رُؤيةٌ مختلفةٌ إلى إِرْهاصاتِ النَّهضَةِ فِي الشِّعرِ العربيِّ في القَرْنِ التَّاسِع عَشَر (الحلقة السَّادِسة) نماذج من الإرهاصات في بلاد الرَّافِدَيْن
الدكتور وجيه فانوس
دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
عاشَت “بلادُ الرَّافِدَيْنِ” حقبةَ رُكودٍ وخمولٍ ثقافيَّينِ في القرن التَّاسِع عشر؛ ولعلَّ هذا الأمرَ كانَ نابعاً من عوامل وأسباب متعدِّدة ومتنوعة. فقد يكون البُعدُ الجُغرافيُّ، لهذه البقعة العَرَبِيَّة عن عاصمة الدَّولة، “الآستانة” عهدَذاك، أحدها؛ كما قد يكون كونها جزءاً من الدَّاخل العربيِّ، البعيد نِسْبِيَّاً عن حركيَّة الاحتكاك بـ”الوافِدِ الثَّقافيِّ الجديد” من بلادِ “الغرب” أو سواها؛ والمُنْغَلِقُ، في الوقتِ عينهِ، على تجربة عَيْشِهِ الدَّاخليَّةِ، أكثر من انفتاحه على سواها؛ سبباً أو عاملاً آخر. ولذا، ووفِاقاً لرأي كثيرٍ من الدَّارسين وأهل البحث، فإنَّ أيَّة محاولة للنُّهوض من هذين، الخمولِ والرُّكود، يمكن أنْ تشكِّل، أو تُعتبر اليوم، إرهاصاً للنَّهضة.
إنَّ بعضَ استعراضٍ للنِّتاج الشِّعريِّ لبلادِ الرَّافدَيْنِ في عقود القرن التَّاسِع عشر، يُثبتُ أنَّ الشُّعراءَ العراقيين كانوا توَّاقين إلى مثل هذا النُّهوض؛ وأنَّ جذوة الحياة، قابلة للتَّأجُّجِ عبر محاولاتهم. ولذا، فمِن هؤلاء الشُّعراء مَن عاش إرهاصاتِ النَّهضة الشِّعريَّة العَرَبِيَّة، في بلاد الرَّافِدَيْنِ، مرحلةَ تأرجُحٍ بين خمولٍ وَوَهَنٍ، مِن جهةٍ، ومنهم مَن عمل على نفضِ غُبار الخمول والضَّعف، في الحياة الثَّقافيَّة والأدبيَّة، القاتلِ لحيويَّة النَّصِّ الشِّعريِّ. وكانَ نفضُ هذا الغُبار يَتُمُّ عَبْرَ محاولاتٍ لإحياءِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ السَّليمة الصَّحيحة، أو مِن خلال النَّظمِ الكلامِيِّ في موضوعاتٍ هي مِن صُلبِ المشاهداتِ المعيشة، أو بِنَظْمٍ شِعْرِيٍّ يتناول ما أمكن مِن الهموم الحياتيَّةِ للنَّاس.
لعلَّ في تجربة عبد الغفَّار الأخرس (1804-1873) ما يمكن أن يكون مرآة لترجُّحِ الشَّاعر العراقيِّ، في القرن التَّاسِع عشر، بينَ البساطةِ الرَّكيكةِ القاتِلةِ لحقيقة الشِّعر، وسَعْيِهِ إلى إنشاء نَظْمٍ يستدعي إلى الذَّاكرة نماذج مِن التُّراث الشِّعري العربيِّ في عصوره الذَّهبيَّة. فللأخرسِ منظومات تضجُّ بركاكةٍ لا يمكن أن تكون بدايةً لنهضةٍ أو حتَّى مجرَّدَ إرهاصاتٍ لها؛ كما لهُ منظوماتٌ تَنُمُّ عن جزالةٍ وحُسْنِ فصاحةٍ. ولعلَّ الأخرسَ كان يُعاينُ، في هذا، تأزُّمَ الحالِ الشِّعريَّةِ في العراق؛ بينَ بقائها تحت خيمة الرُّكود وسَعيها إلى التَّأقلُمِ مع بعضِ التَّجديد المُعاصر في زمنها.
