أدب وفن

أسطورة الغصن الذهبي ملهم الشعراء(الجزء الأول)

أسطورة الغصن الذهبي ملهم الشعراء(الجزء الأول)

د. محمد حسين بزي

لا يزال كتاب “الغصن الذهبي” الموسوعي لمؤلفه “جيمس فريزر” الذي ولد في غلاسكو أسكوتلندا عام 1854م. يعد من أهم الكتب التي تم تأليفها في مجال الميثولوجيا وعلم مقارنة الأديان، حيث تعرّض “فريزر” في هذه الموسوعة الهائلة إلى العديد من التميمات الميثولوجيا المعروفة في الأديان والمعتقدات المختلفة في تاريخ البشر، وقام بوضعها في إطار مقارن موضحًا مدى التشابه، وربّما التطابق بين ممارسات هذه المعتقدات القديمة البدائية وطقوس الديانات الحديثة، وقد أدى ذلك إلى موجة من الغضب العارم في الأوساط المسيحية المحافظة عند صدور كتابه لأوّل مرّة ممّا أجبره على حذف كلّ ما هو معاديًا للمسيحية من كتابه في الطبعات اللاحقة.

وكنتُ قد اعتمدتُ في بداية قراءتي وتلخيصي لهذا الموضوع الهام على نسخة أدونيس أو تموز (دراسة في الأساطير والأديان الشرقية القديمة)، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الصادرة عن المؤسـسـة العربـيـة للدراسات والنشــر – بيروت، الطبعة الثالثة 1982م والتي اعتمد فيها المترجم على نسخة The Golden Bough الصادرة عام 1914م. مع أنّ الطبعة الأولى للكتاب كانت صدرت عام 1900م. وترجمته كانت للجزء الأوّل من المجلد الرابع والتي بعنوان “أدونيس، آتيس، أوزيرس” فقط، وكان “جبرا” قد ترجمها للعربية عام 1945م. ونشرها في بيروت لأوّل مرة عام 1956م. في 188 صفحة من القطع المتوسط كما يذكر في مقدمته. لكن في العام 2014 قامت دار “الفرقد” السورية بنشر النص الكامل لكتاب “الغصن الذهبي” (دراسة في السحر والدين) في 910 صفحات من القطع الكبير بترجمة نايف الخوص بحلة قشيبة، ممّا اضطرني لإعادة المقابلة والتدقيق بين النصّين المترجمين عن الأصل الإنكليزي، ولم يكن هذا بالأمر اليسير نظرًا لكثرة المشاغل وضيق الوقت.

عود على بدء لـ فريزر، فرغم انتقادات العديد من علماء الأنثروبولوجيا لبعض جوانب ما جاء به “فريزر” في كتابه، وبرغم أنّ علم الأنثروبولوجيا التطوّري الذي يعد “فريزر” من رواده قد عفى عليه الزمن، وثبت عدم صحة افتراضاته منذ فترة طويلة، فإنّ هذا الكتاب الموسوعي لم يفقد أهميته قط، وذلك لغزارة المادة التي جمعت فيه، ويكفي أن نذكر أنّ “الغصن الذهبي” قد كان من أهم المؤثرين على أحد أكبر علماء الميثولوجيا في التاريخ وهو “جوزيف كامبل” صاحب كتاب “البطل بألف وجه” الذي تأثّر تأثّرًا كبيرًا في نظرياته الهامة بكتابات “فريزر”، كذلك ساهم كتاب “الغصن الذهبي” في محو الصورة السيئة التي رسمتها المسيحية عبر القرون عن الديانات الوثنية القديمة.

وقد اعتبره “فرويد” عملًا غنيًا جدًا بما يحتويه من معلومات تفيد في تطوير نظرياته في التحليل النفسي.

وأيضًا تأثر به الكثير من الفنانين والأدباء، منهم: “جيمس جويس”، “إليوت”، و”ماري رينو” وغيرهم.

“فريزر” الذي كان تعلّم اللاتينية والإغريقية في سن مبكرة، وتابع التخصّص في آدابهما في جامعة “كمبردج”، كان باشر أيضًا في ترجمة قصص وتعليقات الرحالة الإغريقي “بايسانياس”. إضافة إلى مؤلفات أخرى.

والفيزياء التي درسها “فريزر” في جامعة “غلاسكو” لم تمنعه من دراسة المحاماة بناءً على رغبة والده، لكن سرعان ما التحق بجامعة “كمبردج” لينغمس في دراسة الأساطير والأديان القديمة، حيث بدأ عمله الموسوعي “الغصن الذهبي” في النصف الثاني من القرن الثامن عشر متكئًا على لغز مقتل “ملك الغابات” أو الكاهن الملك الذي كان يعبد الإلهة ديانا. ولغز “الغصن الذهبي”، الذي كان لا بدّ للملك المقبل أن يسرقه عن الشجرة المقدسة حتى يثبّت ملكه.

وكأن هذين اللغزين كانا بمثابة الحجّة والذريعة ليبحث “فريزر” في سرّ الطقوس السحرية التي كان يمارسها البدائيون.

ثم تأتي أسطورة النار التي استقاها “فريزر” من “الأساطير الإسكندنافية”، والتي بها ينهي “فريزر” قصّة “الغصن الذهبي”، وهي أسطورة تدور حول “بالدر العظيم Balder le Magnifique .

وهنا، استطاع “فريزر” أن يفسّر لغزي “الغصن الذهبي” و”موت الكاهن / الإله” و”أسطورة النار”، وهي الأساطير التي راحت تنتقل من جيل إلى جيل مرتبطة بانتقال الطبيعة من دورة إلى دورة، ومن عقم إلى خصب، ومن موت إلى حياة.

وقد أقام “فريزر” أسطورة النار على المطابقة السببية بين النار التي تشبه الشمس، والغيوم التي تشبه الدخان، حيث الشبيه يستدعي شبيهه. وخوفًا من هذه الاستدعاءات حُرِّم على الكاهن / الملك ملامسة الأرض أو التراب، لأنّ التراب يتحلّل ويتفكّك إلى ذراته، ولو أنّ الكاهن / الملك لامسه لتحلّل بدوره وتفكّك، لذا فإنّه انطلاقًا من فراعنة مصر ووصولًا إلى أباطرة اليابان، كان للكهنة / الملوك أن يُحملوا على أكتاف خدامهم، أو أن يُبسط السجاد تحت اقدامهم.

ولربّما جاءت عظمة “الغصن الذهبي” من تكريس “فريزر” مجلداته الاثني عشر “لرموز السلطة وقدسياتها”، وهي رموز لا تزال تستبد حتى الآن، لأنّ الكاهن / الملك لا يزال ينعكس بوجوهه المتعددة على وجوهنا، وفي خصبنا وعقمنا سواء الفكري منه أو الديني أو السياسي.

“جيمس فريزر” الذي أصيب بالعمى وتابع أبحاثه لسنوات عدّة في جامعة “كامبردج” من خلال مساعدة طلابه ومعاونيه وعلى رأسهم زوجته “ليلي”، كان توفي عام 1941م. عن عمر ناهز سبعة وثمانين عامًا، وماتت زوجته بعده بعدة ساعات بواقعة تشبه الأساطير التي درسها، وليدفنا معًا جنبًا إلى جنب في مقبرة “القديس جيل” في “كامبردج”.. وبعد قرنين من الزمن، فإنّ كتابه “الغصن الذهبي” يكاد يقارب الأسطورة بذاته، لأنه لا يزال يلهم الشعراء في الشرق والغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى