قراءة نقدية للدكتور عبد العزيز اسماعيلي علوي في قصيدة “فوق الستين ” للشاعرة حنان شبيب
فوق الستين….
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
فوقَ الظنِّ وفوقَ التّخمينْ
ليست تعنيني الأيّامُ
أنا من نيسانَ
ومن تمّوزَ
ومن تشرينْ
ما زال سلافُ الحبِّ يراودُني
وسلالي ملأى بالتّينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
ما زلت أعدُّ الغيماتِ..
أجسّ النبضَ المترعَ بالماءِ
ويغريني الطّينْ
الأصلُ الأولُ في التكوينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
اسمي بستانُ حنانٍ وحنينْ
تتخمّرُ بالوقتِ عناقيدي
تزهو بالنور
يتفتّقُ في عيني الليمونْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
بنتُ الشمسِ
على نيراني ينضَجُ خبزُ التنّورِ
يبتلُّ بحبّاتِ العرقِ المتناثرِ
في كلِّ جبينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
شاهدتُ بأمِّ العينِ الموتَ
يباغتني، فتطاير بعضي
لكني ما متّْ
هل صارَ الموتُ رحيمًا؟
وأنا عشتارُ الحبَّ ..شهِدتُ الحربَ
وما بينَ الحاءينِ السكّينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
قلبي مهووسٌ بالشعر
وصديقي البدرُ المسكين
قد أنجبني الفجر
في ليلِ كوانين
وشروقي عند العصر
فأنا الحبلى بالضوءِ وبالنسرينْ
وأنا امرأةٌ فوقَ الستينْ
عاشت في حطينْ
خاضت حربًا بفلسطينْ
غسلتْ قدسَ الحبّ
زرعَتْ سورًا من يَسمينْ
كرمى لصلاحِ الدينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ الستينْ
قُتِلتْ مرّاتٍ مرّاتٍ
في القرنِ العشرينْ
عاشَتْ خيباتِ الأمّةِ
في الترحيلِ وفي التهجيرِ
وفي الإذلالِ وفي التوطينْ
لكنْ وأنا امرأةٌ فوقَ الستينْ
مارسْتُ هواياتي
بالحبّ الأصفى
ببلاغةِ جيناتي
علّمتُ الحرف
بنبلِ الهمزةِ والميمْ
وبيانِ السحرِ وسحرِ التبيينْ
ورسمتُ بدمعي بسماتٍ
ستظلّ تمدُّ التلوينْ
إنّي امرأةٌ فوقَ جدارِ الأسطورهْ
قالوا: إنّي إحدى قاراتِ المعمورهْ
سكنتني الخنساءُ…. البيداءُ
وأشجارُ الدرِّ
وأندلساتُ العشاقِ على
لوحاتٍ من سحرٍ مكنونْ
ماذا يعني العمر؟
هوَ أشجارٌ وعيونْ
وجداولُ من دمعٍ مجنونْ
ودروبٌ تستسقي الغيماتِ
شمالًا ويمينْ
الشاعرة حنان شبيب
قراءة أدبية نقدية في قصيدة ” فوق الستين”
نحن على موعد مع قصيدة ذات نغمة غنائية عاتية، حضور صارخ للذات المتكلمة، تجسيد للهوية في أبهى تجلياتها… رغم الخيبات التي هبت ريحها على جبين الأمة، وهو حتما منها.
قصيدة كتبت بنون النسوة المتفردة المنفردة، واختزلت بين ظهرانيها كل امرأة عربية، لأن صوت حنان شبيب في القصيدة، ناب عن كل الحرائر من الأصوات … إنها قصيدة مرآوية لبنات جلدتها “إني امرأة فوق الستين” أبدت الحضور القوي لهذه المرأة التي تربعت رمانة الجملة الإسمية مدفوعة بالناسخ الحرفي المشفوع بياء المتكلم / المتكلمة ليدعم قيمة التأكيد الذي جاءت القصيدة لتبرزه بشكل صارخ من خلال مجموعة من المؤشرات المعجمية يمكن تسطيرها كالتالي:
• التعريف بواسطة ألـ
اكتسحت الأسماء المعرفة بالـ جزءا كبيرا من جسد القصيدة، رسخ سمة التعريف بدمغة قوية: الستين- الظن- التخمين- الأيام – الحب- الغيمات- النبض- الماء – الطين- الأصل – الأول- التكوين- التاريخ- الموت- الحرف – الزيتون- الوزان- الشربين- الشربين- الحبو- الأول….والملاحظ أن حقل الطبيعة يشكل قيمة مهيمنة من هذا القاموس
• الاسم العلم:
وقيمة العلم في سلسلة المعارف، من أقوى الدلالات على الرسوخ والتباث، سيما وأن العلم في بعض الحالات تقوى بإضافة أداة التعريف، ومنه: نيسان- تموز- تشرين- عشتار- النسرين- حطين- فلسطين- صلاح الدين- الخنساء- أندلسات…
• المضاف للمعرفة:
وارتأيت أن أجعله قسمين
- المضاف للاسم:
بنت الشمس- سنبلة الوقت- آيات التلحين- بستان حنان( على اعتبار حنان اسما علما، وهو هنا في هذه القصيدة فرضته سلطات الحالة المدنية) بستان حنين- (بجامع الجناس الذي يكاد يحقق تمامه رغم القيمة الخلافية بين الألف في الأولى والياء في الثانية، ويعضده أن كلاهما حرفي لين يحافظان على نفس الصيغة الصرفية )– أم العين- أفراح الأمة- خيبات الأمة- أشجار الدر…. - المضاف لياء المتكلم:
سلالي- خطواتي- قدي- زندي- أسمي- عناقيدي- عبثي- نيراني- بعضي- قلبي- صديقي- شروقي- دمعي…هذا على اعتبار الضمير من المعارف، وهو في القصيدة صوت واحد للذات المتحدثة، وإذا كان الاسم عندما يضاف لياء المتكلم، يكتسب نوعا من الانحياز للذات كعامل فاعل في تأكيد مستوى الحضور لهذه المرأة التي صارت أيقونة: رمزا ومثلا، فإن الفعل أيضا عندما يضاف لياء المتكلم، كضمير متصل يساهم إلى جانب المنفصل في تأكيد مستوى الحضور، والفعل يكسبه الحركية/الحياة، مضيفا قيمة فاعلية لما سبق تبيانه: تعنيني- يراودني- يغريني- يباغتني منحتني- سكنتني…فيجعل من الذات الشاعرة المتكلمة القطب الأساسي في ضبط أفعال النص التي انتسب جلها للمتكلم، وإن كانت التي أضيفت لغير المتكلم، فقد دل بعضها ضمنا على الأخير: غيمات تضفر قدي- تتسامق سنبلة الوقت- تتخمر عناقيدي- ينضج خبز التنور- يبتل – يباغتني الموت- تطاير بعضي- يحييني الفجر..
فكما سبقت الإشارة، أن جملة من الأفعال وإن لم تسند للمتكلم، وأسندت للغائب، يبقى نحويا فقط، أما دلالة فيعود على المتكلم بدليل الضمير المنفصل(هي) الذي يعود أصلا على المتكلم، أو ما كان التفاتا مباشرا بعد الضمير (أنا): أنا…عاشت- خاضت- غسلت – زرعت ..وقد زاد هذا الالتفات القصيدة مسحة جمالية، لأن النص يفصح بالغائب، لكن المتكلم هو الحاضر بقوة الضمير أنا بعد واو رابطة تختزل: والحالة هذه. وأرى أن هذا الالتفات البديع لا يخلو من نكتة بلاغية مفادها إشراك كل النساء في هذا الإحساس بالمجد الذي عاشته الأمة العربية كفاحا وسلاحا، نصرا واستشهادا، لأن الشاعرة مباشرة بعد:
“وأنا امرأة فوق الستين”
استعرضت جملة من الأمجاد التي كانت شاهدة عليها، تجلت في القصيدة نتفا مشرقة(حطين- فلسطين- صلاح الدين…) وأكدت بعد الإعلان عن الصيغة المعدلة بالمألوفة
“إني امرأة فوق الستين”
لتتابع استرسال الأمجاد عندما أمم جمال عبد الناصر قناة السويس، “أفراح الأمة في التأميم” وأذكر شخصيا أن الأسر المغربية -على الأقل- كانت ترفع في بيوتاتها صورة جمال عبد الناصر إلى جانب صورة الملك المغربي الذي قامت فرنسا بنفيه: محمد الخامس، وحادث التأميم كان ضربة موجعة للقوى الامبرالية التي سرعان ما نهضت مستعينة بنا وبغيرنا علينا، وهكذا يدخل النص في ضباب درامي ملون بالهزيمة والخيبة، ولحق الغبن نون النسوة، ومعها كل الضمائر؛ الحاضرة والغائبة، المذكرة والمؤنثة، المتصلة والمنفصلة…طالت الخيبة جل البقاع العربية.. وطالت مدتها.. طالت الخيبة الضمير اللغوي، لتصل للضمير العربي ليشهد الترحيل والتهجير.. الإذلال والتوطين..
وماذا بعد يا دعد؟
جاء الاستدراك
” لكن وأنت امرأة فوق الستين”
تتفنن الشاعرة في تلوين لازمتها، وفق ترتيب منهجي، لتبين أن المجد يبقى للمنابر الحرة، لسدنة الحرف، لدهاقين الكلمة المعبرة الموحية، للشواعر والشعراء، وقد تجلى ذلك بحضور ترسانة معجمية من صميم الحقل اللغوي، والقصيدة عنقود من دواليها: مارست هواياتي- فصاحة قلبي- بلاغة جيناتي- علمت الحرف- قبل الهمزة والميم- بيان السحر- سحر التبيين- لغة منحتني…لترتفع باللازمة إلى مستوى البراعة التعبيرية، منتشية بذاتها، لتكمل تأثيث اللعبة المحكمة، وتحمل القطعة الأخير من “البوزل” اللغوي ليكتمل تشكيل القصيدة/الصورة:
” إني امرأة فوق جدار الأسطورة”
مكسرة ببناء بديع أفق انتظار القارئ، لتلقي عليه ظلال لوحة مخملية، تزرع الأمل، وتسمو بالنفس، وتبعث على الانتشاء: الخنساء- البيداء- أشجار الدر- أندلسات العشق…
لقد رسمت الشاعرة صورة مشرقة للقصيدة العربية، القصيدة جدارية موقعة باسم الشاعرة من خلال تورية بديعة: “اسمي حنان…” وموقعة بلون موسيقي اتخذ النون محطة للروي من خلال توالي ساكنين في خاتمة الجملة الشعرية مكللا بقافية متراكبة تجسدت صوتا من خلال النون الموسوم بغنة ترفع قيمة الروي المدفوع بصوت لين مثله مد الياء الذي هو امتداد صوتي للصامت الذي جعل منه امتدادا في الفضاء، ليستقر بعد طول أنين على وقع النون/الروي الساكن، وهذا التعاقب ألبس القافية مطارف موسيقى ترددت على طول جسد النص مدوية بين الفينة والأخرى عبر اللازمة ” إني امرأة فوق الستين” لتتناغى مع ما يعضدها من النص - قافية:الستين←تخمين- نشرين-الطين- التكوين… ومثله كثير في النص
- رويا:ما كان ترصيعا على اعتبار النون من الأرواء التي تغني البعد الصوتي: فلملمت الشاعرة من قبيله ما يرصع الأسطر: إني – الطين – تعنيني- أنا من نيسان من…
الملاحظ أن النون كلما جعلت رويا إلا وارتقت بالمستوى الصوتي للإنشاد، ويساهم في رفع قيمته المصوتة ما كان من جنسه، وهو هنا (الميم) لما يتميز به من اختمار من جنس الأول باعتباره صوتا شفهي المخرج.
ويلاحظ هذا التزاوج بين النون رويا وصوتا مفتاحا للقصيدة مع ما يستدعيه من جنسه أو مثيله صفة أو مخرجا، ألا وهو الميم، وبالخصوص الغنة “… صفة صوت له رنين في الخيشوم تتبع حرفي النون والميم”. وهذا الرنين المركب في جسم النون والميم تردد عبر ثنايا القصيدة، وأكسبها إيقاعا خاصا. فتوسط الميم نونين؛ مشددة(إني) وساكنة (الستين)، بالإضافة إلى الغنة الصادرة عن التنوين في (امرأة ) شكل لازمة صوتية تصدر قيمتها النغمية عبر جسد القصيدة عبر اللازمة التي جعلتها الشاعرة مفاصل صوتية لهذا النص/ الجسد.
. امرأة فوق الستين
الظن———التخمين
الأيام———-تنعتني
من—-أنا——نيسان
من
من————تشرين
ما————يراودني
التين
والملاحظ اللافت للنظر أن هذه الخاصية الصوتية (التزاوج بين النون والميم) وتناغيهما مع اللازمة والأرواء، لا يخلو منها مقطع من مقاطع القصيدة، الأمر الذي حقق للنص تماسكًا إيقاعيًا لعبت فيه الأبعاد الصوتية دورًا طلائعيًا، جعل القيم الدلالية تهتز وتربو محققة انسجاما بين الشكل والمضمون.
الدكتور عبد العزيز إسماعيلي علوي/ المغرب