أدب وفن

قراءةد. رنة يحي في قصيدة ” لست وحيدا ” للشاعر مردوك الشامي

الدكتورة رنة يحي /شاعرة و ناقدة لبنانية

ضمن فقرة قراءات نقدية الأسبوعية في نادي وتريات قصيدة النثر. أقدم لكم قراءتي في قصيدة (لست وحيدا) للشاعر مردوك الشامي:

يقول الأديب “كلود بريفو”: “أن النّص الأدبي لا ينبت في المطلق، إنّه يدخل في لعبة التوازن بين مختلف القوى الإقتصاديّة والإجتماعيّة والنفسيّة والماورائيّة”.
إنطلاقاً من عنوان القصيدة ( لست وحيداً) تتشكل لدينا صورة الشّاعر المثقّف الملتصق بقضايا الكون وهموم البلاد حتى صار غريباً عن راهنه وحاضره. فالعنوان يشير إلى حميميّة القصيدة ، فهو يحمل في طيّاته ألم الوحدة، والإعتراف به يحوّله إلى صرخة. فالشاعر ليس وحيداً في هذا الكون، والوحدة حالة عرضية لما تقيم في غيره . والكتابة زراعة فرديّة في تربة جماعيّة ، فنرى الأنا ينزع لأن يكون الكلّ. وهنا دلالة إلى الآخر، وكأنه يقول له:(أنت لست وحيداً، هناك من يحتاج للعناية، فعليك التفكير بالآخرين، بالنّاس الضعفاء الوحيدين، فيخاطب الجماعة (أنتم) ليشمل كلّ النّاس منذ مطلع القصيدة باستخدامه أفعال الأمر بصيغة الجمع المخاطب، حتّى يصل إلى مخاطبتهم مباشرة (أيّها النّاس…أيّها النّاس) وكأنهم قد تساووا في هذه المسألة . فالشّاعر هنا بمثابة الحكيم الواعظ الّذي يهمّه نشر الإنسانية والمساواة بين البشر فيدعو إلى الرّحمة والمحبّة معبّراً عن استيائه واستنكاره للعلاقات المشوّهة. بهذه الإشارة الذّكية استطاع أن يطوّع الفكرة ويمزجها بالعبارة واللفظة المناسبة ، دون أن يخرج عن الرؤية الأساسية للقصيدة.
يستهل الشاعر قصيدته بعبارة (حين تزرع شجرة ) ليفتح لنا فضاء أكبر للولوج إلى أسرار هذه الفكرة. فالشّجرة تمثل أنموذجاً للكون وأنموذجاً أعلى في الفكر الإنساني على امتداد تاريخه. فهي لم تفارق أيًّأ من الأديان والأساطير في كثير من الثقافات ، وهي حاضرة في واقع كل إنسان . ولعلّ قصة الخلق الأولى تثبت حضور الشّجرة حضوراً فاعلاً في حياة الإنسان ووعداً له في الحياة الآخرة. والشّجرة رمز المعرفة المطلقة، وبها عرف الإنسان الّلذة والإكتشاف كما كانت أولى معاناته بسببها.
فالكون برمّته جاء على مثال الشّجرة، وهذا ما بينه الفيلسوف “ابن عربي” في كتابه (شجرة الكون) : “فإني نظرت إلى الكون وتكوينه …فرأيت الكون كله شجرة”. فهي الإنسان الكامل، والنموذج الكامل لتصوير الإنسان والحياة معاً، في كل ما ينزع إليه في نفسه ، وفي كل ما يتجلى له من الموجودات من حوله . فهي تبدو بسيطة الشأن في ظهورها للعيان ، لكنها في الجوهر تشكل وجوداً معقّداً كما الوجود الإنساني وما تحفّ به من العوالم من حوله. والشاعر في عبارته جعل الشجرة رمزاً وجودياً ، قائمة في طبيعة الذات الإنسانية وممثلة لكل الحالات الإنسانية بدءاً من الحاجة الجسدية وانتهاء بالتّجلي الروحي الأعظم لوجود الإنسان.
كذلك “إخوان الصفا” يعرّفون النّفس ويفسّرون طبيعتها بأنموذج الشّجرة الخلّاق. فرغم جذورها المطمورة في التّراب ، فإنّها قادرة على إنبات الأزهار الجميلة في أعالي الأغصان. هذا المثال (إزرع شجرة) قد صاغه الشّاعر صياغة عميقة ودقيقة تبوح بالكثير من الفكر التأملي والتصوّر المحبوك للوجود في نظرية كونيّة فائقة الجمال. فيكون بذلك قد اتّخذ من فلسفة التّأمل أساساً منطقياً يرتفع عليه بناء نصّه الشعريّ ، وابتكر من الصّورة ما يفيض عنها بقية المعاني. فغادرت القصيدة هنا المستوى الشّعري إلى فضاء التّأويل بما لها من قدرة إيحائيّة عالية بقصديّة التعبير عن ذات الشّاعر وتأثيره على المتلقي.
وفي الإبداع الأدبي ثمّة علاقة وطيدة بين الفكرة والكلمة ، إذ تقوم الكلمة بتحقيق التماهي لتوضيح الفكرة التي يراد تقديمها. فهما يكوّنان كياناً واحداً. وفي قصيدة (لست وحيداً) يستخدم الشاعر لغة ساحرة خفيفة الظّل على نفس القارئ. فهو لم يكتب القصيدة فقط ، بل القصيدة كتبته. فجاءت تجسيداً لرفض حاد لواقع التراث الأخلاقي، والذي يظهر حين يخاطب السلبيين الّذين يقفون متفرجين (أديروا وجوهكم إلي مرة واحدة وبعدها ادخلوا الحانات). فقد وظف هذه العبارة لخدمة فكرته ، مناجياً إياهم بألا يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يهلّلون للوحدة ويرسّخون الأنانية مقابل الإنسانية . وهذه المناجاة نابعة من ذات الشّاعر المتمنية بأن يكون المجتمع نقياً لا عيب فيه ولا فساد. فالناس أصبح همّهم الوحيد مصلحتهم الذّاتية وفرديّتهم المطلقة. وهوهنا لا يخاطبهم كأنهم أناس عائمين، بل كأناس عجنوا بالأنانية ، ليكون منطلقه إلى فضاء النص الجميل. فيحثّهم على الأخلاق والإنسانية والعاطفة مشيراً إلى قضية أبعد من قضية الوحدة التي أشار إليها بالعنوان (لست وحيداً)، ألا وهي الإنسانية.
وهنا يقترب من قصيدة (فكّر بغيرك) للشاعر “محمود درويش” عندما يقول: “لاتنسى قوت الحمام ولا تنسى من يطلبون السلام”. وهذا ما أعلن عنه الأديب “عبدالله الغذامي” في قوله: “أن كلّ نصّ هو عبارة عن لوحة فسيفسائيّة، وهو تشرّب وتحويل نصوص أخرى وابتكار الأجمل من خلالها”. فالشاعر اتجه هنا اتجاه الشعراء المعاصرين لقضية إنسانية لتأثره الكبير بالطّبيعة ومحاولة خرق سننها العادية والتّحليق في فضائها. فجاءت الإنزياحات لتلبي رغبة الشّاعر فيكون الشّعر هنا أقرب إلى التّفكر والتّبصر.
والإنزياح الدلالي يميّز الّلغة الشّعرية عن السردية من خلال الإبتكار والجدّة والنضارة والإثارة. وهذا ما تميّز به الشّاعر في إبداعه هذه القصيدة. ف(الشّمس مرمية على الطرقات): فقد ظهر لفظ الشّمس على غير ما هو عليه في الحقيقة . فالشّمس مرتفعة في السماء والإنسان ينظر إليها نحو الأعلى ، بينما يطلب الشّاعر من النّاس أن يلتفتوا لها وهي مرمية على الطرقات بالنظر الى الأسفل . هذا الانزياح العميق أضاف ليونة وروعة للمعنى. وفيه خرج الشاعر بنصّه عن القوانين المقيّدة للّغة الإعتيادية ، وفارق الطرق المألوفة في التّعبير عن الأشياء محدثاً تجديداً في الّلغة . فبعد أن كان التّناسب بين الكلمة –المعنى وبين الغرض – الموضوع، هو معيار الشّعر قديماً، أصبح التّناسب بين المعنى المعجمي-المعنى الدلالي الجديد هو الأساس الذي يتم به قياس شعرية-شاعرية الكلمة في الشّعر الحديث. وفي هذه القصيدة تحول المعنى المعجمي للكلمات إلى آفاق أخرى دلالية أعطت القصيدة صفة الشاعرية.
والّلغة واستخدامها الكلامي لا تنتهي عند ساحل الكلمات وبحر الألفاظ ، بل تتعداها إلى المعلن عنه خارج الكتابة. فالقصيدة أوسع من مجرد حالة خاصة أو همّ ذاتيّ يعيشه الشّاعر، فهي تصور شخص الحداثة العربية بكل مافيها. ليأخذنا السؤال حول إن كان الشاعر كائن في زمن كتابة القصيدة أم في زمن لاحق له أم سابق عليه. فالصّور الشّعرية تدلّ على تداخل عدة أزمنة :الحاضر والمستقبل. ويظهر ذلك من خلال استخدامه المكثّف للأفعال المضارعة. وزمن القصيدة من المؤثرات الإيجابيّة على الصّور الشّعرية ، مما يعكس إبداع وذكاء الشّاعر في استخدام الزّمن المناسب في الفكرة المناسبة بغية إبقاء القصيدة أطول مدة ممكنة في ذهن وقلب المتلقي.
فالصّورة الشّعرية المؤثرة ماهي إلا نتاج تداخل الأزمنة قد تستطيل وتمتد إلى المستقبل. فذات الشّاعر هنا تتجلّى في محاولة لبناء العالم من جديد، فهو يسعى في فعلها المضارع لتغيير العالم عبر تملّكه في صيغة المستقبل. ولأن الاستبصار من صميم غايات الأدب، فالشاعر يهتمّ جداً بالمستقبل.
وإذا أمعنا النظر في التراكيب الفعليّة لاحظنا أنها تصب في دائرة الأمر كدلالة على النصح والتوجيه والتّمني، فمعظم التراكيب أتت طلبيّة ، وما طلب من النّاس كان على سبب التعجيز تارة ، والإباحة تارة ، وتارة أخرى على التّمني. فترجمت هذه التراكيب الفعلية لفظياً توتّر الشّاعر وإلحاحه المتواصل لتثبيت صورة المتكلّم الذي يتمسك بما هو وبما يجب أن يكون(تقضمون-تلبسون-تحثون-تتركون) . وإذا توقفنا عند هذه الأفعال نجدها متواصلة ومتكاملة ، سريعة أحياناً وبطيئة أحياناً أخرى، مما يشير إلى رغبة بائسة للخروج من الحياة . فهناك أكثر من لفظ يخدم فكرة التواصل والدعوة في القصيدة. فجاءت الأفعال بصيغة الأمر المضارع عوضاً عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة، وكأنه مشاهد للعيان عما آلت إليه أحوال الناس في علاقاتهم. فالموقف موقف دهشة وامتعاض. والهدف هنا تقريب الفعل كأنه كائن وتأكيداً أنه سيكون.
وأهم ما يميّز القصيدة من حيث هي نصّ قيامها على آليات التكرار والتوازي والتنافر والمفارقة (التناقض الظّاهري في الّلفظ ودقة في المبنى تدهش الملتقي وتلّذ للقارئ). ففي القصيدة ترد عبارة (أيّها الناس) المؤلفة من المنادى (أي) المبني ومن الهاء التي تتصل به للتنبيه ، ومن الناس . وبما أن النّداء لابد أن يتبعه أمر أو طلب أضاف الشاعرمطالبه وأمنياته. فأصبحت (أيّها) بؤرة القصيدة والتي توحي بالتحريض ، وتدل على التحفيز في آن معاً من خلال استيعاب دلالاتها اللغوية والنحوية. وإذا نظرنا في القصيدة رأسياً من الأعلى إلى الأسفل لاحظنا هذا التركيب النحوي يتكرّر. ولكن المطلوب يتغير مما يؤدي إلى وجود نسق تركيبي يقوم على مبدأ التوازي وهو تكرار قالب شكلي نحوي مع اختلاف التفاصيل في كل عبارة طلبيّة. فيستخدم الشاعر (حين) ثلاث مرات ليدلّ على الزمان، طالباً التنبّه له ليعيد تكرار اللفظ بمعنى آخر(عندما).هذا التكرار أتى لبناء الحالة وتأكيدها ولبعث نبضاً إيقاعياً مؤثراً. “فتكرار الألفاظ والجمل ناقوس يقرع به آذان التي صمّت آذانهم عن دورهم الإنساني ليوقظ فيهم ضمائرهم الغائبة وإنسانيتهم النائمة”، رافضاً التهميش داعياً إلى الألفة والمحبة والرحمة..
