رُؤيةٌ مختلفةٌ إلى إِرْهاصاتِ النَّهضَةِ فِي الشِّعرِ العربيِّ في القَرْنِ التَّاسِع عَشَر (الحلقة الرَّابِعَة)
العوامل العامَّة للتوجُّه الشِّعري العربي في القرن التَّاسِع
عشر
الدكتور وجيه فانوس
دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
أ –العامل الدِّيني
طغى الشِّعر الدِّيني على ما عداه من أنواع الشِّعر الأخرى خلال هذه المرحلة، وخاصة في النصف الثاني من القرن التَّاسِع عشر؛ ولقد ازدهر هذا الوضع في صورة واضحة في المناطق التي لم يكن لدى ناسها موضوعات أخرى تهمهم، كسواهم ممن عاشوا في المناطق التي كانت في المدن التي نشط فيها المُرْسَلون المسيحيُّون، إذ انشغل هؤلاء الناس بقضايا جديدة معاصرة لم يتعرَّف إليها الآخرون عن كثب.
يمكن القول إن من أسباب انتشار الشِّعر الديني تشجيع الأتراك العثمانيين لرجال الصوفيَّة، وتشجيع أدبهم وشعرهم نظرا إلى ما كانت الدولة العثمانية تواجهه من تهديدات بسقوطها سياسيا من قبل بعض الدول الأوروبية وتضعضعها داخليا بسبب الدعوات الداخلية إلى الإصلاح العام فيها. فكان الحثُّ على التمسُّك بالعامل الديني، والشِّعر الديني من مظاهر هذا التمسُّك، ضمن خطط الدولة في تعبئة رعاياها ضدَّ كل ما هو أجنبي، وتصوير الهجوم الأجنبي عليها وكأنه هجوم على المسلمين إن لم يكن على الإسلام بحد ذاته. وحضَّ الأتراك أنفسهم ورعاياهم على العمل ضمن إطار ديني إسلامي، باعتبار الإسلام جامع مشترك لغالبية شعوب الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، بغض النَّظر عن قومياتهم ولغاتهم القوميَّة . كما يمكن القول أنَّه ربما كان للفقر المُدقع الذي عانى منه كثير من شعراء تلك الحقبة، فضلاً عن بساطة العيش والإحساس بالعجز عن إمكانية تقديم إضافات معرفيَّة في مجالات العلم المعاصر، وانحصار مجالات الثقافة عند غالبية الشعراء بالثقافة الدينية أكانت ثقافة متعمِّقة كما كان تقمها المدارس الدينية العليا مثل الجامع الأزهر وجامع الزَّيتونة والنجف الأشرف وسواهم، أو كانت ثقافة بسيطة كتلك التي كانت تقمها الكتاتيب والمدارس المحليَّة في المدن والقرى دورها في أن وَجَدَ معظم الشعراء أنفسهم أمام: شيخ ومسجد وزاوية صوفية وعِلْمٍ شرعي.
لم يأتِ الشِّعر الديني في القرن التَّاسِع عشر منفصلاً عن التطوُّر العام للقصيدة الدينية العَرَبِيَّة. فلئن يمكن القول إن المرحلة الأولى تمثَّلت بمرحلتي صدر الإسلام والعصر الأموي، واتَّسم شعرها بالتعبير عن تعاليم الإسلام والدفاع عن المسلمين وقادتهم، فإنَّ المرحلة التي تلت، منذ بداية العصر العباسي وحتى منتصف القرن الهجري الثالث، تمثَّلت بشعر الزهد والتعبُّد والتَّأمُّل والدعوة إلى مكارم الأخلاق؛ لتأتي المرحلة الثالثة منذ ما بعد منتصف القرن الهجري الثالث، متمثلة بالشِّعر الصوفي وما فيه من أفكار حتى أصبح الشِّعر وسيلة يشق بها المذهب الصوفي أو الفكري العام طريقه بين الناس؛ ثمَّ جاءت مرحلة القرن التَّاسِع عشر التي كثر فيها التوسل إلى الله بالنبي محمَّد ومدح الرسول وآله وصحبه والأولياء والصالحين.
وإذا ما كان الجانب الصُّوفي شكَّل طابعاً عامَّاً وَسَمَ الحياة الدينية في كثير من أرجاء البلاد العَرَبِيَّة إبَّان عقود القرن التَّاسِع عشر؛ فلقد كان لبعض الحركات الصُّوفيَّة أن تساهم في تخفيف حِدَّة التَّصارع بين أتباع بعض المذاهب مثل الشَّافعيَّة والحنفيَّة، كما كان لهذه الحركات الصُّوفيَّة أن تُقَلِّل، عند كثير من الفقهاء الذين كانوا في غالبيتهم يعانون الشِّعر أو النَّظم، من حِدَّة ما قد ينشأ من تعارض بين ما قد يقوم به الشَّاعر، إذا ما كان فقيها – بحكم ما قد تفرضه قواعد الفقه من قيود، وبين ما قد تقوده إليه ممارساته الشِّعريَّة –بحكم ما في الشطحات الصوفيَّة من فسح وجدانية وانفعاليَّة. ولعل السلطات العثمانيَّة شجَّعت بدورها هذا الأمر في محاولات منها لإنهاء الصِّراع بين الفقهاء وناس الحركات الصّوُفيَّة الذي كان على أشده في العصرين العبَّاسي والمملوكي، والذي أنتج كثيراً من الخصومات والصِّراعات كالتي كانت بين أمثال ابن رشد وابن خلدون وابن الجوزي وابن تيمية من جهة، والغزالي والقشيري وابن عربي وابن الفارض من جهة أُخرى.
استمرَّت ظاهرة الدَّراويش في العالم العربي وبرزت في القرن التَّاسِع عشر، وما تبعها من إقامة لحلقات الذِّكر والموالد وما يرافق هذه الأمور من نصوص شعريَّة ومنظومات شعريَّة ذات طابع ديني. ومن جهة أخرى فقد كان من بين الشعراء والمفكرين، أمثال محمَّد رشيد رضا والشَّيخ حسين الجسر، من واجه ما في هذه الظاهرة من شعوذات وسعوا إلى التَّخفيف من حِدَّتها.
ب – العاملان الفكري والسِّياسي
شهد القرن التَّاسِع عشر، وعبر عقوده المتتاليَّة، بروز عدد من الاتِّجاهات الفكريَّة والهُويَّات القوميَّة ضمن الولايات العثمانيَّة ؛ وكان لهذه الاتِّجاهات أن ساهمت، بشكل أو بآخر، في تشكُّل موضوعات لبعض الشعراء ساهموا بها في تكوين ما يمكن اعتباره من إرهاصات النَّهضة الشِّعريَّة العَرَبِيَّة في ذلك الزَّمن.
طُرِحَت في هذه المرحلة،على المستوى العقائدي السياسي، فكرتان أثَّرتا في الواقع الثقافي العام، إحداهما فكرة الجامعة الإسلاميَّة ، وثانيهما فكرة الخلافة التي تمثَّلت، بدورها، عبر توجُّهين واحد تعبِّر عنه أفكار عبد الرَّحمن الكواكبي الذي دعا
إلى خلافة عربيَّة قرشيَّة ، وثانٍ تمثَّل بالخلافة العثمانيَّة وكان يقول بها مصطفى كامل . ومن جهة أخرى، فقد فرضت الحكومة التُّركيَّة سنة 1864 اللُّغَة التركية لغة رسميَّة على نطاق واسع
في الولايات العَرَبِيَّة، وخاصَّة في بلاد الشَّام، وهذا ما انتقده معارضون كان في مقدمتهم جمال الدين
الأفغاني. ولعلَّ في هذا الفرض لسيطرة اللُّغَة التركية، وتعزيز سيطرة الفكر الطوراني على الولايات العَرَبِيَّة، ما شكَّل
أحد عناصر بداية تبلوُّر فكرة العروبة، وخاصَّة على أيدي المسيحيين العرب؛ وبشكل أخص مسيحيي بلاد الشَّام .
ت- العامل الديموغرافي:
ظهر ثمَّة تأثُّر بالبيئة الديموغرافيَّة العامَّة، في بعض مدن بلاد الشَّام التي تحوي مجموعات من المسيحيين واليهود، فلم يجد بعض الشعراء المسلمين حرجاً من الاستشهاد في بعض أشعارهم بآيات من الإنجيل والتوراة، وكان الحال عينه عند بعض الشعراء المسيحيين الذين أقاموا في تلك البلاد فكانت لهم قصائد تقترب من موضوعات التصوف الإسلامي.
وإلى اللقاء مع الحلقة الخامسة:( نماذج من الإرهاصات)