شخصية الشهر في” المركز الثقافي الإسلامي” :معالي الأستاذ المحامي إدمون رزق
شخصيَّة الشَّهر
معالي الأستاذ المحامي إدمون رزق
إعداد: الدكتور وجيه فانوس
تمتدُ صداقةُ معالي الأستاذ “إدمون رِزق”، مع أهلِ “المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ”، إلى عراقةِ عقودٍ من العُمْرِ، تشهدُ للأستاذ “رِزق” بأصالةِ الانتماءِ إلى الفِكْرِ الحضاريِّ السَّامي للوجودِ اللُّبنانيِّ. إنَّهُ هذا الوجودُ المُدركُ لأساسيَّةِ التزامِ لبنان، شعباً ومَوْقِعاً، بالانفتاحِ الطَّبيعِيِّ والعمليِّ، على العُمقينِ العربيِّ والإسلاميِّ في وجودِهِ وفاعِلِيَّتِيهِ الوطَنِيَّةِ والثَّقافيَّةِ. ولذا، فلا يمكن، لكلِّ مَن يَسعى إلى نَظَرٍ مُعَمَّقٍ في التَّاريخ الثَّقافيِّ والوَطَنيِّ للبنان، منذُ خمسيناتِ القرنِ العِشْرينِ وإلى اليَوْمِ، إلاَّ أنْ يتوقَّفَ مَلِيَّاً، وبِشَغَفٍ أخَّاذٍ، عِنْدَ الحُضورِ الشَّخصيِّ والوطَنيِّ للأستاذ “إدمون رِزق”؛ وكأنَّ الثَّقافةَ والوطنيَّةَ في لبنان، في هذه الحقبةِ من الزَّمنِ، لا تَكتملُ حقيقةُ الوجودِ الثَّقافيِّ والوطنيِّ فيها، مِن دونِ ما ارتكازٍ أَساسٍ على فاعليَّةِ عَيْشٍ فذِّ لـ”إدمون رِزق” في هذا “اللُّبنان”.
وُلِدَ “إدمون رِزق”، يوم الأربعاء 11 آذار (مارس) سنة 1934، في بَلْدَةِ “جِزِّين”، في الجنوبِ اللُّبنانيِّ؛ وعاشَ في كَنَفِ أسرةٍ، نهضَ بأعبائِها والدهُ “أمين رزق”، (1890-1983)؛ الذي حملَ لواءَ ثقافةٍ شديدةِ الغِنى بعربيَّتِها، ومزدهيةٍ بجوهرِ وطنيَّةٍ باذخةِ الحضورِ بإنسانيَّةِ أهدافِها. لقد كانَ “أمين رِزق”، إنسانَ آدابِ ووطنِيَّةٍ، فخصَّ حياتَهُ بالشِّعرِ والصَّحافةِ؛ فاشتُهِر، في سِنِيِّ عطائِهِ الفِكريِّ وبين ناسِه، رئيساً لِتحريرِ صَحِيَفتي “الحَديثِ” و«الرُّوَّادِ”. ويبدو أنَّ “إدمون رِزق” ورثَ عن أبيهِ المعطاء، الشَّغَفَ بالذُّرى السَّامقةِ للأدبِ والغوصَ المُجَلِّي في عباب السَّعيِّ الوَطَنِيِّ. إِعْتَمَدَ “إدمون رِزق” من الآداب والوطنِيَّةِ بصمةَ حضورِهِ الإنسانيِّ؛ فبات العُمْرَ، بين ناسِهِ وسائرِ خلقِ اللهِ، وهو لا يُعرِّفُ عن نَفْسهِ سوى بأنَّه “لُبنانيٌّ بكليَّتِهِ”؛ مُعتبراً أنَّ “اللُّبنانيَّةَ” تَتَضمَّنُ الإنسانيَّةَ في أبهى مظاهِرِها”؛ وبأنَّهُ “عربيٌّ أصيلٌ” في العروبَةِ، وليسَ طارئاً عليها وعلى مفاهيمِها وقِيَمِها ومبادئِ وجودها الحضاريِّ. ولعلَّ في هذا التَّوجُّهِ الأساسِ، عندَ “إدمون رِزق”، ما يُبيِّن لُبَابَ الجَوْهرِ الذي ما انفكَّ يَجْمَعُهُ بـ”المركز الثقافيِّ الإسلاميِّ”؛ والمُتجلِّي، في ما يُفْصِحُ عنه الأستاذ “إدمون” بِقَوْلِهِ، في مجالِسِهِ الخاصَّةِ كما العامَّةِ، عن عائلَتِهِ بانَّها “لُبنانيّةٌ ومارونيّةُ وذاتُ هوىً عربيّ وقُربى إسلاميّة”.
يُمَثِّلُ “إدمون رِزق” في مراحِل تحصيلِهِ المدرسيِّ، أنموذجاً فَذَّاً للتَّفاعُلِ الثَّقافيِّ لبيئةٍ اجتماعِيَّةٍ مسيحيَّةٍ مارونِيَّةٍ، على واقِعٍ اجتماعيٍّ ثقافِيٍّ يتعانقُ وجودُهُ الإنسانيُّ، في مدارسِ الجنوبِ اللُّبنانيِّ كما في معاهدِ العاصمةِ “بيروت”، بينَ ضفَّتي سخاءِ المَسيحيَّةِ وسماحَةِ الإسلامِ. لقد حَصَّلَ “إدمون رِزق” دروسَهُ في المرحلتينِ الدِّراسيتينِ “الابتدائيَّةِ” و”المتوسِّطةِ”، في “مدرسة سيِّدة مَشْمُوشَة”، في منطقةِ مولِدِهِ “جِزِّين”؛ أمَّا تحصيلُهُ المَدرسيُّ للمرحلةِ “الثَّانويَّةِ”، فكان في “بيروت”، وتحديداً في “مدرسة الحِكمَةِ”؛ ثمَّ كان لهُ أنْ يلتحقَ، فيما بعد، لِدراسةِ “الحُقوقِ” بـ”جامعةِ القدِّيس يُوسف”، التي تخرَّجَ فيها مجازاً يسعى إلى المرافعةِ أمام منصَّات القضاء، للدِّفاع عن حقوقِ النَّاس، كلِّ النَّاس.
انْشَغَلَ “إدمون رِزق”، منذ تخرُّجِهِ في الجامعةِ، برسالتي “المحاماة” و”التَّعليم”، على حدِّ سواء؛ فتدرَّجَ، منذ سنة 1958، في مكتب الأستاذ النَّائب “شفيق ناصيف”، كما مارسَ تدريسَ اللُّغةِ العربيَّةِ والأدبِ العربيِّ في عدد من المعاهدِ الكبرى؛ ومنها “مدرسة الحِكمة” و”المدرسة الأهليَّة للبنات”، في “بيروت”، وكذلكَ في “المعهد الأنطوني”، في بلدة “بعبدا”، و”المعهد اللُبناني”، في بلدة “بيت شَباب”.
لم تقفْ نشاطاتُ “إدموم رِزق” عندَ هذا الحدِّ، على الإطلاقِ؛ إذ، فضلاً عن انغماسِهِ في شؤونِ المحاماة والمرافعاتِ القانونيَّة والسَّعيِّ في ركابِ العدالةِ نصرةً للحقِّ وإبعاداً للظُّلمِ، فإنَّهُ نشطَ في مجالاتِ الصَّحافةِ وهمومِ الشَّأن الوطنيِّ العام؛ فكتب في كبرياتِ الجرائدِ والمجلاَّت، في تلك المرحلةِ، مثل “الرُّوَّاد” و”نداء الوطن” و”السِّياسة” و و”الأنوار” و”العمل” و”النَّهار” و”اللِّواء” و”البَيْرق” و”الحوادث” و”المَسيرة”؛ كما عمل مُعلّقاً سِياسيَّاً في “إذاعةِ لبنان” و”تلفزيون لبنان”، وحصلَ على عضويَّة “نقابة المحرِّرين”.
إنمازت الفاعليَّةُ الوطنِيَّةُ والسِّياسيَّةُ لـ”إدمون رِزق”، منذ يناعةِ صِباه، وما بَرِحَت، بحركِيَّةِ المبادرَةِ الهادِفَةِ وأساسيَّةِ التَّمَسُّكِ بالمبادئِ التي يؤمِنُ بها صاحيها ويسعى في سُبُلِ تحقيقِها. فلقد انْتَسَبَ “إدمون رِزق”، سنة 1945، يومَ كانَ في الحاديةِ عشرةَ مِن سِنِي عُمْرهِ، إلى “فرقةِ الأحداثِ”؛ النَّاشطةُ، عَهْدَذَاك، مُنَظمةً شبابيَّةً، ضمنَ حزبِ “الكتائبِ اللُّبنانيَّة”. وكانَ لهُ أن يتولَّى، سنة 1960، يومَ صارَ في السَّادسةِ والعشرين مِن سِنِي العمرِ، رئاسَةَ “إقليمِ جِزِّين”، في هذا الحِزب، ثمَّ رئاسةَ “مجلسِ أقاليمِ الجنوبِ” فيهِ؛ وجرى انتخابُهُ، سنة 1961، عضواً في “المكتبِ السِّياسيِّ”. وقد حصَلَت، تالِياً، تَسْمِيةُ “إدمون رِزق”، ليكون مع رفيقه الحزبيِّ “جُوزف شادِر”، مُمَثلَيْنِ لـحزبِ “الكتائبِ اللُّبنانيَّةِ” في لجنةِ متابعةٍ وتنسيقٍ، مهمَّتها صياغةُ برنامجٍ مشتركٍ يجمعُ “حزبَ الكتائبِ اللبنانيَّةِ” مع “حِزبِ الوطنيين الأحرار” و”حِزبِ الكتلةِ الوطنيَّةِ”، بما كانَ يُعرفُ بـ”الحِلفِ الثُّلاثي”، ومجموعاتٍ مِنَ المستقلّين، استعداداً لخوضِ الانتخاباتِ النِّيابيَّة لدورةِ سنة 1968. وحدثَ، أنَّ “إدمون رِزق”، وكان، آنئذٍ، في الرَّابعةِ والثَّلاثين مِن العُمرِ، هوَ أحدُ مرشَّحي “الحِلفِ الثُّلاثيِّ”، الفائزينَ في تلكَ الانتخاباتِ. وصارَ المحامي الأستاذ “إدمون رِزق”، تالياً، أوَّلَ كتائبيٍّ، مِن “دائرة جِزِّين”، يَنجحُ في الحصولِ على عضويَّةِ “المجلسِ النِّيابيِّ اللُّبناني”. ظلَّ “رزق” ينشطُ، سياسيَّاً ونيابِيَّاً، ضمنَ “كُتلةِ الكتائبِ النِّيابيَّة”، إلى حينِ مغادرتِهِ، وهوَ في الخَمسين مِن سِنِيِّ العُمرِ، “حزبَ الكتائبِ اللُّبنانِيَّةِ”، سنة 1984، بُعيدَ وفاةِ مؤسِّسِ الحِزب، الشَّيخ “بيار الجميّل”. وقد جرى تعيين الأستاذ “إدمون رِزق”، خلال وجوده في “الكتائب” وبعد خروجه منها، وزيراً لعِدَّة مرَّات؛ من بينها وزيراً للتَّربية الوطنيَّة والفنون الجميلة، سنة 1973، في حكومتي الرئيسِ الدكتور “أمين الحافِظ” والرَّئيس “تقي الدِّين الصُّلح”، ووزيراً للعدلِ، والإعلام، في سنة 1989، في حكومةِ الرَّئيس الدكتور “سليم الحُص”.
ابتعد “إدمون رِزق”، منذ سنة 1992، عن المشاركةِ في الانتخاباتِ النِّيابيَّةِ؛ وكان قد تسنَّى له، بصفتهِ عضواً في “لجنةِ صِياغةِ وثيقةِ الوِفاقِ الوطنيِّ”، أن يقومَ بنشاطٍ أساسٍ في وضعِ وثيقةِ “اتِّفاقِ الطَّائف”؛ وهو يُعتبر، تالياً، أحدَ أبرز مرجعيَّاتِ الدُّستورِ اللُّبناني، المنبثِقُ عن هذا الاتِّفاق.
عُرِفَ الأستاذ “إدمون رِزق” ببلاغتِهِ اللُّغويَّةِ العربيَّةِ ومقدرتِهِ الخطابيَّةِ الفذَّةِ؛ وكما اشْتُهِرَ بكتاباتِهِ السِّياسيَّةِ، فإنَّهُ بَرَزَ واحداً مِن كِبارِ أهلِ العطاءِ الأدبيِّ ومُبدعي جماليَّاتِهِ. وللأديبِ الأستاذ “إدمون رِزق” مجموعةٌ مِنَ المؤلَّفاتِ الأدبيَّةِ والسِّياسيَّةِ؛ مِنها “رَنينُ الفَرَحِ- 1958، و”آراءٌ ودِماء”-1971، و”الاثنا عشريّة”، وهي المجموعةُ الأولى مِن أعمالِهِ الكاملة، وتضمُّ “في سبيلِ لُبنان” و”شهادةٌ في زمنِ الصَّمت”، و”آراءٌ ودماءٌ” (طبعة ثانية) و”العلاقةُ السُّوريّةُ” و”مشاركةٌ في الإسلامِ” (وهي مختاراتٌ مِن خُطبٍ لهُ على منابرِ المساجدِ والحُسينيّات، ومقالات في مناسباتٍ إسلاميّةٍ) و”في كَنَفِ المسيحِ” و”رنينُ الفَرَحِ” (طبعة ثانية) و”حُبابُ الماءِ” ونشيدُ الغُربةِ” و”أيَّامُ التَّرفِ” و”في اذّكارِهِم” و”المِلْقَطُ” 1966.
لم يتركْ معالي الأستاذ “إدمون رِزق” مناسبةً إسلاميَّةً أو وطنيَّةً، تُقامُ في رِحابِ “المركزِ الثقافيِّ الإسلاميِّ”، إلاَّ وهوَ على رأسِ حضَّارِها، إنْ لَمْ يَكُن مِن بينِ أبرز المُتكلِّمينَ فيها والمُجلِّينَ في خَوْضِ غِمارِها. ولَمْ يَقِفْ معالي الأستاذ “إدمون رِزق” على منبرِ “المَرْكَزِ الثَّقافيِّ الإِسلامِيِّ”، أو سواهُ، حتَّى وإن كانَ ثمَّةَ اختلافاتٌ في الرُّؤى السِّياسيَّةِ لهُ مع بعضِ سامعيهِ، إلاَّ ليكونَ داعيةَ وحدةٍ وطنيَّةٍ لبنانيَّةٍ، تقوم على وعيٍّ مسؤولٍ لأساسيَّةِ التَّلاقي العُضويِّ والدِّيمقراطيِّ والحضاريِّ الفاعِلِ لجميعِ اللُّبنانيينَ فيما بَينهم، وأيَّاً كانت معتقداتهم الدِّينيَّة.
تحيَّةَ مَحَبَّةٍ وتَقدِيرٍ مِنَ “المركز الثَقافيِّ الإسلاميِّ.