أدب وفن

إستشهاد وطن في رواية “حياة في منتصف الموت” للروائية حنان رحيمي

الدكتورة ميرنا الشويري

خلال الحرب الاهلية في لبنان ، اهتمّ الكثير من الكاتبات بمسألة الهوية الوطنية. و معظم أعمال هؤلاء تخيلت وطنا” من دون حواجز بين الفئات اللبنانية و قد أسمتهم مريم كوك بكاتبات بيروت اللامركزية كوك أكاديمية اميريكية عاشت في لبنان و ركزت في دراساتها على دور النساء في Beirut Decenterists الشأن العام في منطقة الشرق الاوسط . و هي تؤكد بأن كتابات هذه النساء “خلال الحرب الاهلية لم تكن (Cooke, 280) من كتابات الرجال و لكنها كانت مختلفة “. أقل اهمية

تتشارك أعمال هذه الكاتبات برسم ملامح الوطن بطريقة ذاتيّة، وبالتصدّي للبطريركيّة، لكنّني أعتقد بأنّهنّ يختلفن في الأسلوب، فبعضهنّ كحنان الشيخ وغادة السمان يركّزن على الحرّيّة الجنسيّة للمرأة، فتزخم كتاباتهنّ بالمشاهد الجنسيّة خلال الحرب الأهلية، والبعض الآخر تتّسم أعمالهنّ بالطوباويّة كالروائيّة ايتيل عدنان في روايتها “الست ماري روز” إذ تجسّد بطلتها ماري مزايا المسيح، فتقتل في النهاية دون أن تتنازل عن كبريائها .
في رواية “حياة في منتصف الموت” تحاول الكاتبة حنان رحيمي أن تخلق وطنًا بأسلوب طوباويّ كعدنان لكن صورة الوطن عندها تختلف عن تلك التي في “الست ماري روز” إذ إنّ الوطن يتجسّد في صورة أمّ مقعدة تموت في النهاية خلال الحرب الأهليّة، ولعلّ ذلك يدلّ على أنّ التخلّف الاجتماعيّ يؤدّي إلى شلل الأمّة، لكنّ الحرب الأهلية هي السبب لمقتل الوطن.
هذه الصورة للأمّة تعرّي الأسباب الكامنة وراء تخلّف الوطن، واستشهاده في الحرب الأهليّة.
السبب الأول وراء التخلّف الذي تعرضه رحيمي هو استبداد البطريركيّة.

السبب الاول وراء التخلف الذي تعرضه رحيمي هو استبداد البطريركية و يشرح المفكر الراحل هشام شرابي المجتمع الابوي كالتالي :”ان السمة النفسية الاولى للمجتمع البطريركي هي سيطرة الاب و هي (Sharabi, 73) النقطة الاساسية التي ترتكز عليها الامة و العائلة .”

