أدب وفن

على الرصيف …/قصة قصيرة / بقلم ملاك ناصر رزق

على الرصيف

-مرحبا! هذه خمسة آلاف ليرة، أريد بها ربطة خبز وكيس بزر وعلبة رأس العبد.
ابتسم العم طلال لهذا الطفل الصغير، الذي يحمل ورقة النقود وكأنه يحضن أطفاله.
-خذ!
-شكرا
-اهلا!
عاد الفتى الصغير إلى المنزل قرابة الثانية والنصف ظهرا، لم يتوقع عودة أبيه البخيل في مثل هذا الوقت. تفاجأ بوجود حذاءه أمام الباب الذي طالما تمنى أن يكون هذا الحذاء مصدر أمن وليس مقتا… إحمر وجه داني وتعالت زفراته، فلم يجد وسيلة أفضل من المزهرية لتخبئة علبة رأس العبد خلفها. لكنه نسي أن يطفئ النار المشتعلة على خديه الرقيقتان. طرق الباب وهو يذكر البسملة خائفا على عظام أمه الضعيفة التي لم تلتحم بعد منذ آخر مشكلة وقعت، حينما أراد زوجها اسكاتها فاختار العصا عقابا لها.
فتح الباب رجل سمين، كرشه يتدلى ،مرتديا قميصا مهترئا وعلامات الشحم تغطّيه. “هل أحضرت الخبز؟”
“نعم والدي، هذا الخبز وهذا كيس بزر أحببت أن اشتريه لك.”
حملق الأب في وجه طفله وصرخ “من طلب منك ذلك واين بقية المال؟” حاول داني تعلم الكذب من والده، لكنه فشل في ذلك، فأمه دائما تسعى لجعله حسن الخلق. انزل رأسه محاولا الإجابة، لكن سرعان ما كان الكف قد لامس جلده اللطيف فاسقطه أرضا.
-قليل الادب والمربى، الحق ليس عليك بل على امك البلهاء، التي ادعو ربي ليلا نهارا أن يأخذها، لارتاح. كان يتكلم بصوت الأفعى السامة، فحيح جمّد مصادر السعادة في المنزل.
دخل وسام المطبخ يحك شعره تارة ويتفتف البزر تارة أخرى، ثم ألقى برِجله اليسرى على الكرسي. وقف داني الصغير ذو الشعر البنيّ الجميل موجوعا، ليس بسبب الكف السام، فقد تعود عليه! بل بسبب يتمه، ثم دخل غرفته المتواضعة يطبطب على نفسه محاولا أن لا يبكي حتى لا يسمع بكاءه ذاك الأب، فيوقظ زوجته يعنفها على خلفتها الساقطة. انتصب مرة أخرى ينظر في المرآة، وضع يده على خده الأحمر، يحدثها بصمت، ويسألها كيف يغطي آثار الصفعة من رفاقه في المدرسة غدا. لم تجبه. لكنه لم يعلم أنها تبكي بحرقة على طفولته الضائعة. فتح باب الغرفة متوجها نحو أمه، تفقد المكان فلم ير وجه والده، بل رِجلا يكسوها شعر القرود على الكرسي. توجه إليها يتأمل ملامحها الرمادية الشاحبة، لامس جبينها، قبلها، ثم انزل يده إلى عينيها، يُسعف حزنها ولوعتها. استفاقت من نومها وغمرته في حضنها الدافئ بين ذراعيها. “امي، لقد اشتريت لك رأس العبد” خبرها بصوت شبه مسموع، خوفا من الغول الذي يركن في الخارج. وضعت سبابتها على شفتيها كي يبقى سرهما داخل الغرفة، ثم قالت “أين وضعته، ومن أين لك المال؟” “لا تخافي لقد ركنته وراء مزهرية باب المدخل، لن يلتفت له والدي. ثم ضحك وآوى صدره على صدرها.
-امي
-نعم
-كم عمري اليوم؟
-لما هذا السؤال؟
نظر إليها بعمق، يريد جوابا سريعا” كم عمري يا أمي؟ “
-سبع سنوات وخمس شهور وعشر أيام!
-إذا متى سأكبر؟ لاحميك من والدي ونذهب بعيدا.
اغرورقت عيناها، وحضنته في أحشائها “ليتني استطيع كسر أضلعي واسجنك داخلها” شعرت كما لو أن سكينا حاميا قد حز وريدها، نشّف ريقها كلامه! احتارت بين أن تفرح أو تخاف.
” لا تخف ستكبر وتكون كما تحب واتمنى، لكن عدني أن تبقى داني طفلي المحترم الخلوق.
” أعدك امي”
في صباح اليوم التالي، استيقظ داني قبل الجميع قاصدا باب المدخل، ماشيا على رؤوس أصابعه كي لا يسمعه والده، وإذا بالباب مقفل والمفاتيح ليست موجودة، فما كان عليه سوى الانتظار. نظر إلى المرآة التي تعتلي الحائط ليتفحص خده، الحمدلله لا يوجد أثر للضربة اللعينة. هذه السعادة بحد ذاتها لداني، يوما من دون ضرب أو ضربة بدون علامة. فتح البراد، وأخرج علبه لبنة وبقايا خبز من ليلة الأمس، حضر عروستين، تناول واحدة واحتفظ بالاخرى لأمه. تقدمت سمية إلى الداخل فوجدت طفلها يجلس على الكنبة منتظرا بشوق. ابتسمت له وغمزته، بينما هو ظل جالسا يراقب حركات الأعداء. هاهو وسام يرتدي القميص نفسه الملوث بالشحم.
-صباح الخير والدي
-صباح الخير
حس داني بالطمأنينة، فرد السلام من والده في مثل هذه الساعة، يعني انه بخير جدا. لم يتوقف عن متابعة خطواته، ففي كل مرة يهم بالرحيل يعود لتناول بعض الطعام المخصص له على الرف العلوي في المطبخ. اخيرا ابتعد عن ناظريه، فهرول داني فرحا بالهداية، عرج بعلبة الحلوى نحو امه وفتحها، ناولها اول حبة ووضع الثانية في فمه. تعالت ضحكاتهم المنزل.
“لا تنسي أن تحرقي العلبة داخل المرحاض، كي لا يرى والدي آثار الجريمة في القمامة.”
“حاضر لا تخف”
“الى اللقاء”
“الى اللقاء”
رجع وسام باكرا جدا، كان الغضب يثور في عروقه، فقد حدثت مشكلة في الكراج مع احد الزبائن، ولم يستطع أن ينال منهم، فقرر النيل من زوجته، يصب الغضب على جلدها الهزيل. أقبل إلى المبنى يعتلي الأدراج بعينين دمويتين، يثرثر ويرمي السباب. انقض على الباب بعنف، لم يدخل وسام حينها، بل بقى في الكراج، ذلك الذي هجم على زوجته لم يكن سوى شيطان رجيم. في ذلك اليوم الأليم قررت سمية طهي الملوخية، كانت تجلس على الأرض، تدق الثوم وتعصر الحامض، وما إن رفعت رأسها حتى انهالت عليها يد حديدية اقتلعت اسنانها. بات المطبخ ضبابي، خافت، خانها نظرها يومها، لا أضواء ولا ثوم ولا حتى حامض. حاولت أن تسأل ماذا يجري؟ لكن غشتها حواسها، فالضربات لم تتوقف، كانت تهطل بغزارة على أنحاء جسدها حتى تشيعت الالوان.
هنيئا لك، شكرا لذكوريتك فلقد اعدمتها !
“سحق امومتها!”
عاد داني من المدرسة حاملا علامة الفصل الأول، كان من المتميزين، فهو أعطى وعدا لأمه بأن يبقى رافعا رأسها طيلة حياتها. اعتلى اول درج، لكنه لم يكن صامتا ذلك النهار، كل الأصوات صاخبة جدا، إلى الرصيف! هرول ليرى ماذا يحدث، جريمتان في آن واحد، امرأة تسبح بدمها على الأرض، وطفل يرى أمه ملطخة بدمائها، ورائحة الثوم تعبث في الهواء.
لأول مرة لم يكن جبانا، لأول مرة لم يسقط داني على الأرض، تقدم نحوها حاملا شهادة موته. وضع يده على جبين أمه النائمة ثم انزلها إلى عينيها، لكنه اليوم لم يطبطب عليها، فلقد غفت. كان يطبطب على نفسه المسكينة. نظر إلى الجميع نظرة الأسئلة الكثيرة، لكن لا أحد يملك جوابا سوى الرجل الراكع على الأرض في زاوية غرفة الجلوس.
“ابي قاتل امي”
“يا لسعادتي!”
خرج من الشقة راكضا مستنكرا القدر، الكل ينده له لكنه لم يشأ أن يسمع احد، يريد امه! ذهب للبحث عنها، عن سترة النجاة. هرول قاطعا مسافات الأمان حتى ابتلعته سيارة فسقط للمرة الأخيرة.

النهاية.

“ليست كل النهايات سعيدة”
ملاك ناصر رزق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى