إضاءات و تجوال الشاعرة حكمت حسن في عوالم “لن تجن وحيدا هذا اليوم” رواية د. أم الزين بنشيخة المسكيني

لن تجن وحيدا هذا اليوم
ام الزين بنشيخة
رواية
منشورات ضفاف
هنا الرصيف…انضموا …وهناك شارع الحبيب بو رقيبة
المتفرج وحيد واحد
الشاهد شعب تونس بأكمله!
أية مشهدية من البؤس والقهر، الخيبة واليأس! اوانعدام الأمل الذي ما ينفك يتبع نهر البأس والتقهقر، حتى ” الصبار” الأمل الأخير المتبقي من منظومة تخلف ودهس للأحلام وكم الأفواه ، وجنون “ركح المسوخ الضاحكة” ، ينتهي بأن يتبع الرهط الغارق في مسيره نحو الأسفل.
وأي أسفل إذ نرى الأنثى ذات النهد الواحد” واسمها نهد” إذ لطالما كانت الأنثى عنوان الاستمرار والولادة -مباحة للختان -كدورة حياة وأمل، كيف يتفجر قلم الكاتبة د. ام الزين بنشيخة حليبا للحياة وقلما لثني هذا الجدار الملحق بوجه الحياة، الصادم والمعيق ، ذلك الجدار الذي بنته الحكومة التونسية بوجه ثورة كانت هي من أحوج ما يكون لها لتنجو من حكم المستقبل، نعم وليس الحاضر او الماضي. المستقبل لأننا نسير صوبه وستكون محاكمته لنا عسيرة جدا.
قرطاج مدينة ثكلى ، وأليسار ليتها ما حبلت وأنجبت ، ليتها لم تلتق ب حنبعل، لكانت وفرت على الحياة أرطالا من قواميس الامراض غير المنتهية المفاعيل،(قرطاج ترمقهم من بعيد كأم ثكلى ..يؤكل أطفالها بين عينيها..يؤكلون على وقع فارسي كما يؤكل الثور الأصفر..ولا تستطيع قرطاج حتى احتضانهم ، أو درء الأذى عنهم . ص ١٤)
تحاول د. أم الزين بنشيخة ، الروائية الثائرة درءالجنون عنا بقلمها ، لكن كلنا مجانين إذ نثور، وإذ نخضع ، إذ نختلف وإذ نتشابه.
الروائية أم الزين بنشيخة في ملحمتها ” لن تجن وحيدا هذا اليوم” أبدعت وأغرقتنا في جنون الكتابة حين نتناول كقراء ما يستحق القراءة.فهي تبدأ بحديثها مع ” نهد” التي تستعيد نهدها الآخر في نهاية الرواية ، لكن من دون جدوى.(تقطّع رحم الأرض، طفل ينمو في احشائها…وآخر يهيء بويضته بعناية …وسائل آخر يسرع نحو بيضة أخرى .ص:١٢).
“نهد”نجدها تنزل الدرج خارج غرفتها، وبهذا رمزية الخروج عن المألوف -الجنون- حيث تنزل الدرج صوب أسفل ، ذلك الدرج الذي يؤدي في مقلب آخر درب صعود كان متاحا لثورة ، سُلبت ووجهت صوب أسفل، اقتطِع منها نهد وتُرك الآخر ، إلى أن ينشف منه الحليب..(في مدينتها لا شيء ينبت غير الجوع إلى تعاويذ ودساتير الظلام والبؤس المقوى بآخرة لا تأتي .ص١٥).وقررت” نهد” أن تؤجل أحلامها الخاطئة( ..تضامنا مع مدينة اخترعتها بأناملها من جلد ثور مقدس ..يوم كان الثور قادرا على الانتماء إلى ثورته ..ص١٥ )وحينها فاض الدم (هنا انتثر اللحم الآدمي إلى قطع .ص١٦) سمعت ” نهد” تحذيرات من كل شخوص رافقتها.(لا تبذري جمرك على رماد الآخرين …هتف هاتف غريب في صراخ مكتوم لأبدية عابر ة إلى نهار آخر..ص١٩)
شعرت انها انقاض من وطن اصابته الشيخوخة المبكرة (..أقل من امرأة وأكثر من لغة..ص٢٣) من هذه اللغة الفائضة ترهقنا أم الزين بمحرقة من جمل وعبارات، أنت لا تستطيع التنفس كقارىء وكمشارك في الثورات العربية ، رغم تحديدها لثورة تونس (
في يوم قاني اللون لا مكان فيه غير النباح، تصاعد الدخان يلف بسمات العابرين، …وبعد برهةمن الزمن داهمت قنابل الغاز الشارع الكبير.. فترى الرمادي يرقص منتعشا منتشيا لمصالحته بين الذين يسكنون السماء والذين يسقطون أرضا كالتمر المجروح ..ص ٢٦،) .لم أستطع حين قراءة هذا المقطع سوى رؤية ٤ آب ٢٠٢٠ مرفأ بيروت -لبنان ، حين فجرت السلطة الحاكمة فينا اهمالها وتقاعسها ورغبتها في رؤيتنا أشلاء، كالتي أخبرتنا عنها أم الزين في روايتك المرهقة حد الوجع.
(نهد) منذ اليسار -قرطاج .أمومة تصل حبائل السرة ببعضها البعض. تحتفظ بتابوت فيه ” غريب”الذي لم يستطع ان ينجيها من قدرها،(وقرر أخيرا أن يشتري تفاحة حمراء.. علها تعيدهاإلى جنتها الماضية التي طردت منها لأنها كثيرة الاحتجاج عل سياسة الحكومة..ص٣٤).
في الرواية(مدى بصري يتأرجح بين السجن والجنون والغثيان ..هل دعوتهم إلى الجحيم ؟ ص٣٨) تخبرنا ” نهد” عن نهر من الثوار والمحكومين بالأمل ومصيرهم الذي قادته لهم الحكومة.(لا أحد منهم كان قادرا على حمل جثمانه الى المقبرة العمومية..فمن سيقدر على دفن هذا القدر من الجثث؟ ص٤٢)
(أجابها أكثرهم نزيفا: بلى يا سيدتي ما جئنا لاعجاب المتفرجين ..بل جئنا لجرح مشاعرهم كما جرحنا في أعضائنا ..لن نستعمل المخدر لأنا ما جرحنا تحت التخدير …جراحنا هي نصنا الوحيد .ص٦٢)في هذا النهر الجارف تخبر نا عن الجرحى ،مبتوري الأعضاء والجثث ،(من المسوخ الضاحكة ،الضحايا الأحياء من أخذت الحكومة عينه، او قدميه ، او يدها فقالت: قبض علينا من مجرمي حرب من طرف بوليس لا يحب ولا يقرأ، ووقعت تهمتنا بتعاطي كتب ممنوعة..وقبلة سافرة مطولة فاجأها آذان الفجر في ساحة عمومية ص٨٠) وتثور الروائية (ألا تحتاج الشعوب لأن تبصق مرة واحدة على ماضيها؟ ليس هناك أي اغتسال يمكن أن يطهر الطغاة من قدرتنا على التبول عليهم.. ألم يقل نيغري ذات مرة أيضا أن الحداثة هي نوع متغوط؟ ص١١١) هي لا تبرر ل ” نهد” جنونها بل تأخذها بيدها إليه(كان عليها أن تستنجد بجنون أصلي كي تضمن دوام نسختها الخاصة من جنون عمومي..ص١١٣) .كيف لا تفعل؟!،(والاحتراق متواصل …وختان لكل الأعضاء دون حفل ولا رقص على المزمار.. ختان للعقول …وختان للالسنة …وختان للثورة والثوار ..ابتسم يا هذا ..أنت في قلب تونس الثورية ..ص١١٩)و ” نهد” تصعد وتهبط من دون ان تتحرك ، لكن تماوج الأحداث وارتفاع الآمال وانكسارها تجعلنا نراها متأرجحة،(ها انذا وحدي تماما …سوف أعاود هبوط درجات السلم دون الاستعانة بأحد.. إلى أين أيتها الحشود المحترقة؟ إلى العدم..فحينما تسقط هذه الحكومة ستنتصب أخرى أكثر طغيانا ..سيبقى الفقراء في فقرهم ..وستزيد ثروات الأثرياء …وكلما ثار الشعب ولد جلاد جديد..ص١٤٨) وتتساءل في الريف التونسي، حيث تذهب ” نهد” كصحافية لتكتب تقريرا ،(لماذا يلفون نساءهم بالقماش الأسود؟ يتألمون من جهة الأسفل جدا فيلفون كل الإناث بالقماش الأسود.طفلات في عمر الزهور..بالكاد تتقن الواحدة منهن المشي في الطريق لوحدها..لا زالت لم تشبع من حضن امها..وما زالت تحتاج إلى أمها في الحمام بعد قضاء ادنى حاجاتها ..وما كادت تستغني عن الحفاظات حتى ألبسوها الحجاب بتهمة أنها عورة ..ليحموها من الرجال..من من الرجال ينظر إلى ذات السادسة بعين الفتنة والشهوة ؟ وهي لم تزل نبتة بريئة لم تنبت اي عضو مثير لشهوة الرجال..وهل نسمي رجلا من ينظر إلى جسد طفلة بشهوة؟ يا عار هذه البلاد غارقة في النصف الأسفل من الجسد ، يعرون إناثهم ليلا ويلفونهن نهارا.ص١٥٨-١٥٩)وتعترف بأن الغرق في الماضي عقيم ،(جربو ا عليها كل المفاتيح الوقت..من مفتاح يعقوب الدلفوني إلى مفاتيح الاندلس واضطر المجلس الى تنشيط مفاتيح العصرالعباسي ..ص١٦٥)ألا نوافق نحن في ثورة١٧ تشرين في لبنان على ما قالته أم الزين في روايتها ، عن مصادرة الابطال والشهداء والضحايا ؟ (صار كل القتلى في الشوارع العربية فرجة لأي كان..كانت أرواحهم بلا حرمة وجثامينهم بلا حرمةص١٧٦)كما و تقول عن الفقراء الجائعين في الدول العربية: (وأعجب لمن يبيت على الطوى ولا يشهر سيفه في وجه حاكمه كل صباح .. ماسح السيارات..ص١٨٧) وتنادي من على الدرج نفسه:
(أيها التونسي أنت اليوم ما تأكل .. أنا آكل لحما فأنا موجود كثيرا . وانت تأكل بكا وخسا فأنت موجود قليلا ..إن هويتك من نوع لحمك الذي تبتلعه يوميا في احشائك..فمن يشكك بإسلامك غير الذين جعلوا من إسلامك مشكلة؟ ص١٩٠) وتحيلنا أم الزين في روايتها هذه إلى مساءلة معترفة موجعة:
(سألت : ما حال خمارة البلد؟ أجاب : تعج بالسكارى.
سألته وما حال مساجد البلد؟ أجاب: تعج بالسكارى
ردت عليه: ذلك هو الخشوع
رد عليها: تلك هي الديمقراطية.ص١٩٧
سألها ثانية: ما معنى الهوية؟
أجابت: أنت ما تأكل.ص١٩٩
سألها: أين الثورة؟ أحابته: يلعبون بها في سوق باردو.
سالها: أين الثور؟ أجابت: في اجتماع رئاسي.ص٢٠٣
أجابها مشيرا إلى سبابته اليسرى: الم تسمعي ماذا فعلت بنا السبابة اليسرى؟ ص٢٤٣ )
فأنت يقول لها :” غريب”:(اذا أتقنت موتتك هذه فسوف تتقنين هبوط الدرجة الأخيرة من السلم بسلام لا يتقنه غير الأموات ص٢٤٥
ردت في ذهول: إذا نحن نسير نحو مصحة عقلية من نوع استثنائي جدا..ولكن هل جميعهم مسلمون؟
أجابها: هي أعظم مصحة عقلية في العالم..وهي حكر على العربان من ملة السلام..ص٢٦٣) وتقرأ في أخبار العالم :
(الخبر الأول: طبيب ياباني يكتشف منذ يوم خلايا جذعية للقضاء على عمى العيون..والعالم العربي يكتشف كل يوم خلايا إرهابية لزرع العمى في العقول.ص٣٠٢ )
(بالروح..بالدم نفديك يا بلعيد ، فالشهداء لا يحبون الموت على انفراد ص٢٨٩)
مرفأ بيروت- لبنان ٤آب٢٠٢٠
رواية ” لن تجن وحيدا هذا اليوم” رواية عظيمة لروائية تونسية رائعة.
الشاعرة حكمت حسن -البنية ٦أيلول ٢٠٢٠