هذا ما نلاحظه في “حياة في منتصف الموت” إذ إنّ وليد وأبو وليد ووالد منال شخصيّات ترمز إلى سلطة الأب في المجتمع اللبنانيّ، لكن رحيمي تميّز بين رجل بطريركيّ وآخر، فبالرغم من أنّ وليد يعتبر شرف زوجته يتمثّل في عذريّتها، لكن لا يرضى أن يتاجر بجسدها بعكس والدها الذي باع جسد أختها، وحاول أن يفرض عليها علاقة غير شرعيّة من أجل المال.
هذه النقطة تبرهن على دقّة رحيمي في معالجتها البطريركيّة في روايتها .كما أنّ الكاتبة تكشف أنّ المرأة في المجتمع البطريركيّ سلعة، فلديها فقط ثلاثة أدوار كما تشرح لوسي اريغريري :
1-الأمّ :لأنّ طبيعتها البيولوجيّة تجعلها منتجة للأطفال .2-العذراء : عندما لا تكون عذراء قبل الزواج فقيمتها تنخفض 3- بائعة الجسد: مع أنّها تدان في المجتمع، إلّا أنّ لديها قيمة باطنيّة يستفيد منها الرجال بين بعضهم لكن سرًّا .
كلّ هذه الأدوار نجدها في رواية رحيمي من خلال منال وأمّ وليد وخادمة وليد عندما يصبح غنيًّا.
تستفيض رحيمي في تشريحها للبطريركيّة أكثر في المجتمع اللبنانيّ، فتركّز الضوء على المرأة البطريركيّة. فوالدة وليد و زوجته منال يتّهمن من نساء الحيّ بأنهنّ غير شريفات، وهذا يؤكّد ما قالته المفكرة الأمريكيّة المكسيكيّة غلوريا انزلدوا أنّ من يضع قوانين البطريركيّة هو الرجل، وتنفّذها المرأة .
هكذا تبرهن حنان أنّ البطريركيّة تفرض نفسها على الرجل والمرأة، وتعيد نفسها من خلال الموروثات الاجتماعية، لذلك الرجل ليس وحده مسؤولا عن مخالب البطريركيّة.
تناقش رحيمي سببًا آخر في الرواية وراء شلل لبنان، و هو سيطرة الخرافات وخاصّة بين الفقراء.
تركّز أيضًا على سبب مهمّ لشلل لبنان، وهو الآخر، فالكثير من الفئات تعتبر الآخر. مثلًا ” : المعوّق والفقير والطائفة والحزب، وتعدّد أنواع الآخر يخلق الكثير من الحواجز بين أبناء الوطن الواحد.
السبب الأخير الذي تناقشه رحيمي هو التفاوت بين الطبقات الاجتماعيّة، واحتقار الأغنياء للفقراء.
تقول على لسان أحد الأغنياء : ” تلدون أكياسًا من الزبالة، وترمونها، لنتعثّر بها في طريقنا .” (43)
هذه الطبقيّة تؤدّي إلى قتل الروح الإنسانية، فزوجة وليد كانت على حافّة الموت، لكن رفضوا إدخالها المستشفى للعلاج، فقط لأنّ زوجها لا يملك النقود .
تتميز رحيمي عن كاتبات لامركزية بيروت بأنّها تركّز أكثر في روايتها على الأسباب التي أدّت إلى نشوب الحرب الأهليّة، فقط في الفصول الأخيرة تسرد أحداثًا في زمن حرب الأهليّة، فتصف أشلاء وطن ملامحه مبعثرة :
-خطوط تماس مشتعلة بالقصف المتبادل بين الشرقيّة والغربيّة.
-ارتفاع عدد القتلى والجرحى والمخطوفين.
-أسماء مناطق جديدة امتدّت إليها نار الحرب.
-طرقات مقفلة بحواجز الموت.
-مذابح متنقلة، جثث مشوّهة هنا وهناك.
-فرز طائفيّ ، تهجير، دمار، سرقات، مسلحون غرباء يفتكون بالبشر والحجر، يقتلون من الفريقين، و يرمون الجثث بين المنطقتين لإضرام نار الفتنة كلما لاحت لهم بوادر حلول في الأفق.
(108, رحيمي)
لعلّ وليد في هذه الرواية صورة عن فئة من اللبنانيين الذين يتمتّعون بروح صافية وأصيلة، لكن الحرب الأهليّة شوّهت، فبعد أن قتلت امرأته وطفله تحوّل إلى وحش يقتل من دون رحمة. ووليد الذي كان يحترم و يحبّ أمّه وزوجته وهما رمز الوطن يصبح بحاجة إلى امرأة فقط لتشبع حاجاته الجنسيّة، فيختار أجمل خادماته لهذه الوظيفة :
-ستكونين خادمة غرفتي الخاصّة لأنّك ابنة عزّ.
ابتسامة ماكرة ارتسمت على وجه الفتاة: كما تريد يا سيدي، أنا تحت أمرك.
هذا المشهد يدلّ على أنّ الحرب الأهلية جعلت الوطن جسدًا لا روح له بدل أن تكون أمًّا للبنانيين.
أمّا الكيس الذي وضع فيه وليد بقايا من طفله وزوجته وأمّه فهو رمز الذاكرة الجماعيّة التي نبت الحقد فيها على الآخر، لذلك كان أبو النار يرشق كلّ ضحيّة يقتلها بقطعة ما من بقايا الكيس، وكلّ هذا الحقد شوّه الإنسان اللبنانيّ. تقول الكاتبة :
همدت النار، وبقي عسيسها حقدًا تحت الرماد.
في الحروب الأهليّة لا شيء يعود إلى مكانه ، تنهار بنية المجتمعات، يغيّر الإنسان جلده، تسقط القيم.
تصف رحيمي بدقّة مصير زعماء الحرب في لبنان، فبدل أن يُحاسبوا قدّموا أنفسهم على أنّهم شرفاء، فعندما تعرّف أحدهم إلى أبو نار الذي كان قائدًا في الحرب الأهليّة قال هذا الأخير لحراسه : “تعالوا اسمعوا هذا المعتوه بما يهذي ! ما أقسى أن أرى أبناء وطني بهذه الحالة، إنّها نتيجة ويلات الحرب، ليتني بقيت في الغربة ..” (150, رحيمي)
الكتابات النسائيّة خلال الحرب الأهليّة لها ميّزة مختلفة عن كتابات الرجال، ربّما لأنّ النساء لديهنّ مسؤولية التصدّي للبطريركيّة أيضًا، وربّما لأنّ الرجال شاركوا أكثر في الحروب الأهليّة.
إنّ أعمال هؤلاء الكاتبات تتميّز بسمات مشتركة، لكن تنفرد كلّ روائيّة بأسلوب خاصّ، ولعلّ أهمّ سمة لعمل رحيمي أنّها تكتب من دون أيديولوجيا بل تلجأ إلى الرمزيّة، فنادرًا ما تذكر أسماء مناطق، وهذا يدلّ على أنّها تدين كلّ الفئات المتّفقة على تشرذم لبنان ونحره.

https://e-poetssociety.com/ar/book-details?id=55

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى