تجليات المتن الحكائي وتشظياتها في رواية (ربيع لم يزهر) للروائية د. نجمة خليل
تجليات المتن الحكائي وتشظياتها في رواية (ربيع لم يزهر) للروائية د. نجمة خليل
نزار حنا الديراني
المتن الحكائي هو مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها مترادفا مع الصراع المتجلي، في الحوار الذي يحدث في أعماق الشخصية أو بين الشخصيات مشكلاً بذلك الهيكلية العامة للنص الروائي الذي ينتقل من حدث لآخر طوال الرواية وفقا للتتابعين الزمني والمكاني….
عن الدار العربية للعلوم ناشرون صدر للزميلة د.نجمة خليل حبيب روايتها ( ربيعٌ لم يُزهر ) سنة 2022 .
في قرائتي للرواية وجدت نفسي أمام راوية متمكنة تعلمت من الماضي العديد من العبر والحكايات والأمثال وبأسلوب شيق يذكرك بحكايات الجدات أمام المواقد في الشتاء القارس وحيث كانت جداتنا يقصون لنا القصص ونحن نتشوق لسماعها ، وهذا ما جعلني أن أواكب على قراءة روايتها بعد أن قرأت مجموعتها القصصيه (جدتي تفقد الحلم) وهي تحاول نقل بعض مآسي شعبها وهو يعيش الحرب اللبنانية . وما جعلني أن أتشوق للسير في قراءة روايتها هو توظيفها للموروث الحكائي الفلسطيني واللهجة العامية المستخدمة في الحكاية وهذا يعتبر واحد من الموضوعات التي أفرزتها الرواية في مسيرة تطور الأحداث ، وتشكل جانبا من ابرز جوانب خصوصيتها ، وكان هذا هو الباعث الأساس وراء اهتمامي واشتغالي بها بحثا ودراسة .
منذ العتبة الأولى ( ربيعٌ لم يزهر ) تجد نفسك أمام نقيضين ، الفتى ربيع / الذي يتناص على فصل الربيع والذي من المفترض أن ينمو ليصبح عنصراً فاعلاً وكما هو فصل الربيع إلا أنك ستكون أمام النقيض أو الوجه الآخر فبسبب الظروف يتعذر على الفتى ربيع أن يصبج رجلاً فاعلاً في المجتمع وكأن فصل الشتاء القارس امتد بصقيعه ليضع حداً لظهور فصل الربيع .
وقد تجلى ذلك بداية من العنوان (ربيعٌ لم يزهر ) فالعنوان يؤدى وظيفة ازدواجية مركبة من دلالتين من خلال الصورة البصرية، والدلالية التي تنفتح على مجالات من التصوير والتركيب، فالربيع يعني المستقبل الزاهر إلا ان عبارة (لم يزهر ) يعني الصراع الفلسطيني لم يثمر مما يؤكد أن العنونة التي اعتمدت عليها الكاتبة كانت عاملا مهمًا في ترسيخ البعد النفسي الذى انطلقت منه الرواية ، وفى عمق الواقع المهترىء الذي عاشه ويعيشه الفلسطيني في مخيماته المنتشرة في الدول العربية.
ولكن من جانب آخر إن كان المقصود بـ (ربيع) هذا الفتى الصغير والذي كان من ثمرة زواج مريم وعوض ، والذي ولد قبل حادثة (بوسطة عين رمانة ) فهذا يعني من المفروض أن تنتهي الرواية في ص106 فما بعد هذا يعتبر حشو رغم أن دور ربيع كان هامشياً . أما إن كان المقصود بـ (ربيع ) هو فصل الربيع والذي يرمز الى كل الفتيان الذين عاشوا زمن هذه الحرب ، فهذا يعني الرواية تستمر وسيكون الفتى عامر هو المقصود بالرواية … إلا أن الساردة نجمة أعطت لروايتها بعداً آخر من خلال قلب الواقع أي إذا كان ربيعها عقيماً (لم يزهر) فجاء خريفها (الفصل الأخير ) مزهرا بمعنى إن استشهاد ربيع يعني ولادة جديدة بعامر … ولكن هناك تساؤل مشروع هل حقاً أزهر الخريف ؟ وإن كان كذلك فهل يعني ما قام به خالد علوان بطل عملية مقهى الوِمبي في شارع الحمرا بقتل ضابطين اسرائليين هي أزهار الربيع فإن كانت كذلك فهذا يعني حتى الخريف لم يزهر …
وجاءت ميزة هذه الراوية ، أن الساردة نجمة خليل تنظر إلى الأحداث من الداخل لا من الخارج، كونها عاشت الحدث لذا تراها تتقمص دور الشخصية التي هي محور الرواية (مريم – أم ربيع ) الشخصية الحكائية، فكل الإشارات التي تضمنها المتن الحكائي تشير إلى أن الأحداث جاءت محللة من الداخل؛ حيث تروي الساردة نجمة خليل حكايتها، ؛ فكانت الأحداث متوائمة مع صيغة السرد العامة في الرواية، ومتناسقة مع تطور أحداثها، لذا ان نظام السرد لديها لم ينحرف عن مجراه الطبيعي ، حيث سارت أحداث الرواية في خط سردي واضح ومحدد، بدءًا من الحوار في مخيمها الاول (الضبية – بيروت الشرقية) مرورا في مخيمها الجديد في بيروت الغربية وصولاً إلى النتيجة والخلاصة، فكانت بنية الأحداث متسلسلاً ولم تكن حبكة الأحداث مفككة، بل جاءت ذات نسيج منطقي محبوك بعناية دون خلل أو ثغرات؛ حيث رصدت الساردة الأحداث باسلوب سلس وسيطرت كليا على حركة شخوصها وتفاعلها مع الحدث ، فما أن تزداد انفعالات الشخص :
( مشادة عنيفة تدور بين أبو ربيع وأبو مطلق ، شارك فيها عامر
- ليرحلوا عنا قبل ما يقضوا علينا
- عيب هذا االكلام يا عوض ، ولو! بلد حمانا وفتح لنا بيوته وقدم شبابة ليحاربوا معنا ، نتخلى عنه بسهولة ؟ نهرب متل قليلي الأصل !…)
تتدخل الساردة نجمة لتخفيف من حدته حيث كانت تضبط إيقاع حواراتها ، والحد من سرعة الحدث وتدفق الحوار، بدون أن يفلت من سيطرتها فيشوش المتلقي . كقولها في فصل ( رندة تقاضي والدها الشهيد ) وفي رسالتها المؤرخة في شهر تشرين الثاني / 1978 ترى أنها تضع حداً لتهور الشخصيات المتذمرة تجاه الآخر وبهذا تكشف لنا الساردة أن الحرب هي لعبة أشخاص يكون ضحيتها العامة من الشعب:
( – … لو كنا مكانهم لفعلنا مثلهم ، استشهاد أبي وأخي وأختي أمر طبيعي في زمن الحروب … أليس بينهم أيضا من استشهد أبوه وأخوه وأخته …)
مما سهل علينا تحديد زاوية الرؤية في الأحداث من خلال سياق المتن الحكائي وحيث كانت الساردة وكأنها هي بطلة الأحداث فيه؛ كونها كانت تقوم بدور الشخصية الحكائية، لذا جاء المشهد السردي لديها سارداً تفاصيل الأحداث بشكل يجعلك تعيش الحدث، وتتناوله بكلّ دقائقه ، كما في قولها :
( خالتي ! أنا لا أتعالى عليهم ، أنا أحقد عليهم جميعا . أحملهم مسؤولية مقتل أبي ! هؤلاء الجهلة أو الخونة ، لا أستطيع أن أجزم ، هم الذين أوصلوا المخيم الى ما وصل اليه ، كان يمكن للأمور أن تسير بخسائر أقل لولا رعونتهم واستهتارهم بحياة الناس …)
فلا يمكن تصور أي شيء في الوجود دون وضعه في إطار زمني، وذلك للدور الرئيسي لتحكم الزمن بالأحداث والأفعال وفاعلية الأشياء، وخاصة حين تتحدث عن حدث كان ولا يزال قائما بفاعلية وهذا ما تتلمسه من ضجر شخوصها للحالة التي يعيشونها الى درجة تصل الى ما يشبه اليأس كون الحدث هو هو ، لم يتغير ولا يوجد في الأفق بريق أمل ، من خلال لجوء الساردة إلى الانعطاف نحو الزمن الماضي – الحرب اللبنانية الداخلية في استحضار بعض الشخصيات الحقيقية، أو الأحداث التي سبقت لحظة حوارها، كما في قولها :
( … أبو شبلي يلقي محاضرته اليومية عن فوائد العرق ، يشفي من الصداع والارق ، يفتح النفس على الأكل …. مريم ترقب هذين المراهقين ، حسن وأليسار فيمتلئ قلبها حوارا لمشاهدتهما يسترقان النظرة أو كلمة الغزل … مشادة عنيفة تدور بين أبو ربيع وأبو مطلق ، شارك فيها عامر …)
كما اعتمدت الساردة في بنائها على فنية التصوير باعتبارها ركنًا أساسيًا في تشكيل المعنى وفى رصد العلاقات التعبيرية التي يتشكل منها البناء الفني للعمل السردي، فمن خلال وصفها للمكان تحس انك في حي فقير مما يشير الى تعاسته وحيث بعض أبنيته لا تصلح للاستخدام البشري كونها ( البنايات قديمة ) كقولها :
( … أمها وثلاثة صبايا مكونات في شقة مفروشة من غرفة نوم واحدة على الطابق العاشر في إحدى بنايات المهجرين ، بناية مورس عليها كل انواع الانتهاكات فلا مصعد ولا كهرباء ولا ماء …)
ومن منطلق الصورة فإن الرواية تعكس الدلالات الواقعية التي تربط الخارج بالداخل وتنشىء العلاقات بين الصورة الداخلية والصورة الخارجية… من خلال سرد وقائع الاحداث داخل المخيمات ، ووصفها في أنحاء النص بدلالات تتحول مباشرة إلى مشاهد درامية، وتناقش الواقع مناقشة سردية واقعية في فضاء يجعلك تشمئز مما وصل عليه المواطن الفلسطيني من مآسي بسبب بعض الاشخاص الذين يتاجرون بمصير الانسان كقولها :
( شو يعني الأرض مش أرضنا ؟ حتى العبيد لهم حقوق أفضل منا . منذ ثلاثين سنة ونحن نعمر هذا البلد ، ماكنات المعامل أكلت أصابعنا ، ها البيت كان خِربة لولا تعبي وتعب زوجي ، ما صار مكان يصلح للسكن ، أمي انقصم ظهرها وهي محنية فوق شتول البندورة والخيار …)
وختاماً أقول :
السرد الروائي لدى الساردة د. نجمة خليل اعتمد ايضا على بناء العلاقات التعبيرية لدى شخوصها وهي في نمط متجدد وكان من نتائجه ولادة الأحداث والأنماط فابتكرت شخوصها بفاعلية ودقة وأدارت حواراتها ، ومن خلال الزمان والمكان استطاعت أن تحدد مسيرة النص ورمزيته القريبة، ومن هنا فإن دلالات التصوير داخل البناء السردي، هي التي أنتجت الوقائع والمتغيرات في مخيلة الكاتبة وتجربتها والتي تستعرضها في دلالات التعبير والوقائع.
وفي الوقت الذي أحيي الأديبة د. نجمة خليل بروايتها هذه وأشكرها على هديتها الثميتة أقول :
لقد كانت الرسائل التي كتبتها رندة ص107- 134 زائدة ، كونها لم تنسجم مع مجريات الرواية ومفهومها وكذلك استخدامها عبارة :
( … أبو عمار تحدى رجال الدين قال لهم :
- هؤلاء صاروا مسلمين يالشهادة ..)
هي ارضاء لهم (المتطرفون منهم ) وليس تحدي ، وانتقاصا للشعب المسيحي الفلسطيني حيث اعتبرهم أبو عمار ( المقصود ياسر عرفات ) ناقصين دين ، وهذا النقص لا يكتمل إلا باستشهادهم من أجل الدين الاسلامي ( يصيروا إسلام) ، وهذا يمكن تأويله بأن المعركة ليست من أجل قضية شعب ووطن بل كانت دفاعاً عن الدين الاسلامي وهذا ما لا يقبله ذالك الفلسطيني الذي يطالب بحق الوجود … كان بإمكان الزميلة نجمة خليل أن تعالج ذلك التطرف مثلما عالجت اندفاع بعض المتحدثين …
شاعر ،ناقد، و مترجم