فكلّ الألفاظ تلحّ على مضمون واحد للتراكيب بصيغة الجمع، فهو يكرّرها لنشعر أن هناك علاقة حميمية موجودة في القصيدة حتى لو لم نأخذ معنى الألفاظ والعبارات المستخدمة في القصيدة. فيضفي هذا التكرار على الأسلوب صفة الإنسجام النابع من تكرار المتماثل وما يوحي به من تنظيم موسيقي وإيقاعي متناسق ، مضافاً إليه التوازي الذي يؤمّن السلاسة وتواتر المعاني الرّامية إلى الفكرة ، ويشكل عامل إقناع للمتلقي بضرورة الإنتباه لما يطلقه المتكلم من صرخات ومطالب.
إضافة إلى هذا الظاهر الصّريح العميق يزين الشاعر قصيدته بالصور البيانية وخاصة الإستعارة ، ففي عبارة (تنزف الشجرة ) نرى استعارة تنافرية وابتداع شعري تخيلّي بحت. فقد خلق بُعدا جديداً للمعنى. فالشجرة هنا بمثابة الجسد المتألم. هذه المفارقة صنعت الشّعرية المطلوبة وحققت توثيقاً رمزياً عالياً. كذلك في استخدامه للفظ (التّفاحة) إنما يرمز من خلالها إلى أساس الأزمة في حبّ الذات، وكأنه يُسقط بشكل خفي حادثة الخلق الأولى (قصة آدم والتفاحة) وما تضمنته من حبّ للذات وسيطرة للرغبات، فيقول عندما تقضمون التفاحة تنزف الشجرة . ويقصد بها أنه عندما تفكّرون بذواتكم ورغباتكم فلا تنسوا المستضعفين في الأرض بغير حتى الفتات ، فتخلوا عن الأنانية ومصالحكم الذّاتية ، وانظروا للآخر الوحيد صاحب الوجه الشاحب الضعيف الذي تسكن صدغه طلقة حمراء. هذه الأمنية تنطلق من الشعور برغبات ينوي صاحبها تحققها وتمثل هدفاً له . وقد يتحطم المرء على عتبة أهدافه ليصبح ذو (وجه شاحب).
وفي موقع آخر يقول: (عندما تلبسون الصوف يعرى خروف طيب القلب) مشيراً إلى المشردين الذين لا مأوى لهم نتيجة الحروب والدمار واللإنسانية طالباً لهم الأمان والسلام طلباً مضمراً.
ولا تغيب الفلسفة عن فضاء القصيدة ،فالشاعر يقارب بعبارته (تأملوا هذا الوجه الشّاحب) المقولة الفلسفية ل “قسطنطين كفافيس”: ما أشد علامات الجد على الوجوه . فبها يوحي بفائض المعاني الشعرية التي تبث الوحدة والغربة التي يسكنها الشاعر مكاناً متحركاً في ممكنات الناس وهو ينتشر وحيداً.
ختاماً، إن النص الجميل يعزز تجارب السامع، من نافذة الفهم الثاقب ويحدث ذلك اللقاء النفسي والعقلي بينهما. وهذا ما جسدته قصيدة (لست وحيداً) للشّاعر المبدع مردوك الشامي. فقد صنع قصيدته صنعة متقنة لطيفة مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله، فأتقنها لفظاً وأبدعها معنى.

القصيدة:

لســتُ وحيداً ..

حين أزرعُ شــجرةً
يقصدُها طالبٌ للظــلّ
حين أعجزُ عن قصيدةٍ
يقولُها غيري..
حين تسكنُ صدغي طلقة حمقاءُ
لابدَّ أن يرفعَ أحدُهم
هذا القفلَ الصديء عن بوابة الفرح !
أديروا وجوهكم إلي
مرةً واحدةً
وبعدها ادخلوا الحانات..
تأملوا هذا الوجهَ الشاحبَ
وبعدها اخلعوا عدساتكم الانيقة
أيّها الناس
أيها الناس
عندما تقضمونَ تفاحةً
تنزفُ الشجرة
عندما تلبسون الصوفَ
يعرى خروفٌ طيّبُ القلب
عندما تحثـّـون الخطى إلى قصوركم

تتركونَ الشمسَ مرمية على الطرقات

*القصيدة من مجموعة” أسئلة ساذجة”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى