أدب وفن

{حِكايَةُ الشَّفَافِيَة والعُمْق} “إيليا حاوي” المُعَلِّمُ الَّذي لَمْ يَغِبْ [الحلقة الثَّانية] ﴿المفكِّر والكاتِب والنَّاقد الأدبيِّ﴾

إلى “إيليَّا حاوي”،

الذي ما برح، في الذِّكرى العشرين لوفاته،

يقف، غزير العطاء، بين الكبار الكبار من أساتذة الأدب

والنَّقد الأدبيِّ في العالم العربيِّ.

وجيه فانوس

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

مِنَ النَّاس مَن أَسْعَدَهُ الحظُّ فكانت له فرحة السِّعي إلى ولوج ما كان من دنيا الحضور الشَّخصيِّ لأستاذ الجيل، “إيليَّا حاوي”؛ في لقاءاتٍ اجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ ما عَمُرَت إلاَّ بشعشعانيَّة مودَّةٍ رَحْبَةٍ وصداقةٍ صافيةٍ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ سَيَبقى قاصداً هذا الذي ما بَرِح “إيليَّا حاوي” يعمله لِمُرِيديهِ، مِن غَوْصٍ في الفِكْرِ الإنسانيِّ وسُمُوٍّ في الإبداعِ الجَمَالِيِّ، في رِحاب ما وَضَعَ فيهِ “إيلِيَّا”، وكَتَبَ مِن مجالاتِ الفنونِ الأدبيَّة ولأعلامِها. ومِن أيٍّ مِن هاتين الجماعتين كان المرءُ، فلا مندوحة له مِن مفتاحٍ أساسٍ للدُّخول إلى ما كان يَسعى إليهِ عند “إيليَّا” الشَّخص، أو ما سَيَبْرَح قاصداً إيَّاه في “إيليَّا”الكاتِبِ والكِتابةِ.

يقومُ هذا المفتاح على حدَّين، أحدهما فَهْمُ ما كان لـ”إيليَّا” من قدرةٍ على اختراقِ أعمقِ ما في أغوارِ ما يدرسُهُ مِن موضوعاتٍ أو يبحثُ فيهِ مِن قضايا أو يَعْرُضَ لَهُ مِن أفكارٍ؛ وثانيهُما التَّمَكُّن المُذْهِلُ لـ”إيليَّا” مِن شفافيَّةٍ تعبيريَّةٍ، تبقى أبدأ قادرةً على الإضاءةِ المُتَوَهِّجةِ، على ما في تلكَ الأعماقِ مِن أغوارٍ ومسافاتٍ. وقد يبدو أحدُ حَدَّي المفتاحِ متباعدأً، عند بعض النَّاس، عن الحدِّ الأخرِ؛ خاصَّةً لِما في فِعل الغَوْصِ الاستكشافيِّ التَّحليليِّ مِن وقائعَ متشابكة فيما بينها، مُتنوِّعةٍ في تراكيبها، ومختلفةٍ في علاقاتِها مع ما يُحيطُ بها مِن قضايا أو تنشأُ عنهُ مِن أمورٍ؛ وكذلك لِما في الحديثِ فيها مِن ضرورةٍ إلى وضوحٍ، لا يَشوبُهُ تعقيدٌ، وتركيزٌ بمباشرةٍ لا تُشَوِّهُها سطحيًّةٌ. بَيْدَ أنَّ هذين الحَدَّينِ، في واقعِ وجودِهُما عند “إيليَّا”، وفي حقيقةِ فاعليَّتهما عَبْرَ هذا الوجود، شديدا التَّلازمِ فيما بينهُما؛ إذ لَنْ يُمكن لأحدِهِما إلا أنْ يكونَ مُنساقاً، في تناغمٍ أخَّاذٍ مع الآخرِ، ولَنْ تكون له، كذلك، فاعليَّة تحقيق السَّعي والنَّفاذ إلى غاية القَصْدِ مِنْهُ، إلاَّ بقيامِ تكاملٍ عُضويٍّ بينه وبين الحدِّ الآخرِ وبه.

يُدْخِلُ “إيليَّا”، مَن كان يسعى إليهِ مِن النَّاسِ، ومَن ما بَرِحَ يقصدُ كتاباته منهم، إلى عوالم وَعْيٍّ استكشافيٍّ وتحليليٍّ؛ ويتحقَّق هذا الإدخالُ بأخذٍ تكامُلِيٍّ يتناغمُ بينَ العُمقِ والشَّفافِية؛ ولا يكونُ ذلكَ الإدخالُ، وهذا الأَخْذُ، إلاَّ فعلَ إشراقٍ وانزراعٍ في آن. إنَّه إشراقٌ تَخترقُ فيه حرارة ُنورٍ للشَّمسِ بَرْدَ عَتْمَة ليلٍ للجهلِ؛ وهو اختراقٌ لا يكونُ، إلا مُبَشِّراً بانبلاجِ دِفءٍ للمعرفةِ، يكشفُ عن السِّرِّ في سَيْرورةِ الكائنِ نَحْوَ الصَّيْرُورَةِ. وهو، في الوقتِ عينهِ، انزراعُ وَهْجٍ لامعٍ لهذي الشَّمس، في جَسَدِ مَن تُشْرِقُ عَلَيْهِ، حَمِيمِيَّة وعدٍ بحيويَّةٍ معطاءٍ للعيشِ والوجود. إنَّهما، في حضورهما الحقيقيّ الفاعل، إشراقٌ وانزراعٌ؛ ليس منهما سوى فرحُ الاطمئنانِ إلى ما يتشكَّلُ بـ”إيليَّا حاوي”، رحابةً للكونِ ودودةً؛ وهي رحابةٌ طالَ بَحْثُ كثيرين مِن النَّاسِ عنها، وعَن عِزِّ التَّمتُّعِ بلذائذِ فُيوضاتِها المِعطاء. ولذا، فقد كانَ لهؤلاءِالسَّاعينَ إلى كَعْبَتَيْ “إيليَّا حاوي”، الشَّخْصِيَّةِ والكتابيَّةِ، والمُطَوِّفينَ في رِحابِهما، ما يُجيبُ، في سَعْيِهم وتَطْوافِهِم، كثيراً مِن سُئْلِهِم، ويُحَقِّقُ الأكثرَ مِن رغباتِهم للتَّمتُّعِ بلذائذِ ذاكَ الجميلُ مِن السُّموِّ الإنسانيِّ الباهِر.

المفكِّر والكاتب

يتجلَّى الحدُّ الأوَّل من المفتاح، في تحقق غَوْص “إيليَّا” في أعماق ما كان يكتبه أو يدرسه. فـ”إیلیَّا حاوي” وضحالة الفكر وسطحيَّة المنهج ضدَّان لا يجب لقاءهما، بل لا يكون هذا اللقاء بينهما أبدا”؛ إذ ما عند “إيليَّا” من قدرة على التَّعمُّق والغَوْصِ المتبحِّرِ ينفران مِن كلِّ ما هو ضَحْل، إنْ لم يقضيا عليه. ولذا فإن شخصيَّة “إيليَّا” لم تعرف الخواء أو الوهن؛ فالإنسانُ الذي في “إيليَّا”، كان أصيلا في ممارسته لوجوده الحي، كيفما تشكَّل به هذا الوجود. قرأ “إيليَّا” كثيراً، وكان نَهِمَ معرفةٍ، بيد أنَّه لم يكن إلا أصيلاً في عطائه المعرفيِّ، ولم يجنح مرَّة إلى النَّقل الأعمی والتَّفاعل السَّطحيِّ مع هذا الذي كان يقرأه ويطَّلع عليه، من شؤون الفكر الإنساني وابداعاته.

دارس النَّقد

كتب “إيليَّا حاوي” عن المدارس النَّقديَّة في دنيا الأدب؛ فعُرَّف بالنَّاقد الأدبيِّ العربيِّ الكبير، كما اشتُهِرَ بالأديبِ والدَّارسِ الأكَّاديميِّ والباحث عن أغوارِ الثَّقافة الأدبيَّة وآفاقِها، في رحاب الدَّرس الأدبيِّ العربيِّ؛ على أبرز ما عاينته أوروبا من نزعات الكلاسيكيَّة والرومنطيقيَّة والرَّمزيَّة والسِّرياليَّة والبرناسيَّة. ولم يلبث “إيليَّا” أن حطَّ، من ثَمَّ ، ملكاً متوَّجاً للبحث الأدبيِّ، يحمل صولجان الدَّرس النَّقديِّ في عمله الأكبر عن نظريَّة الفن الصَّافي؛ وقد جال عبر هذه النظرية، بموسوعيَّة فذَّة وعميقة، ترسم تجليَّاتها الأولى مع الإنسان البدائيِّ، لِتَحُطَّ بعض رِحالها عندَ الإغريقِ، مُنطلقةً مِن هناك إلى غَوْصاتٍ، متخمَةِ الجَنى، في فَهمِ البواعثِ النَّفسيَّة للفنِّ الصَّافي، ساعيةً إلى ربطِ هذا الفهم لوجودِ الفنِّ مع إيقاعاتٍ الحياةِ وتنغيماتها، مارَّةً بتأويلاتِ، كلٍّ من “فرويد” و”يونغ” و”كانت” و”هيغل” و”كروتشيه”، للإبداع؛ فاردةً بعضَ جناحيها في درسٍ يربط بين الفنِّ الصَّافي والمجتمع، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره من صميم تحقيق هذه الرُّؤية إلى الفنِّ،نَظراً وتطبيقاً. وفضلا عن هذا كلِّه، فقد صالَ “إيليَّا” وجالَ في رِحاب نتاجاتِ النَّقدِ الأدبيِّ الغربيِّ؛ أكانَ هذا النَّقد نابعاً مِمَّا هو رياديٌّ في ثقافة أوروبا وتفاعلِ العالم الغربيِّ معها وبها، أو مِمَّا هو عربيٌّ، متجذِّر في تراثِ العربِ وتاريخهم. فكان، “إيليَّا” ساعياً، بانميازٍ منهجيٍّ علميٍّ صرفٍ وبوعيٍ حقيقيٍّ لفاعليَّة التَّلاقحِ الإبداعيِّ، لحضورِ النَّقدِ الأدبيِّ في بُعده العالميِّ، إلى انفتاحاتٍ على مناهلِ الثَّقافةِ الأدبيَّة بتشكُّلاتِها المعاصرة وتعدُّدِ انتماءاتها المختلفة. ولم ترتفع قامة “إيليَّا”، في مكتوباته هذه، إلاَّ على أصالةِ الباحثِ الموضوعيِّ، وعُمق إدراكِ المحلِّل المُدَقِّق المُتأني، بعيداً عن كلِّ ما هو نقلٌ أهوج وترجمةٌ عمياء وتلفيقٌ لمعلوماتٍ مقبوسةٍ أو مسروقة.

لئن بدا كثير من المكتوب باللغة العربية، مِمَّا رُوِّجَ له، أمام عينِ قارئٍ عربيٍّ ما، على أنَّه درسٌ في النَّقد الأدبيِّ، جديداً برَّاقاً، في برهة من الزَّمن؛ فإن هذا الكثير لم يستطع إخفاء حقيقة أن بريقه ليس من جوهر مساقاتِ النَّقد الأدبيِّ العربيِّ أبداً، أو من طبيعة المنطلقات الموضوعيَّة للوعيِّ الثَّقافي لهذا النَّقد، ولتفاعله الحقيقيِّ مع واقعيَّة متلقِّي موضوعاته ودراسة تنامي أنساقها، فيما بينها، وتفاعل قيمها وتشابك مفاهيمها. وإذا ما اتَّسم كثير من هذه الدِّراسات للنَّقد الأدبيِّ بسرعة تهافت ما ادعاه كاتبوها ومروِّجوها من أصالة معرفةٍ، وموضوعيَّة بحثٍ، وقدرة على إنماء الفِكر النَّقديِّ الأدبيِّ العربيِّ؛ فإنَّ الخيبة بها أدَّت إلى ما يكاد يكون دمغاً لها بصفات العطاء الفكريِّ الهَشِّ والعقيم، فضلاً عن التَّرجمة السَّقيمة للَّغة والاقتباسِ الهجينِ للفِكر، على حدٍّ سواء، مع التَّهافت في كثير من مجالات الدَّرس المنهجيِّ النَّقدي الأدبيِّ، عبر مرحلة زمنيَّة امتدَّت من أربعينات القرن العشرين وحتى نهاية القرن. أمَّا مع “إيليَّا”، ومن كان من خامة أصالته المعرفيَّة والوجوديَّة، فإنَّ الدَّرس النَّقديَّ الأدبيَّ توهَّج فِعْلَ بناءٍ عضويٍّ في ثقافة الأمَّة القارئة، وممارسةَ فَهم واعٍ لحقيقةِ الانميازِ الثَّقافيِّ والمعرفيِّ لكلِّ واحدةٍ من المجموعات الإنسانيَّة الفاعلة في النَّقد الأدبيِّ والمتأثِّرة بنتاجاته، عبر مساقات العصور ومسارات الفكر.

“إیلیا حاوي” قصَّابُ صَخْرِ الدَّرس النَّقديِّ الأدبيِّ في ثقافة العرب المعاصرين؛ يعرف كيف ينتقي حَجَرَهُ النَّقدي، ولا يأخذه إلا مِن مقالع الأصالةِ الصَّارخة ومناهِل التَّجذُّر المُمْعِنِ في تَشَعْشُعِ امتدادهِ؛ ويعرف، تالياً، كيف يغوصُ في جوَّانية هذا الحَجَرِ النَّقديِّ، فيُحسِن تحديد مطارحِ زواياهُ، ويُجيد تقدیر تشكُّل أبعاده، ويبرع في صقله وتلميعه ليأتي برَّاقاً وشفَّافاً لا عن بهرج ورقَّة، بل عن روعةِ عُمقٍ واعتزازٍ بمتانةِ تكوينٍ وحضور .

وإلى اللقاء مع الحلقة الثَّالثة والأخيرة: [ يليَّا حاوي، دارِسُ الأدبِ والكاتِبُ الرِّوائي والمُعَلِّم ].

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى