الحبُّ في فلسفاتِ سقراط وأفلاطون وأرِسطو.
_ الاسم: علي حسين كَنعان.
_ المقرّرُ: حلقةُ بحثٍ في نصوصِ الفلسفةِ اليونانيّةِ والوسيطةِ.
_ أستاذُ المقرّرِ: حسنْ رِضا.
_ الموضوعُ: الحبُّ في فلسفاتِ سقراط وأفلاطون وأرِسطو.
- الحّبُّ: هلْ لهُ تعريفٌ واحدٌ.
إنّ الحبّ يشبهُ البحرَ الّذي يختلفُ في تعريفِهِ المعرّفونَ. فالبعضُ يرى فيهِ الأفقَ الّذي يقعُ خلفَهُ العالمُ المثاليُّ للمشاعرِ الإنسانيّةِ، والبعضُ الآخرُ يرى فيهِ ذلكَ الهادئَ في يومٍ، والعاصفَ في يومٍ آخر، وآخرونَ شبّهوهُ بحالةِ المتعةِ والاستجمامِ الّتي يحظى بها منْ يغفو ساكنًا على شواطئهِ النّاعمةِ. يحصلُ الحبُّ في أيّ زمانٍ ومكانٍ، وتحتَ أيِّ ظرْفٍ. ففي كلّ مرحلةٍ منْ حياةِ الإنسانِ، يجدُ الأخيرُ نفسَهُ أمامَ رغبةٍ داخليّةٍ بأنْ يُحبّ وأنْ يُحَبَّ، فتبدو هذهِ الرّغبةُ بمثابةِ أسطورةٍ منَ الأساطيرِ.
كانَ الإلهُ إيروس عندَ اليونانِ يجسّدُ الإلهَ الوسيطَ في صفاتِهِ بينَ البشرِ والآلهةِ، فوُصِفَ بأنّهُ منْ يهدي البشرَ بالحبِّ منْ مرحلتِهِ الجسديّةِ إلى حالةِ التّواصلِ الرّوحيِّ معَ الآلهةِ. واختلفَ الأمرُ لدى الرّومانِ، حيثُ يطالعُنا ملاكُ كيوبيد الّذي يرمي النّاسَ بسهامِهِ فيوقعُهمْ في غرامِ بعضِهمُ البعضِ. وفي الوقتِ الّذي يظهرُ إيروس اليونانيُّ بمثابةِ رسولِ الآلهةِ إلى البشرِ لبثِّ أشواقِ الحبِّ فيهم، فإنّ معنى كيوبيد ينطوي على شيءٍ منَ المكرِ والعدائيّةِ، فتأتي سهامُهُ تلكَ عشوائيّةً لتبتليَ النّاسَ بالعشقِ المُضني لبعضِهمُ البعض. ورأى الأديبُ الفرنسيُّ فيكتور هيغو الحبّ بمثابةِ “حكمةِ اللهِ وحماقةِ البشرِ”، فوصفَهُ مثلَ هذا الوصفِ في روايتِهِ الشّهيرةِ “البؤساء”. أمّا شوبنهاور فرأى في الحبِّ خدعةً منْ خدعِ الطّبيعةِ باعتبارِهِ يتوقُ إلى الجِنسِ حتّى يحفظَ النّوعَ البشريّ، وحمّلَ المرأةَ مسؤوليّةَ تأجّجِهِ لاعتبارِهِ إيّاها المدبّرَ لاستمرارِ الجنسِ البشريِّ والإتيانِ ببشرٍ جددٍ إلى هذا العالمِ. وذهبَ الجاحظُ إلى أنّ الحبّ شعورٌ يعبّرُ عنِ عقلانيّةٍ بلا حدودٍ، ما جعلَ النّاسَ تهابُهُ لأنّهُ لا يعترفُ لا بالتّقاليدِ ولا بالأحكامِ الّتي يطلقونَها على بعضِهمُ البعضِ. لقدْ عشقَ بيتهوفن الموسيقارُ الكبيرُ إحدى تلميذاتِهِ حتّى إذا ما تزوّجتْ غيرَهُ ازدادَتْ حالةُ سمعهِ سوءًا وأصيبَ بالصّممِ بعدَ ذلكَ. ويخبرُنا التّاريخُ عنْ آلافِ قصصِ الحبّ الّتي إنّما تعبّرُ عنْ قدرِ الإنسانِ في الوقوعِ بالحبِّ كما يحتّمُ القدرُ نفسُهُ على النّاسِ أنْ يموتوا في آخرِ المطافِ. وإذا كانَ الكلامُ عنِ الحبِّ أطولَ منْ أنْ تعبّرَ عنهُ مقالتي هذهِ، فقدِ اخترتُ فيها أنْ أركّزَ بشكلٍ أساسيٍّ على مفهومِ الحبِّ لدى اليونانِ، وخصوصًا في فلسفاتِ كلٍّ منْ سقراط وأفلاطون وأرِسطو، كما طالعْنا في نصوصِ الفلسفةِ اليونانيّةِ لهؤلاءِ الفلاسفةِ الأوائلِ الّذينَ لمْ يهملوا موضوعَ الحبِّ كما فعلَ الفلاسفةُ المتأخّرونَ عنهمْ خلالَ الحقبةِ الحديثةِ في الغربِ، فوجدْنا فلاسفةَ اليونان يجلّلونَ الحبّ ويُعملونَ عقولَهمْ في تصوّرِ ماهيّتِهِ، ولوْ أنّ الحبَّ سيبقى كما الفلسفة، لغزًا كلّما اكتشفْناهُ، وجدْنا في قلبِ الاكتشافِ لغزًا آخرَ ينتظرُنا لنحلّهُ.
- الحبُّ في الفلسفةِ اليونانيّة: توْقٌ إلى الجمالِ.
قبلَ البدءِ باستعراضِ آراءِ الفلاسفةِ اليونانيّين في الحبّ، وجبَ البدءُ بوصفٍ دقيقٍ لما كانَ يمثّلُهُ الحبُّ بالنّسبةِ لشعوبِ اليونانِ القديمةِ، أوْ لنقلْ لشعوبِ الإغريقِ الّذينَ نراقبُ عندَهمُ الفهمَ الأوضحَ للحبِّ بالنّسبةِ لأهلِ تلكَ الحقبة. كانَ الإغريقُ شعبًا يُطلقُ مخيّلتَهُ في كلّ معنًى منْ معاني الحياةِ بما في ذلكَ الفضيلةَ والعدلَ، وبالتّحديدِ الحبّ. وقدْ عُبّرَ عنِ الحبّ بأنّهُ منسوبٌ للإلهِ إيروس الّذي يزرعُ هذا الشّعورَ في قلوبِ النّاسِ الّذينَ ما همْ في الميثولوجيا الإغريقيّةِ إلّا أنصافٌ منفصلةٌ بعدَ أنْ قامَ زيوس بقطعهم وفصلِهم. فكانَ الحبُّ سبيلَ الأنصافِ كيْ تجدَ بعضَها البعض، ومنْ ثمّ تتعانقَ، كتعبيرٍ عنِ الجِنسِ الّذي يؤدّي إليهِ هذا الحبُّ، وتكونُ النّتيجةُ حملَ الرّوحِ في المادّة، وهذا هوَ المعنى القديمُ للفضيلةِ لدى الإغريقِ، وقدْ تطوّرَ هذا المفهومُ معَ أفلاطون، فقالَ أنّ الفضيلةَ هيَ الخيّر، والخيّرُ هوَ كلُّ جميلٍ.
اعتقدَتْ شعوبُ اليونانِ إذنْ أنّ الحبّ هوَ جزءٌ منْ تركيبةِ وجودِها، وأنّهُ قدرٌ تحتّمَ عليهمْ بمشيئةِ الآلهةِ، وأنّهُ ضروريٌّ للارتقاءِ منْ حالةِ الانجذابِ نحوَ الجسدِ الجميلِ إلى حالةِ الذّوبانِ في الرّوحِ، أيِ الانتقالَ إلى حبِّ المطلقِ، أوِ الحكمةِ العليا، وهذا ما نجدُهُ في التّعريفِ الأفلاطونيّ للحبّ.
- رأيُ سقراط في الحبِّ: تعقيبٌ لسقراط على نهجِ ديوتيما للحبِّ.
روى سقراط في المأدبةِ ما تعلّمَهُ منْ ديوتيما في ضرورةِ الارتقاءِ منْ حبِّ الجماليّاتِ الأرضيّةِ إلى حبِّ الجماليّاتِ الرّوحيّةِ وصولًا إلى الحكمة الّتي توصلُ الإنسانَ إلى عِلمِ الجمالِ. اعتقدَ سُقراطْ أنّ للحبّ غايةً أولى وهيَ التّمتّعُ بالجميلِ، وأنّ العدلَ هوَ سبيلُ إقامةِ التّوازنِ بينَ الحالةِ اللّاعقلانيّةِ للحبّ، والّتي تظهرُ بمظهرِ الرّغبةِ العارمةِ بتملّكِ الحبيبِ والتّمتّعِ بهِ، وبينَ حالةِ التّعقّلِ في الحبّ، الّتي هيَ تحقيقٌ للذّةِ الحبيبيْنِ على حدّ السّواءِ في وجودِهما معًا بمفردِهما أوْ في المجتمعِ. فسقراط يرى أنّ الحبّ لا يخلو منْ أنانيّةٍ، ولكنّهُ يرى في جنونِ الحبِّ ما هوَ أسمى منْ شكلِ الحبِّ في تصوّرِهِ الأوّلِ، والّذي يتّسمُ بسرقةِ الحبيبِ لمحبوبِهِ منْ وسطِهِ كلِّهِ كيْ يحظى بهِ، لذا وجبَ أنْ ننتقلَ الآنَ إلى رأيِ أفلاطون الّذي يمكنُ أنْ يقدّمَ لنا فهمًا أكثرَ منهجيّةً منْ حوارِ سقراطَ الّذي لمْ يعطِنا فهمًا مستقرًّا عنِ الحبِّ.
- الحبُّ الأفلاطونيُّ: منْ حبِّ المادّةِ إلى حبِّ الحكمةِ.
رأى أفلاطونَ أنّ الحبّ لهُ مراحلُهُ، فهوَ يبدأ بانجذابِنا إلى المادّيّ، ولكنّ هذا الانجذابَ يجبُ ألّا يطولَ، إذْ ينبغي الارتقاء منهُ إلى حبِّ الجوهرِ الرّوحيّ الّذي يؤدّي في النّهايةِ بالمحبِّ إلى حبِّ المطلقِ. ويرتبطُ مشوارُ المحبِّ كما يصفُ أفلاطون بحبِّ ما هوَ جميلٌ، لأنّ كلَّ ما هوَ جميلٌ خليقٌ بأنْ يُحبّ، فيصبحُ الحبُّ في فلسفتِهِ طريقًا إلى عِلمِ الجماليّاتِ، وإدراكِ الجمالِ في كلّ الموجوداتِ، فنستنتجُ منْ كلامِهِ أنّهُ لا يرى في الحبّ ما يشبهُ تصوّرَنا عنِ الحبّ الرّومانسيّ الّذي يؤجّجُ الهُيامَ بينَ الحبيبيْنِ وصولًا إلى الجِنسِ الّذي هوَ التّعبيرُ الجسديُّ الأقصى في الحبّ، بلْ يرى أفلاطون، كما نفهمُ منْ وصفِهِ التّراتبيّ للحبّ أنّهُ الخلاصُ منْ حبّ المادّيّ أيِ الجسديّ في نهايةِ أولى مراحلِهِ. لذا يشبهُ الحبُّ الأفلاطونيُّ حالةَ الحبّ الصّوفيّ الّذي يصلُ بالمحبّ إلى حبّ الإلهِ والذّوبانِ في جمالِهِ اللّامتناهي.
- رأيُ أرِسطو: الحبُّ لا نهايةَ لهُ.
نقرأ في فلسفةِ أرِسطو تعريفًا آخرَ للحبّ. فأرِسطو رأى في الحبّ أسطورةً عصيّةً عنِ الفهمِ، ويعرّفُهُ بأنّهُ روحٌ واحدةٌ سكنتْ جسديْنِ مختلفيْنِ. ينطلقُ أرِسطو في فهمِهِ للحبّ منْ فهمِهِ للطّبيعةِ البشريّةِ، إذْ يرى أنّ الإنسانَ يريدُ بشكلٍ أوْ بآخر أنْ يخلدَ، فيخلّدُ الإنسانُ معَهُ أسمى مشاعرِهِ، وهوَ الحبّ. فإذنْ، الحبُّ في رأيِ أرِسطو هوَ أنْ لا ينتهي الحبّ، والحبُّ إذا انتهى فلمْ يكنْ حبّا. يشيرُ أرِسطو أيضًا إلى أنّ الحبّ لا يمكنُ أنْ يُفهمَ لأنّهُ ليسَ حالةً مطروحةً للجدالِ، بلْ قدَرًا يقعُ فيهِ الجميعُ. وكأنّهُ مماثلٌ للموتِ، فمثلما يعلمُ النّاسُ أنّهمْ سيموتون في النّهايةِ، فهمْ أيضًا يفهمونَ غريزيًّا، بأجسادِهم وعلاقةِ هذهِ الأجسادِ ببعضِها البعضِ، وِفقَ نظامِ الطّبيعةِ، أنّهمْ سيقعونَ في الحبّ الّذي سيجذبُ أجسادَهمْ إلى بعضِها في النّهايةِ. ويبدو واضحًا أنّ أرِسطو يعرّفُ الحبّ كدارسٍ للطّبيعةِ، وكاشفٍ لقوانينِها وغائيّاتِها أيضًا.
- نقدُ آراءِ الفلاسفةِ في الحبِّ:
ليسَ منَ السّهلِ أنْ يعلّقَ أيُّ دارسٍ للعلومِ الفلسفيّةِ على ما قالَهُ عظماءُ فلسفةِ اليونانِ الثّلاثة، ولكنّي سأحاولُ أنْ أعلّقَ بقدْرِ ما فهمتُ منهم وبقدْرِ ما يعني ليَ الحبُّ كباحثٍ عنِ الحقيقةِ. كانَ سقراطُ يبالغُ حينَ قالَ أنّ الحبّ طريقُنا إلى عِلمِ الجمالِ، إذْ كيفَ نحصرُ فهمَ الجماليّ بالحبّ، ولا ننتبهُ إلى أنّنا نلمسُ الجماليّ بتجربتِنا الفرديّةِ، ومشاهدتِنا للعالمِ. فهلْ أحتاجُ في سبيلِ الكشفِ عنْ جماليّاتِ العالمِ أنْ أقعَ في الحبِّ ثمّ أتدرّجَ فيهِ منْ حبّ المادّيّاتِ إلى حبّ المجرّداتِ أوِ الحكمة؟ وذاتُ الأمرِ ينطبقُ على وصفِ أفلاطون للحبّ، إذْ ما قيمةُ الحبِّ الّذي يجمعُ الرّجلَ والمرأةَ إذا كانَ الهدفُ منهُ فقطْ تجاوزَهما آخرَ الأمرِ للوقوعِ في حبّ الآلهة؟ إنّ ذاتَ هذا التّعليقِ يعرضُ لي في فهمي لما يدّعيهِ الصّوفيّون. ففكرةُ أنّنا نحبُّ لأجلِ أنْ نتركَ خلفَنا المحبوبَ، فيكونَ المحبوبُ بمثابةِ السّلّمِ إلى حبّ الله مثلًا، لا تتّفقُ وإرادةَ الحبّ نفسِهِ الّذي يستمدُّ بقاءَهُ منْ تلاقي الحبيبيْنِ معًا وملازمتِهما لبعضِهما البعض. وإنِ افترضْنا أنّ الحبّ الأرضيّ ناقصٌ، وأنّهُ مقدّمةٌ للحبّ الإلهيّ، أفلا تكونُ المشاعرُ الّتي نعيشُها في حبّنا الأرضيّ زائفةً، لأنّ هذهِ المشاعرَ، كما يرى أفلاطون، تركّزُ لا على وجودِنا المادّيّ معًا كمتحابّين، بلْ على ذلكَ العالمِ الخفيّ الّذي لا نراه؟ أفلا يكونُ افتراضُ زيفِ تلكَ المشاعرِ دليلًا على بطلانِ الحبِّ الأرضيّ في المقامِ الأوّلِ؟ وهنا أقولُ أنّ ما يُبنى على باطلٍ، فمنَ المستحيلِ أنْ يؤدّي نحوَ ارتقاءٍ إلى حالةٍ أقلّ بطلانًا. أمّا بالنّسبةِ لأرِسطو، فأجدُ رأيَهُ أقربَ إلى المنطقِ والفهمِ. فالحبُّ ينشأ بينَ جسديْنِ مادّييْنِ، فلا يمكنُنا أنْ نعزلَ أثرَ المادّةِ في توليدِ الحبّ، ولمّا كانَ فِكرُ أرِسطو طبيعيّا علميًّا، فإنّهُ يتّفقُ وفهمَنا لكيمياءِ الحبّ المرتبطةِ بالجسدِ. كما أنّ فهمَ أرِسطو للحبّ باعتبارِهِ روحًا في جسدٍ، يتوافقُ والفكرةَ الدّينيّةَ في الإسلامِ الّتي تقولُ أنّ الله خلقَ النّفسَ وجعلَ منها زوجَها، فنستنتجُ منَ التّعبيرِ القرآنيّ أنّ النّفسَ واحدةٌ تضمُّ الزّوجينِ، إذا أردْنا أنْ نضعَ مفهومَ النّفسِ في القرآنِ هنا موازيًا لمفهومِ الرّوحِ عندَ أرِسطو، في هذهِ الحالةِ منَ البحثِ على الأقلِ.
- الحبُّ: قدرٌ لا قرارٌ، وقوّةٌ إصلاحيّةٌ ضروريّةٌ.
إنّ الحبّ قدرٌ لا لأنّنا نقعُ فيهِ جميعًا منْ غيرِ أنْ تكونَ لنا الخيرةُ منْ أمرِنا، بلْ لأنّ كلّ ما هوَ مقدّرٌ، فهوَ منْ صالحِ الإنسان، وفيهِ للإنسانِ منَ النّفعِ ما لا استطاعةَ للإنسانِ على الاستغناءِ عنهُ. فقدرُ السّماءِ أنْ تمطرَ لأنّ الغيومَ لا تحملُ ما بخّرتهُ الشّمسُ إلى الأبدِ، ولأنّ الأرضَ لا تعيشُ بلا مطرٍ. وإذا ما فاضتِ الأنهرُ بفعلِ المطرِ المتزايدِ فهذا لا يعني أنّ المطرِ نِقمةٌ. إنّ الحبّ كالمطرِ فقدرُ السّماءِ الّتي تمثّلُ اللهَ هوَ أنْ تمطرَهُ، لأنّ البشرَ الّذين خُلقوا منَ الأرضِ لا يعيشونَ بلا الحبّ، أيْ بالمطرِ في هذا المِثالِ.
فالحبُّ يبني العالمَ وهوَ طاقةٌ بينَ الإلهيّ والأرضيّ. وإذا أسرفَ البشرُ في أنْ يعزلوا عقولَهمْ عنِ الحبّ أضرّوا بعضَهمُ البعض، وجرحوا قلوبَ بعضِهمْ تمامًا كما تفيضُ الأنهارُ لتغرقَ منازلَ السّاكنينَ على ضفافِها. إنّ الطّبيعةَ بشكلها المبهرِ هذا ترينا ذواتِ أنفسِنا منَ الدّاخلِ، ومنْ يفهمُ الطّبيعةَ يدركُ أنّها تشرحُ للإنسانِ ما في نفسِهِ هوَ، لا ما يختصُّ بمجرياتِها فقطْ. والحبُّ هوَ الفرصةُ الأخيرةُ لكلّ إنسانٍ لكيْ يصلحَ نفسَهُ، فالحبيبُ يحبُّ أنْ يعتني بحبيبيِهِ، ومنْ يحبُّ أنْ يحميَ حبيبَهُ يروّضُ نفسَهُ فلا يعودُ ذلكَ المخلوقَ المستهترَ المؤذي الّذي نعيشُ اليومَ في زمنٍ نرى منهُ الكثيرَ حولَنا، في عالمٍ يتعرّضُ فيهِ الحبُّ لهجمةٍ عنيفةٍ تكادُ أنْ تنكرَ أنّهُ شعورٌ حقيقيٌّ ربّانيٌّ. وعندما نتأمّلُ في كلامِ الجاحظِ، نفهمُ أنّ الحبّ عقلانيٌّ، لأنّهُ لا يعترفُ بالحواجزِ الّتي خلقَها النّاسُ بينهمْ منْ فروقاتٍ في الدّينِ والعِرقِ والتّفكيرِ. ومثلما تمطرُ السّماءُ على الجميعِ منْ دونِ استثناءٍ، كذلكَ الحبُّ يلهمنا جميعًا، ولا يعترفُ بنا إلّا بشرًا نشبهُ بعضَنا البعض. حينما نفهمُ هذهِ النّقطةَ، سنفهمُ كيفَ نلغي الحواجزَ الّتي بنيناها بينَ بعضِنا البعضِ، وحينها فقطْ، سنكتشفُ معًا لغزَ الحبّ.
*