عجوز إينوفيا أوتش/ قصة قصيرة/ بقلم الروائي عمر سعيد

عجوز إينوفيا أوتش
تمددت على الكنبة، وقد رفعت قدمي قليلاً بعد عناء يوم طويل.
كانت أستار شرفتي، تكشف عن منظر المساء خلف الزجاج.
عمارات شاهقة.
شقق لا يستحيل عدها، لكنها قد تستنفذ مني الساعتين.
ولمَ علي أن أعدها؟!
تلك شقة في الدور الواقع على مستوى نظري، ضوؤها يكشف عن سيدة تنشغل بأشياء خلف المجلى.
على علو عدة طوابق، شقة جيظهر نورها من خلف الستارة؛ كما لو أنه مصباح سيارة؛ تنزل طريقاً جبلية، يغطيها ضباب ليل شتوي.
يستثمر فضولي عينيّ في المراقبة، والتخمين وأمنية أن أرى عناقاً حميماً؛ خلف واحدة من تلك النوافذ التي أتنقل في النظر بينها.
في المبنى (c) المقابل لمبناي مباشرة، كثير من الشقق المضاءة.
شقة واحدة فقط؛ يتحرك داخلها ضوء صغير، خمنت أنه قد يكون ضوء ولاعة سجائر، أو مصباح يدوي، لكنه حين عكس وجه حامله، أدركت أنه ضوء هاتف.
نهضت، ونزلت، ثم مشيت، حتى وقفت في الحديقة المقابلة أسفل المبنى، تحت الشقة في الدور الثالث، تلك التي يتحرك فيها الضوء.
بدأت أعد الشقق عن يمينها إلى آخر المبنى، وعن يسارها إلى آخره أيضاً، حتى تيقنت من موقعها.
قصدت مدخل العمارة، وركبت المصعد إلى الدور الثالث، ثم مشيت إلى أقصى اليمين، وبدأت عد الأبواب، حتى بلغت الشقة 57، ثم فعلت ذلك من جهة اليسار، فكانت النتيجة نفسها.
كبست الجرس..
ثم كبسته ثانية.. وانتظرت.
حتى انتابتني رغبة الاستدارة، والعودة.
كدت أفعل، لولا أن الباب انفتح، وقد أطل من خلفه عجوز، يكاد يلامس الثمانين من عمره.
احدودب جسده قليلا عند كتفيه. يعتمر قبعة مطرزة. وجهه رقيق حاد الأنف؛ فوق لحية لم تطلها موس الحلاقة منذ مدة.
يلبس دشاشاً عاجي اللون، يكشف عن أعلى صدره، وقف أمامي حافي القدمين، ثم قال مستفهماً:
- نعم؟
عرفته بنفسي وبلدي، وأخبرته أني أسكن شقة مقابلة، وأني رأيت المصباح يتحرك، الأمر الذي دفعني للقدوم، فلعل الساكن هنا يحتاج المساعدة؟!
استدار وقد ترك الباب مفتوحاً، وهو يقول:
تفضل.. أدخل.. واغلق الباب.
مشى أمامي، ثم جلس حيث اعتاد ذلك، وأشار إليّ للجلوس مقابله.
ثم قال: - أعجبتني جرأتك في اقتحام عوالم الآخرين لأسباب بسيطة. خاصة أني في عالم طال ركوده منذ أن سكنت هذه الشقة.
تبادلنا التعارف، والأخبار، فعرفت أنه عجوز ليبي، تقاذفته الأيام بعد سقوط معمر، حتى بلغ هذه الشقة، التي اشتراها بما جمعه من مدخرات سنوات الوفرة الليبية.
كنا لا نزال جالسين على ضوء مصباح الهاتف في شقة، تكاد لا تحوي إلا بعض العفش البسيط.
فقال لي:
- اكبس مفاتيح الضوء عن يمينك.
أجبته بكل عفوية: - دعنا من ذلك، لأني أتيت؛ لأعرف سر سهرك على ضوء الهاتف.
تنفس بعمق.
ثم نظر من النافذة إلى البعيد، وقال:
- لم تريد أن تعرف؟!
قلت : - نحن البشر هكذا، نعيش على أخبار بعضنا البعض، مهما بدت تافهة!
نقر بإصبعه اليسرى على مقبض الكنبة الخشبي، ثم تبسم، وقال:
- أحببت روح الفضول فيك.. يا عزيزي أنا أتلقى من أبنائي مساعدة مالية مئة دولار، أدفع منها فواتير العائدات والماء والكهرباء، والطعام وبعض الدواء، وما تبقى آكل به.
في الاتصالات الأخيرة مع أبنائي، بدأوا يشكون من غلاء المعيشة في ليبيا، ومن صعوبة العمل وتوفير المصاريف لأسرهم، ثم تمنوا علي ألا أقلق في حال تأخرهم في تحويل المال!
فهمت من كلامهم أن عليّ أن أشعر بهم، وأن أخفف من مصاريفي، ثم تركت الشح يقرر عني.
فماذا لو توقفوا عن إرسال المال؟!
لذا صرت أشحن هاتفي، لأسهر على ضوئه ليلاً، ولا أستخدم الإنارة الليلية، وذلك لتوفير المال.
لم تدمع عيناه، لكنه بدا عليه، أنه يعز عليه رحيل معمر الذي كفاه شر العازة عقوداً.
وكأي أحمق؛ لا يتقن فن التواصل مع الآخرين، سحبت محفظة جيبي، واستخرجت منها بعض المال، ووضعته أمامه على الطاولة.
كان الرجل حليماً جداً معي.
إذ استخدم أفضل طبقات صوته دفئاً ليقول لي:
- شكراً لك يا أخي..
أنا أخبرتك عن سبب استخدامي لإنارة الهاتف، ولم أشكُ لك!
تحركت في مقعدي، وأنا أحاول التحذلق والتبرير..
لكنه أشار إليّ، لأعيد المال إلى محفظتي، ثم قال:
- حذاري أن تبخس أولادي ثانية!
فتحت فاهي دهشة، لقد أصاب الرجل، أنا أجمل نفسي، وأجعل مني أفضل من أبنائه.
ثم قال: - حتى وإن توقفوا عن إرسال المال، إياك أن تدعي بأنك ستحل محل أي منهم طوال ما تبقى من عمري؟!
هل تريدي أن تعري أبوتي بعد هذا العمر، وتهدر وقاري بشكرك؟!
اعتذرت.. ثم وقفت.. واستدرت ماشياً باتجاه الباب، وبعد أن استودعته الله، سمعته؛ يطلب مني أن اغلق الباب خلفي.
لا أعرف كيف وصلت المصعد، وركبته، حتى أمسكت بقبضة الجدار فيه، تجنباً للترنح أو السقوط.
فأي حماقة تلك التي دفعتني إلى نكء جراح هذا الرجل، وكيف سمحت لنفسي أن أوقظ فيه كل تلك الفوضى الموجعة، وفتحت باباً ستر خلفه الكثير الكثير، لأنثره في مجالس الثرثرة؟!
عندما دخلت شقتي، أغلقت الستارة، أملاً بطمس ما حصل في ذاكرتي، ثم هربت بنفسي إلى كتاب كنت أقرأه.
فأبشع المحبة، محبة لا تعرف كيف تستر عوراتنا ونحن نغدقها!
*العائدات( مدفوعات بدل صيانة وتنظيف وإنارة المجمع السكني)