مارادونا 1986 عندما تتوقف الأرض عن الدوران

الدكتور طارق عبود

مارادونا 1986 عندما تتوقف الأرض عن الدوران
—————-
هذه هي بطولة كأس العالم الثانية في حياتي. ثمة أشياء كثيرة تغيرت منذ البطولة الأخيرة في إسبانيا.
في الكأس الماضية بكيتُ ليالي عديدة لأنني لم أستطع مشاهدة إلا مباريات قليلة، بسبب الاحتلال الصهيوني للجنوب، ومنع التجوّل، وانقطاع الكهرباء.
صحيفة السفير تتحضّر للحدث، كانت المتنفّس الوحيد، والنافذة اليتيمة لنا في الجنوب للمشاركة في بطولة كأس العالم. كنّا نستيقظ صباحًا لنهرول إلى دكان أبي حسين نسر في الساحة، ننتظر سيارة التاكسي التي تأتي بحزمة الصحف المربوطة بحبل، والحبل مشدود بقوة، حتى شعرتُ للحظة أنهم يخافون من الأخبار أن تتناثر على الطريق من بيروت إلى الضيعة.
يتناول أبو حسين الصحف، ويبدأ بنشرها على الستاند الحديدي المخصص لها، ونحن متشوقون للإطلاع على ما تحمله من أخبار عن المونديال القادم بعد أيام في المكسيك. كنّا ننتظر الإذن منه كي نفضّ بكارة الصحيفة، وننتقل سريعًا إلى الصفحة الثامنة. وأبو حسين لطيف معنا، كان يطلب أن نقرأ صفحة الرياضة، من دون أن نلحق الأذى بالجريدة، كي يستطيع بيعها لاحقًا، لأننا لم نكن نمتلك ثمنها. كنتُ أمسكُ بها بشغف المشتاق إلى حبيبة، أشمّ رائحة الورق، وأحيانًا كنتُ أرغب بتقبيل الصفحات لو كنتُ وحيدًا.
الصفحة الأولى “زلزال مدمّر في المكسيك”، الضحايا في الآلاف، الدمار هائل. البطولة مهددة. لكنّ القرار اتخذ. البطولة ستقام في وقتها. لملمَ المكسيكيون جراحهم وانطلقوا لإنجاح الحدث العالمي الكبير.السفير تنشر يوميًا المعلومات عن الفرق واللاعبين والأجهزة الفنية، بل إنها أجرت مسابقة لاختيار هداف البطولة القادم.
أيام معدودات والبطولة تقترب. الأمور أفضل بكثير من البطولة السابقة، صحيح أن الكهرباء ليست مضمونة، ولكن ثمة خيارات أخرى. كنّا ننتقل من منزل صديق إلى آخر لمشاهدة المباريات، كنا نتكدّس في الغرفة غير مبالين بشيء، يفصلنا عن الملعب متران أو ثلاثة، نتحمس، نصفق، نشجّع، نشتم، نفرح، ونبكي أحيانًا.
انطلقت البطولة في المكسيك، لم أكن محبًّا لحفل الافتتاح الطويل. لأننا في خطر، قد تنقطع الكهرباء بين لحظة وأخرى، وهم مشغولون بالغناء والرقص وشعائر الافتتاح.
أتسمّر أمام الشاشة أفركُ كفّي، وأنتظر. لم نكن محظوظين لنرى كيف تتم عملية التسخين، وكيف يلاعب دييغو الكرة بشغف. وهي تستأنس تحت قدمه اليسرى وفوقها.
لحظات ويدخل الشاب الأكثر شهرة في الكون، رجل الجنوب القادم من أحياء بيونس آيرس الفقيرة، ليتحدى العالم وأثرياءه وشركاته العملاقة ومنظومته الإعلامية والكروية.الشاب القصير القامة، ذو الجسد الحديدي. كتلة من عضلات مرصوصة، وشعر أسود كثيف، ووجه أسمر طفوليّ جميل، وعينان عسليتان تشعّان أملًا وطموحًا وعشقًا للمستديرة. يحمل دييغو علم بلاده الصغير، يرتدي القميص الأبيض والأزرق، والرقم عشرة يرقد مزهوًا على الجسد الأكثر إبداعًا في تاريخ الكرة. يحمل شارة القائد، يقدّم صدره إلى الأمام، يمشي بغنج وعزّ وثقة بالنفس قلّ نطيرها. لقد كان قائدًا حقًا.
في تلك اللحظة يشتعل الملعب، وتخفق قلوب المليارات حول العالم. كدتُ أجنّ من الفرح، فأنا لم أره منذ أربع سنوات إلا في الصحف، وفي صورته المعلقة على باب غرفتنا.
كم كنّا محظوظين أننا نشاهده، وبالألوان هذه المرة. لم نكن غيورين لنحسدَ الجالسين على المدرج، وهم قربيون من دييغو شخصيًا، يشعرون بأنفاسه، بغضبه، بإصراره، بعناده، وبألمه، كلما تعرّض للأذية والضرب من الخصوم.
المباراة الأولى مع الطليان، يدخل الفريقان أرض الملعب، ولم نكن نرى إلا مارادونا، كل اللاعبين الآخرين كانوا أعدادًا لا قيمة لها في الملعب، كانوا بالنسبة إلينا تماثيل بلا روح، وكان هو ينبض حماسًا وتفانيًا وإصرارًا، وكأنه يحمل قضية شعبٍ في قلبه، ويحارب الأساطيل والطائرات والمدافع والمشاة في قدمه اليسرى فقط.
في مواجهة الإنكليز.. يد الربّ حاضرة.
قبل وقت قصير، وضعت حرب الفوكلاند أوزارها، بريطانيا العظمى تهزم الأرجنتين الفقيرة، وتسلبها جزرَها بقوة السلاح والأساطيل والعنهجية.
الليلة مباراة ربع النهائي، مارادونا وحيدًا في مواجهة الامبراطورية القديمة المدججة بمدافعين شرسين بقيادة تيري بوتشر، وبهجوم صاعق يتقدمهم غاري لينيكر وجون بارينز.
بدأ الشوط الثاني والنتيجة سلبية. يتعرّض مارادونا للضرب والاعتراض، ولكنه لا يزال مصرّا على الفوز، والعبور إلى نصف النهائي. يركض ويراوغ، ويستميت لتسجيل الهدف الأول.
لقد اقتربت اللحظة. ثمّة دربكة على خط منطقة الجزاء، المدافع الإنكليزي يعيد بالخطأ كرةً عالية إلى الحارس العملاق بيتر شيلتون، ينظر مارادونا إلى الكرة بقامته القصيرة. لا أعلم كيف جاءه الإلهام. يرتقي عاليًا، لكنه لم يصل. فيستخدم يده لتسجيل الهدف الأوّل الذي أثار لغطًا كثيرًا. هو يعلم أنّ حروبًا كثيرة حُسمت بخدعة. وعندما سُئل لاحقًا، لم ينكر، ولكنه قال: إنها يدُ الرب.
لم يكتفِ دييغو بذلك الهدف فقط. أراد أن يثبت أنه الأسطورة، وأنّه يستيطع أن ينافس الملك “بيليه” وأن يصبح حديث العالم لعقود أربعة قادمة. يستلم الكرة من وسط الملعب، يدور حول نفسه مراوغًا لاعبيْن من الإنكليز، يندفع نحو المرمى، ثمة عوائق كثيرة، ومسافة خرافية، ولاعبون بقامات طويلة، وقلوبٍ قاسية، وعيون باردة. يتخطى لاعبًا أبيض، ومن ثم مدافعيْن آخرين دفعة واحدة، يمر عن الأخير، قبل أن يصبح وجهًا لوجه مع الحارس مرة أخرى، يتلاعب بشيلتون، ويرميه أرضًا، ويضع الكرة في المرمى الخالي، قبل أن ينقض عليه المدافع الإنكليزي، ويطيح به أرضًا. يلملمُ دييغو ألمه وتعبه، ويقفز، كأنه يريد معانقة السماء.كم تمنيتُ لو أنّ العلم يتوصّل إلى دراسة المشاعر والعواطف والأحاسيس لقراءة ما شعر به دييغو في تلك اللحظة. لقد طار فرحًا، ومن ثم ركع، وأجهش بالبكاء، لقد علم ماذا فعل في رحلة الستين مترًا الأسطورية. لقد انتقم من بريطانيا وهزمها. وانتقل إلى النصف النهائي.
وضع مارادونا خلفه كل ما قيل في الصحافة. أمامه تسعون دقيقة ويصل إلى النهائي. في تلك الليلة اجتمعنا في بيت المرحوم الحاج خليل عياش، بضيافة الحاج ابراهيم رحمة الله عليه. كنّا أكثر من عشرين شابًا في غرفة، في ليلة صيف ساحرة.
الأرجنتين في مواجهة بلجيكا التي أخرجت الاتحاد السوفياتي بمؤامرة، سجلت فيها هدفين من حالتي تسلل. ذلك ليس مهمًا الآن.
يدخل مارادونا الميدان وفي عقله الوصول إلى النهائي. يتصدّى وحيدًا للبلجيك، يسجّل الهدف الأول بطريقة رائعة، وبعبقرية المبدع. ذلك ليس كافيًا بعد. يستلم دييغو الكرة ويراوغ المدافعين وحده، الأول والثاني والثالث والرابع، ليصبح في مواجة العملاق جون ماري بفاف، يضع الكرة في الزاوية البعيدة، ويتعرض للضرب، يكاد أن يقع، لكنّ دييغو لا يستسلم، حتى بعد التسجيل أصرّ على الوقوف. واحتفل ورفاقه بالوصول إلى النهائي.
ملعب الأزتيك، والحلم الذي يساوي عمرًا
القيصر فرانس بكنباور يوصي لوثر ماتيوس بقطع الهواء عن دييغو. هذه هي مهمتك فقط. الكرة الأرضية تتوقف عن الدوران. كرة القدم تقوم بالمهمة. سكان الكوكب يستمّرون أما التلفاز. مئة ألف متفرج يستوطنون مدرجات ملعب الأزتيك في مكسيكو. المباراة تشتعل. دييغو محاصر من الألمان. والمانشافت ينفّذون ما يُطلب منهم بحرفية. ركلة كنية يرتقي لها المدافع براون يخطئ مايكل شوماخر. يتقدم التانغو بهدف . مارادونا ما زال مراقَبًا. لقد أطبقوا عليه. لا بدّ من وسيلة أخرى. يستلم الكرة في منتصف الملعب يحاصره الألمان، فيمرر كرة ذهبية لفالدانو، ويضعه أمام المرمى ليسجّل الهدف الثاني للأرجنتين.
الألمان لا يستسلمون بسهولة، من ركنية يسجّل رومنيغيه الهدف الأول، ومن أخرى يعادل رودي فولر النتيجة. تعود المباراة إلى المربع الأول. الحلم يكاد يضيع. مارادونا مصرٌّ على تسجيل المونديال باسمه. ومن منتصف الملعب يمرر كرة ساحرة إلى بوروتشاغا، ويضعه في مواجهة شوماخر. لم يخيّب خورخي أمل دييغو. يضع الكرة في الزاوية البعيدة، ويركع على أرض الملعب.
يرتقي مارادونا إلى المنصة. عيون البشرية وكاميراتها مسلّطة على الشاب الأسمر. يستلم دييغو الكأس الذهبية، يعانقها، يقبّلها، ويغمض عينيه.يوزّع سحره في أرجاء المعمورة. يحلّق بالأرجنتين وفقرائها إلى قمة المجد. دييغو أرماندو مارادونا أصبح أسطورة حقيقية.