أدب وفن

قراءة في جسد الأشياء الراقصة ( تقاطعات الريشة والوتر والريح والروح والجسد )

قراءة في جسد الأشياء الراقصة
( تقاطعات الريشة والوتر والريح والروح والجسد )

إنها رؤى الجوعِ والنارِ في الجسد، تلك التي تحرضُ الجمالَ في المبدع على الحياة، لذلك نراه يسيرُ متعجلاً في طريق العمر الطويلة صوبَ الخلود .

يسافرُ الضوءُ سنواتٍ ليبلغَ أسطحَ الأشياءِ، فيتركَ تفاوتَ اللونِ فوقَها، وخلال تلك الرحلة المدهشة؛ تعبرُ الريحُ ذراتِه محدثة فيه مساحاتٍ من التأثير الذي يصعبُ فهمه، وهكذا يتولدُ في أجوافنِا نحن البشر كونٌ من التذوقِ اللامنتمي لكلّ مبهمٍ، يتشكلُ على ذؤاباتِ الريشةِ واللونِ والقماش.

تمزقُ الريحُ نفسَها فوقَ وترِ تصفعه الريشة، فيتهدجُ صدرُها أنغاماً تسيلُ على حدِّ الروحِ لتحطمَ فينا كلّ ساكنٍ وبليد، لتبدأُ رحلةُ السفرِ المعكوس، فنادراً ما يكونُ هناك سفرٌ للأمام في جوهرِ المتذوق، الذي يتيه عند لحظةِ البحثِ عن تفسيرٍ لما حدث.

تلك الريحُ التي تولدُ في الفراغِ المؤطرِ بأشكالٍ مادية، تبعثُ فعلَها فينا إيذاناً بولادةِ أكوانٍ من الحركاتِ والأنفعالاتِ؛ لم تكنْ في الحسبان ..
كلُ ذلك يرتبطُ بخيوطِ إيقاع، تطولُ، وتقصرُ وفقاً لعالمٍ جواني داخلَ الجسد، لا يمكنُ لأي من المبدعين التحكمَ بمسارِه، أو تفسيراتِه، أو فهمه بأكثر من الاستمرارِ في التوغلِ والتوغل بعيداً خلفَ السعي والسفرِ المحموم ِ بدافعِ البحثِ عن مزيد.

تصفعُ العصاةُ وجهي الطبلِ، فيستيقظ ُ الصوتُ حركةً، يميدُ فيها الجلدُ.
تتصادمُ داخلَ الفراغِ المحكمِ إغلاقُه.
تنبعثَ الحركةُ فينا تحولاتٍ لا تحصى، نعيشها ترنحاً واهتزازاً مخفياً أو ظاهراً..
نترجمُها حركاتِ تنسابُ بتلقائية، تجعل المصممين، يرسمونها انطلاقاتٍ في أجساد تتلوى بانتظامٍ يكادُ يكونُ مدروساً، غير أنه مجردَ انتظامٍ ينتجُ عن جوعِ ورؤى ذلك الجسد، الذي ينتشرُ في الفضاءِ تثنيّاتٍ وتقلصاتٍ وقفزات، تتكررُ وفقا لشدةِ تراكماتِ الحنينِ واللوعةِ والألمِ والحبِ والفرحِ في وجدان الراقص المثقوب نشوات.

إذاً هي حركةُ الريحِ في الفراغِ، تجعلُ الإبداعَ كائناً حياً يتوالدُ بكلِ مكوناتِه، فلولا ملامساتنا للأشياء، لما شعرنا بذلك الشغفِ الجنوني سلباً أو جنوناً بها.

تستيقظُ الأشياءُ فينا وفقاً للوعي الذي تحدثُه تلك الأشياءُ، فتبدأ خِياناتنُا لها بالتعبيرِ عنها. نتخلى عن شيءٍ لأننا عشقنا شيئاً آخر، وهكذا تصبحُ الأشياءُ هي المسؤولةُ عن ولادةِ الجمالِ فينا..
لأن الجمال يتسرب من ثقوبنا المنتشاة لا وعيا، وليس من إدراكنا المصر على الفعل.

فما الريشةُ واللونُ والقماشُ لولا ذلك الملمس المشحون في رؤوس أصابع مبدع؟!
ملمس تخطى مجاهلَ عصية، ليكون.
أصابع استلهمَت كلَ تفاصيلِ الكونِ عبر التجولِ فوقَ أسطحِ الأشياءِ فيه.

وما الوترُ ، لو تلك احتكاكات، قد حصلت في البدءِ داخلَ أعماقِ نفسٍِ بشريةٍ، تجوبُ المتعةَ والألمَ منذُ أنْ كانَ الإنسانُ، دونَ أن ترتويَ؟!

وما الجسدُ الراقصُ لو تلكَ الصفعاتِ التي ينهالُ بها الإيقاعُ على المسامعِ، لتبدأ اختراقات مفاصلنا الساكنة، وقد خلعناه على أعتابِ الإيقاع، لتفتحَ فينا ثقوباً، تطلُ على تشكّلاتٍ نعرفُ كيفَ بدأناها وكيف أنهيناها، دون أن نعلمَ الشكل الذي أدى إلى استثمارِها في الإنسان فينا؟!
فنحن لا نرقص إلا لأن لسعات الصفع فوق جلود أعصابنا التي لم تكتس بغير الألم.

تتقاطعُ العلاقةُ بين أنواعِ الفنونِ تقاطعَ العلاقةِ بين مكوناتِ الإنسان روحاً وجسداً ونفساً، فيشكلُ النصُ المكتوبُ وبأيّ لغةٍ كانت روحاً لكل عملٍ إبداعيٍ كان، فالكلمةُ والنوتةُ الموسيقية واللونُ والبناءُ وكتلة التصميمِ والحركةُ والجسدِ، كلها لغاتٌ تفعلُ فعلَها في عناصرِ العرضِ كافةً من الكاتبِ إلى المخرجِ فالجمهورِ؛ مروراً بكلِ فريقِ العملِ الذي اجتهدَ ليكونَ العرضُ جسداً يحاكي المتلقي، وبغضِ النظرِ عن شكلِ العرضِ ونوعهِ، سواءَ كان مسرحيةً أو لوحةً أو قطعةً موسيقية أو رقصةً، تكون الغربة في الجمالِ هو القاسم المشترك بينها جميعها.

فلا أحد يمكنُه تحديدُ آلياتِ حدوثِ ذلك بشكلٍ أبعدَ مما يمكنُ مشاهدتُه فوقَ السطحِ، فالفرحُ كما الألمُ يمكن الحديثُ عنه كتجربةٍ فرديةٍ، إنما يصعبُ تفسيرُ مجاهلِ هذه التجربةِ الفرديةِ بشكلٍ مؤكدٍ ونهائي، كذلك هو الجمالُ يظلُ وحيداٍ متفرداً في كافةِ مراحلهِ من اللحظةِ المبهمةِ عند التشكلِ إلى اللحظةِ المجهولةِ عند التلاشي، ليتحولَ إلى طبقاتٍ لا يمكنُ التعرفُ عليها بأكثر من خبراتٍ تنعكس ولاداتً في جمالٍ يُنتظر.
فالتجارب تبقى حاضرة وإن في الجماد.

يتفردُ الجمالُ في الشيءِ إذا عزلناه عن جمعِ الأشياءِ، ليصبح تناسقاً عند تكرارِ حركةِ الأشياءِ المفردة ودمجِها.
هناك في الفراغِ حيثُ اللاشيء، تكونُ العلاقةُ بيننا وبين الإبداعِ مبهمة، تنبعثُ ملامحُها على شكلِ محاولاتٍ؛ ترتطمُ بالخوفِ من استمرار التوغلِ تارة، وأخرى بنزعةِ الفرار منه، إلا أن الفضولَ الذي يثابرُ على جَلدِنا من الخلفِ من أجل المواصلة في التقدمِ داخل فضاء التجربةِ؛ يجعلُ المحاولةَ مكتملةَ الملامحِ، وقد خلعت عنها كل مبهمٍ غامض، وراحت تنمو بطريقة يستحيل فهمُها، فتصبحَ جمالاً خاضعاً للتذوقِ وإن بنسبِ متفاوتة.
لذلك يصبحُ من المستحيلِ الاقرارُ بعدميةِ الأشياءِ، وتغدو محاولاتُ تلوينِها أو تحريكِها أو بعثِها من جديدٍ مسألةً حتميةً في داخلِ المبدعِ، كلما مدَ يدَه عميقاً في خيالِه ووجدانِه، يستعينَ بشيءٍ مما أهملَه هناك لأجلِ البحثِ عن أشياء جديدة، فينسق، ويعيد، ويكرر، ويهدم ثم يبني، ثم يتنفس، ليهدأ داخله المازوم وإن لبرهة، فنحن في ورطة اسمها الحياة، وعلينا محاولتها وإن بخسارة.

عمر سعيد مسرحي وروائي لبناني .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى