيجة جدّ بلهاء حسب رأيها غير أنّ السّعيد كان مصرًّا. استمع بعقله إلى كمّ التبريرات الهائل و لم ينلْ منه. كان قلبه يصغي بطريقة أخرى. شغفه بزبيدة بلغ مداه بعد أن تناها إلى مسمعه خبر عودتها و فطر جوارحَه مرضها الخبيث. تنهّد فخفتتْ نبرة قلبه. أمسك بيد أمّه فقبّلها، قبّل بشغف رجليها ثُمّ لفظ احتياطي بلاغته: - اسمعي يا “مّا”، ألمْ تكوني توّاقة لرؤية أحفادك يلعبون أمامك ناظريك، ينتزعونك من وحدتك القاسية، يملؤون عليك الدّار هرْجًا و مرْجًا..ينادونك بالجدّة الحنون و أنت توزّعين عليهم الحلوى لدى عودتهم من المدرسة و قلبك يفور فرحا و سعادة..
ألمْ تكوني تحلمين بأن توقظك الحفيدة باكرًا، تقبّل رأسك و يدك و تقول لك: - جدّتي، هذه قهوتك كما تشتهينها متبّلة بالفلفل الأسود، و هذه شطيرة خبز المطلوع محمّصة على الطّاجين…
يا “مّا”، ألمْ تكوني تتمنين حين تمرضين أن يمرّ عليك الحفيد ليتفقّدك و أنت طريحة الفراش، يرفع عنك الغطاء، يضمّك ضمّة الأبرياء، ثُمّ يهمس في أذنك: - إذا لم يُفِـدْ دواء الطبيب الفلاني، فسنأخذك إلى طبيب متخصّص أحسن منه…لا نريدك أن تمرضي بعد اليوم أبدًا، يا حنّونة…
يا “مّا”، ألا تشتاقين لرؤية الحفيد الرّضيع و هو يحبو نحوك و أنت قائمة للصّلاة، يتمدّد أمامك على الصلّاية، يتمرّغ كالقطّ، ثُمّ يرمقك بابتسامة ملائكية يقشعرّ منها بدنك، فتضطرّين إلى قطع الصّلاة كي تضمّيه ضمّة العاشق الولهان، ثُمّ تتحوّلين إلى مهد يهدهد صباه إلى أن ينام…
ألا تشتاقين إلى كلّ هذا يا “مّا”…!
يسكتُ، يُهمهم ثُمّ يقرّر: - يا “مّا”، سأتزوّج زبيدة و إلاّ سأغادر بلا رجعة..!
كوّر السّعيد رأسه و مشاعره في حجر أمّه. انفجر باكيًا مثل اللّغم العنيد. تخيّلتْ “مّا” مسعودة الابن جنينا لا يزال متشبّثا بعرى رحِمها. قادها الحنين إلى شقيق السّعيد الرّاحل، إلى زوجها الذّي غيّبه القّدر بغتة، إلى كلّ الأحبّة الذين لم يعودوا عندما قرّروا الرّحيل.
تعانقَ الاثنان في محفل مهيب، لفّتهما رحمة البسطاء. بكيَا معًا على إيقاع الغيث الذي كان ينهمر على المدينة. انتهى وقت العتاب الذي اكتنف نفس “مّا” مسعودة. استشورتْ البزّولة التّي ظنّتْ على السّعيد بحليبها حين أجدبتْ جيوب ربّ البيت إلى الأبد، حين تجاوزت إقامة العوز كرم الضّيافة، بعدها أقرّت بمرسوم الأمومة الطافح: - افعلْ ما بدا لكَ يا بنيّ…!
- أحقًّا ما تقولين!..رضيتِ عنّي و سأتزوّج زبيدة..شكرًا لك يا “مّا” مسعودة، يا أحنّ مخلوق على السّعيد..فرح كطفل يداعب نظره للمرّة الأولى اللّعبة التي طال انتظارها. عجيب أمر هذا الوفاء الذي يضمره السّعيد لزبيدة. يتجرّأ و يختار متعة مستحيلة. يضحّي من أجلها تضحية غريبة، هي التي تكابد سرطان الرّحم. ربّما كان لإدوارد الثامن ملك بريطانيا الذي تخلّى عن العرش و عن كلّ شيء لأجل حبّ امرأة، كان له أثر فظيع في نفس السّعيد. من يدري…
و ها هو يتحوّل إلى طفل وديع، تتشبّثُ عيناه بطيف أمّه أنّى تحرّك. تحوّل إلى ما قبل الفطام القسري، يرنو إلى حنان الرّضعة الأولى، يريد أن يرتضع ثدي “مّا” مسعودة ثانية كي يستردّ حقّه من الحنان السالف. فرح بموافقة أمّه، لكن بقدر ما أسعده المرسوم إذ تنطّطتْ بداخله كلّ بوادر السّعادة، بقدر ما ترك غصّة بليغة في حلقه. شعر بالذّنب يؤنّب سريرته: زبيدة تعاني سرطان الرّحم و ها هو يخفى مرضها عن أمّه. خشي إن أخبرها بالأمر، تتعرقل مساعيه و يصطدم قلبه بالمجهول.غضّ الطّرف و أسلم رجاءَه لتفاؤل مباغت. أسرّ لنفسه: - سأعتبر نفسي مهووسًا بالمشاعر النّبيلة و أنّ علاجي يتطلّب جرعات خاصة من الاهتمام المفرط. لك الله يا أمّي، فطرتْ سجيّتُك نفسي و ألحقتني بموكب المرهفين، الحسّاسين لكلّ ما هبّ و دبّ من مآسي النّاس…أوّاه يا زبيدة، هل كان يجب أن يكون بوبي هو الوساطة ليقدحَ زناد الهيام في نفسي و يُوكّرَ اسمك في عقلي إلى الأبد. لست أفهم حقًّا، كيف عشق الأوّلون و صبروا على النّار التي تحرق وصالهم دون هوادة..!، لكَ الله يا بن الملوّح.!