في ذكرى رحيله الواحد والعشرين الشاعر البردوني صانع الدهشة (الجزء الأول)
الشاعر نزار النداوي/العراق
.
“حين نودي باسم عبدالله البردوني، أخذنا نتلهف لمعرفة هذا الاسم الجديد علينا.
كيف يُدعى شاعرٌ لم نسمع به من قبل إلى مهرجان مرموق!؟
محاولاً أن أتبين قامته القصيرة بين الحشود ـ وكان يشق “صفوف “الجمهور ليصعد إلى المنصة ـ لم يكن له نصيب من أناقة مهيبة، كما لنزار قباني أو محمود درويش أو عمر أبو ريشة، لكنه لم ترافقه إلى المنصة إلا نفسه العظيمة، وإلا موهبته الجبارة.
وقف عند المنصة، بقامته الضئيلة، وبوجهه المحروث بالجدري، وبعينيه المطفأتين، وحدق في ظلام القاعة الدامس، وكأنه يتشمم هواء القاعة.
فجأة رفع غطاء القمقم، واندلق منه جني كفيف”.
بهذه الكلمات تحدث الشاعر الدكتور علي العلاق عن البردوني، عند زيارته الأولى للعراق، ومشاركته في مهرجان أبي تمام الشعري في مدينة الموصل العراقية.
وفي أول مرة استمعت فيها للدكتور العلاق، وهو يقدم لنا البردوني، ذلك الشاعر القادم إلى العراق من بلاد التاريخ، والحضارة، والأساطير التي تمنح الفكر امتداداً إضافياً، وتقدم له مفاتيح العوالم القائمة على لا محدودية الخيال المبدع، بدأت تتشكل في رأسي مجموعة من الأسئلة على الشكل التالي:
كيف أدخل إلى عالم البردوني، وما الذي جعل من ذلك الفتى الذي فقد البصر بسن الخامسة من عمره، هذا الشاعر الذي ترك لنا من الشعر، ما هو مشحون بالذاكرة اليمنية الشعبية، وبتاريخ اليمن السياسي والديني والحضاري والاجتماعي الضارب عميقاً في التاريخ؟
ومن أي كوة نور كان يطل ذلك الشاعر الضرير على عوالم الارهاصات العليا للحس الابداعي، ليترك لنا ـ بعد رحيله ـ أرثاً أدبياً غنياً يتكون من أثنتي عشر عملاً شعرياً، وثمانية أعمال أخرى في التاريخ والأدب والفكر؟
أي ثراء فكري هذا الذي اكتنز عقل شاعر، لم يبصر النور سوى لخمسة أعوام من عمره، قبل أن يقضي بقية عمره فاقداً للبصر؟
ولكي أبتعد عن تأثير ما عرفته عن البردوني ـ من الدكتور العلاق، قررت حينها أن لا أدخل إليه من قصيدته “أبو تمام وعروبة اليوم” التي انتزع بها البردوني اعتراف جمهور يمتلك مخزوناً شعرياً هائلاً، وذائقة شعرية شرسة، لا يمنح الشاعر ثقته، ما لكم يشكل ـ بالنسبة له ـ إضافة شعرية معرفية حقيقة.
ولأن الدخول إلى عالم كاتب ما، أوأديب ما، عادة ما يكون عبر رصد عوالم الرؤية في ما قدم لنا من نتاجه، لذلك قررت الدخول للبردوني من خلال المساحة التي تتكثف فيها عناصر الفعل الإبداعي داخل بعض قصائده، لأدس في جيب هذه المقالة بعض ملامح وجدتها في شعر البردوني، أسطرها هنا بما تسمح به مناسبة القول.
يكفي أن يقول المرء اليمن، ليستذكر ذلك الإرث التاريخي، وذلك السمو الحضاري الذي يمثله، لذلك نجد اليمن هو الحاضر الأكبر في إرث الشاعر، الذي أصيب بوطنه إصابة عميقة، تكاد تضاهي إصابته بفقدان بصره، لما أساء حاكموه سياسته، وتسببوا له بالمصائر البائسة، وبالنهايات العقيمة.
تعال معي إلى قصيدته التي عنونها بـ “ذات الجرتين”، حيث يقول:
.
لأنفاسها طعم الخطورة لاسمها
ذكورة أنثى، غَلْمن القدُّ أُنثاها
.
أمْدُّ مِن التأريخ قامةُ حلمها
وأغمضُ مِن لمح الأساطير مرماها
.
وأنضر مِن وهج الدماء على الحصى
تهاتُفُ نهديها وترقيص مجراها
.
لا تملك ـ وأنت تقرأ شعر البردوني ـ إلا أن تسأل نفسك كيف استطاع شاعر بقي وفياً للقصيدة العمودية حتى أخر قافية سطرها قلمه، أن يجمع ما بين الأصالة والتجديد، وبين الاستجابة لاشتراطات الكلاسيكية الشعرية الصارمة من جهة، وحرية السياقات الحداثية من جهة أخرى، ولتفاعل ما بنيوي واقعي، وما هو تفكيكي حسي؟
والبردوني الذي عاش متصالحاً مع قدره، عاش وفياً لشعره الذي سخره من أجل رفعة اليمن.
لم يكن معارضاً بالمعنى السياسي الفج، لكنه كان معارضاً بالوعي وبالفكرة، حتى وهو يخوض معاركه ضد المتسلطين على العباد والبلاد بالقهر والحرمان، فقد كان يخوضها على أساس انحيازه للفقراء والمحرومين، وكان يدخل القصيدة المعارضة بذلك الوعي، منزهاً قصده عن شخصنة القضايا، وعن “أنا” الشاعر، رغم كل ما جوبه به من التعسف الذي وصل حد الضرب، بسبب قصيدة أنشدها أول شبابه، ورغم التجاهل الذي قوبل به من قبل السلطة والمصفقين لها.
انتظر البردوني طويلاً قبل أن ينصفه الشعراء في اليمن.
وكان لكلمة الدكتور عبدالعزيز المقالح كلمة الفصل في تملك شعر البردوني نكهته الخاصة, والصوت المتميز.
الصوت ذاك تميز بملمح آخر في شعر البردوني، إلا وهو السخرية السخرية التي تدخل على النص، مجردة من تشكيلاتها التقليدية.
إنها سخرية لا تكتفي بالدخول على نص القصيدة وبنائها وحسب، وإنما قد تسبق القصيدة ذاتها إلى العنوان الذي يختاره لها، كما هو الحال في عنوان القصيدة “ذات الجرتين”، الذي تركته مهملاً في ظاهره، واضعاً إشارة دالة عليه لدى المتلقي المتصف بقوة الرصد الفني، القادر على إعادة بناء العلائق بين المفردة ودلالاتها.
بالرجوع هنا إلى الآية القرآنية الكريمة ” لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ” نجد أن البردوني المعارض الساخر، قلب مفردة الجنتين إلى الجرتين، وكأنه يقول لسراق خيرات بلده، إن الجنتين، هما جرتان من سمن وعسل، وأنتم تمدون أيديكم إليها، لتسرقوا قوت الفقير، ولتنعموا بينما هو يشقى.
أنتهي هنا من الجزء الأول من رحلتي مع البردوني صانع الدهشة، و إلى اللقاء في الحلقة الثانية
.
نــزار النّـــداوي