مِن منظومات عبد الغفَّار الأخرس، في مطلع حياته، وكان يعاني من حَبْسَةٍ في لسانه لُقِّبَ بسببها بـ”الأخرس”، يَنْشُدُ العَوْنَ على معالجةِ حَبْسَتِهِ هذه من “داود باشا”، والي العراق، عهد ذاك
إنَّ أياديكَ مـنـكَ سـابـقةٌ/ عليَّ قُدماً في سالفِ الحُقُبِ
هذا لساني يَعـوقُـُه ثِـقَـلٌ/ وذاكَ عِنْدي مِن أَعْظَمِ النُّوَبِ
فَلَوْ تَسَبَّبتَ في مُعالـجَـتـي/لَنِلْتَ أَجْراً بِذلكَ الـسَّـبَـبِ
وَلَيْسَ لي حِرْفَةٌ سِـوى أَدَبٍ/جَمٍ ونَظْمِ القَريضِ والخُطَبِ
من بعد داودَ لا حُرِمْتُ مُنـىً/فقلتُ قدْ مَضَت دَوْلةُ الأدبِ
ويسعى الأخرسُ إلى تجديدٍ في موضوعاتِ الشِّعرِ مِن خلالِ وَصْفِهِ لرحلةٍ قامَ بها على سَفينةٍ بُخاريَةٍ؛ فيأتي نظمه للمعاصرةِ الحدثيَّةِ هذهِ، مُفعماً بنثريَّةٍ خطابيَّةٍ فجَّةٍ، تكادُ تَضَعُ النَّصَّ المنظومَ في خانةِ السَّجْعِ، أكثرَ مِن وضعِها لهُ في خانَةِ الشِّعر:
قد ركبنا بمركـب الـدُّخـانِ/وبَلَغنا بهِ أقاصي الأمانـي
حيثُ دارت أفلاكهُ واستدارت/فَهِيَ مثلُ الأفلاكِ بالدَّوَرانِ
ثمَّ سِرْنا والطيرُ يحسدنا بـالأ/مَسِ لِإسراعِنا على الطَّيرانِ
يخفقُ البحرُ رَهْبَةً حينَ يَجري/والَّذي فيهِ كائنٌ في أَمـانِ
كلَّما أبعدَ البُخارُ بِـمَـْسـرىً/قَرَّبَ السَّيرَ بُعْدَ كلِّ مَكـانِ
بيد أنَّ للأخرس منظوماتٌ أُخرى، يمكن اعتبارها فِعْلاً إحيائيَّا لنماذج مِنَ الشِّعرِ التُّراثيِّ العربيِّ الجيِّد؛ وِمن هذه المنظوماتِ ما جاء في قوله:
وميضُ البرقِ هيَّجَ منكَ وجدا/فَكِدْتَ تَظنُّهُ مِنْ ثَغْرِ سَعدى
ألمّ بنا بِجَنْحِ اللَّيلِ وَهْنا/كَما جَرّدتَ مِنْ سَيْفٍ فِرنْدا
تَوَقَّدَ في حشا الظَّلماءِ حتَّى/وَجَدْنا مِنْهُ في الأَحْشاءِ وَقْدا
وَجَدَّ بِنا الهوى مِن بَعْدِ هَزْلٍ/وَكَمْ هَزلَ الهوى يَوْمَاً فَجَدّا
إلى أنْ يقول:
جَفَتْني الغانِياتُ فَلا سَبيل/إِلى سُلْمى ولا إِسعاف سَعدى
وخاصَمْتُ الزَّمانَ فَخاصَمَتْني/حوادثُ لَمْ تَزَلْ خَصْمَاً أَلَدّا
فإنْ أظهرتُ لِلأيَّامِ مِنِّي/رُضًى عَنْها فَقَد أَضْمَرُتُ حُقْدا
سَأَتْرُكُ لِلنِّياقِ بِكُلِّ أَرْضٍ /ذَمِيلاً مِنْ تَوقّصِها وَوَخدا
كَما لِابنِ الجَميلِ أَبي جَمِيل/نِياقُ مَطالِبِ الرَّاجِينَ تحدَّى
فَتَبْلُغَ مَقْصَداً وَتنالَ عِزَّ/كَريمٍ لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُ قَصْداً
فَكَمْ يُولِّي الجَميلَ أبُو جَمِيلٍ/بِجَدْوى أَنْبَتَت شِيحاً وَرَنْدا
إِذا يَمَّمْتَهُ يَمَّمْتَ يُمْناً/وإنْ طالَعْتَهُ طالَعْتَ سَعْدا
فمتلقِّي الشِّعر في هذا النَّصِّ، أَو مُسْتَقْيِلُهُ، يجدُ نفسه أمام لغةٍ جزلةٍ وتراكيبَ نَظْمِيَّةٍ، قد تعودُ بهِ إلى نماذجَ زاهية من شِعرِ ما قبل الدَّعوةِ الإسلامِيَّةِ أو مَرحلةِ العصرِ الأُمويّ.
وإذا ما كان شِعرُ عبد الغفَّار الأخرس، يمثِّلُ للتَّأرْجُحِ الذي يُصيبُ بدايةَ السَّعيِّ إلى إرهاصاتٍ ما للنَّهْضَةِ الشِّعريَّةِ في بلاد الرَّافِدَيْنِ في القرن التَّاسِع عشر، واعتبار الَّنهضةِ في جزالة اللَّفظ وتصوير بعض المخترعات المعاصرة، فإنَّ في التَّجربةِ الشِّعريَّةِ لشاعرٍ عراقيٍّ آخر، هو حيدر الحلِّي (1831-1886)، ما قد يُشير إلى وعيٍّ لجماليَّةٍ التَّصوير الشِّعريِّ وبراعةٍ في نَقْلِ مُتلقِّي الصُّورةِ الشِّعرية، أو مُسْتَقْبِلُها، إلى دنيا ضاجَّةٍ بالمشاعرِ والأحاسيسِ والتَّفاعلِ الإنسانيِّ مع النَّص. وها هو الحلي ينظم في رثاء الإمام الحسين صوراً ضاجَّة بحركة الحياة والقدرة على تأجيج مشاعر المتلقي، أو المُسْتَقْبِلِ، وتأكيدِ تفاعُلِهِ مع النَّصِ:
عَجَبـاً لِلعُيـونِ لمْ تَغْدُ بِيضاً/لِمُصـابٍ تَحْمَـرُّ فِيهِ الدُّمُوعُ
وأَسىً شَـابَتِ اللَّيالِي عَلَيْـهِ/وَهُوَ لِلْحَشْرِ فِي النُّفُوسِ رَضِيعُ
مَوْقِـفٌ لا البَصِيرُ فِيهِ بَصِـيرٌ/لِانْدِهاشٍ وَلا السَّمِيعُ فِيهِ سَمِيعُ
فَلِشَّمسِ النَّهـارِ فِيـهِ مَغِيـبٌ/ولِشْـمسِ السُّيُوفِ فِيهِ طُلُوعُ
وكذلك في قوله، مصوِّراً، مَصْرَعَ الإمام الحُسين:
كَـأَنَّ المَنِيـَّةَ كـانَت لَـدَيْـ/ـهِ فتـاةً تُـواصِلُ خُلْـصانَهـا
جَـَلَتْها لَـهُ البِيضُ فِي مَعْـرَكٍ/بِهِ أَثْـكَلَ السُّـمْرَ خُـرْصَـانُها
فَبـاتَ بِـها تَحْتَ لَيْـلِ الكَفا/حِ طَـرُوبَ النَّقِيـبَـةِ جَـذْلانَها
وأَصْبَـحَ مُشْتَجِـرَاً لِلـرِّمَـا/حِ تُـحلّـِي الـدِّمـا مِنْـهُ مرانَها
عَفِـيراً مَتَى عايَنَتْـهُ الكُـمـا/ةُ يَخْتـطِفُ الـرُّعبُ أَلْـوانَـهـا
ويبدو أنَّ استخدامَ الصُّورةِ الشِّعريةِ، بهذه الفنيَّةِ الجماليَّةِ المتميِّزةِ بحركيَّتِها، لم يكن قَصْراً على موضوعاتِ الرِّثاءِ الحُسَيْنيِّ عند الشَّاعر الحِلِّيِّ؛ بل إنَّ الحِلِيِّ كان بارعاً في استخدامِ الصُّورةِ الشِّعرية النَّابضةِ بالحياةِ في كثيرٍ مِن أعماله وموضوعات شِعره. فَلَهُ، على سبيل المِثال وليس الحصر، موشَّحٌ غَزَلِيٌّ غَنِيٌّ بحركة الصُّورة، ومنه:
كلّـَمـا ورَّدَ خَدَّيْها الـخَجَلْ
قَطَـَفت ذيَّالـك الوَرْدَ المُقـلْ
لا تَسَلْ عَنهـا وعنِّي لا تَسَلْ
وَقَفَتْ فاسْتَـوْقَفَتْنِي مُسْقَمـــا وَأَفـاضَتْ فَأَفَـاضَتْ أَدْمُعِي
عَجَبَـاً رَاقَبْتُ فِيهـا الحرَمـا وَاسْتَحلَّتْ صَيْدَ قَلْبي المُوجَعِ
ومن نماذجه الأخرى:
تَبسَّم كالبَرْقِ لَمَّا اِئْتَلَقْ/رَشَاً خَاتَلَ القَلْبَ حَتَّى اعْتَلَقْ
وَلاحَ لَنا مُرْسِلاً شَعْرَهُ/فَكانَ الضِّيَاءُ وَكانَ الغسَقْ
كَأنَّ سَنا نُورِهِ صارِمٌ/أُصِيبَ الصَّبَاحُ بِه ِ فَأنْفَلَقْ
فَما حَاكَى مِن شعره مطرفاً/مِنَ اللَّيْل ِ إِلاّ وَفِيهِ اِنْخَرَقْ
بَدا وَالثُّرَيَّا بِأُفْقِ السَّمَا/كَعُنْقودِ فَاكِهَةٍ فِي طَبَقْ
وإذا ما كان الحلِّيُ يشكِّل تجربةً لافتةً للانتباهِ، في مجالات التصوير الشِّعري والرقي بالقصيدة من مستوى نظم الكلمات ورصفها إلى مستوى الفاعليَّة الخلاَّقة للمشاعر في النَّص؛ فإن محمَّد سعيد الحبوبي (1849-1915) يمثِّل إذكاءً مضاعفا لهذه الجهود.
فللحبوبي إسهاماته الواضحة في حركة الشِّعر العربي العراقي في القرن التَّاسِع عشر، وكانت ذروة عطائه عندما بلغ الثلاثينيات من عمره. وتُعَدّ موشحاته من أروع ما كتب في هذا اللون الشِّعري؛ إذ غنَّاها الناس وطربوا لها، وجرت على الألسن مجرى القول. ومن شعره في بعض موشحاته المشهورة:
نَسَجَ الحُسْنُ لها بُرْدَ الدَّلالِ
فَبَدَتْ تَخْتالُ فِي عِزّ الجَمالْ
غارَ مِنْها الغُصْنُ إِذْ مالَتْ فَمالْ
وَقُلوبُ النَّاسِ أَمْسَتْ حُوَّما
فَوْقَ خَدَّيْها وَفِيها الأَشْنَبِ
مالَتِ النَّفْسُ إِلَيْها فَلَسْتْ
مَنْ بِهِ لِلنَّوْمِ عَيْناي قَلَّتْ
وَكُؤوسُ المَوْتِ فِيها قَدْ حَلَّتْ
وَعَلَيْهِ لَمْ أَزَلْ أَبْكي دَما
وَهُوَ لاهٍ لَمْ يَزَلْ بِاللَّعَبِ
فَأَسْعِدِينِي يَا ابْنَةَ الدَّوْحِ فَقَدْ
قَطَعَ الصَّدُ لِأحْشائي وَقَدْ
وَلَهِيبُ الشَّوْقِ في قَلْبي اتَّقَدْ
وَجُفونُ العَيْنِ تَحْكي الدِيَمة
وَهِيَ لَمْ تَطْمَعْ بِطَفْوِ اللَّهَبِ
ومُتلقِّي هذا الموشَّح، أو مُسْتَقْبِلُهُ، ربَّما يَجِد ذاتَه أمامَ نصٍّ قد يذكِّره، بوضوح، بروائعٍ مِنَ العصرِ الأدبيِّ العربيِّ الشِّعريِّ في “بلاد الأندلُس”، وما أزدهرَ في ذلكَ العصر مِن فنونِ الموشَّحِ النَّابضةِ بحركيَّةِ الحياةِ وجماليَّةِ التَّصويرِ وعذوبةِ الإيقاعَينِ الدَّاخليِّ منها والخارجيِّ.
ومن النُّصوص الشِّعريَّة الأخرى التي تشهد لإرهاصات النَّهضة الجماليَّة في الشِّعر العربي في بلاد الرافدين في القرن التَّاسِع عشر قول الحبُّوبي في بعض قصائده:
يا حَمامَ الدّوحِ بِاللَّهِ أَعِدْ
سَجْعَكَ اليَوْمَ لِصَبٍّ وَأَجِدْ
إِنْ تَكُنْ مِثْلِي مَهْجُوراً فَزِدْ
رُبَّما يُطْفِي غَلِيلِي رُبَّما
سَجْعُكَ اليَومَ بِلَحْنٍ مُطْرِبِ
وإلى اللِّقاء مع الحلقة السَّابعة: نماذج من الإرهاصات في “بلاد الشَّام”