أدب وفن

سِلْسِلَةُ خَواطِر في النَّقد (الحلقة الثَّالثة)… الشِّعْرِيِّ

الدكتور وجيه فانوس

(دكتوراه في النَّقد من جامعة أكسفورد)

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

تباينٌ شاسِعٌ  بَيْنَ”الشِّعر” و”الشِّعري”.

“الشِّعرُ”، أن ينظم الكلام في قصيدة أو نصٍّ أدبيٍّ معيَّن؛ أمَّا “الشِّعرِيُّ”، فهو، بدايةً، في هذه الطَّاقة الكامنة في النَّصِّ والقادرة على توصيله إلى الآخر أو ما يمكن تسميته “المُسْتَقْبِل”؛ وهو، تالِياً، في قدرة هذا الآخر، أو “المُسْتَقْبِل”، على التَّفاعل مع هذا النَّصِّ والاستجابةِ لنداءِ تلك الطَّاقةِ الكامنة فيه. فإذا كان الشِّعر، كتابةَ نَظْمٍ كلامِيٍّ أو كان تأليف نَصٍّ أدبيٍّ مُعَيَّنٍ؛ فإن الشِّعرِيَّ، هو في تَحَقُّقِ هذا النَّصِّ من خلال الأخر،وتحديداً عَبْرَ مَنْ يَسْتَقْبِل النَّصّ. وما لم يتحوَّل الشِّعرُ إلى شِعْرِيٍّ، أي ما لم يتحوَّل الوَرَقُ والحِبْرُ أو الصَّوتُ، إلى فِعْلِ حياةٍ، فالقضيَّة تبقى مثلَ الفرقِ بين الوجودِ بالفِعل والوجودِ بالقوَّة.

الفِعْلُ الشِّعريُّ، شاعر وقارئ، أو بالأحرى، مُرْسِلٌ ومُسْتَقْبِلٌ؛ ولا بدَّ مِن وجودِ الاثنين معاً. ولمزيدٍ من الوضوحِ، لا بدَّ مِن تحقیقِ وجودٍ فِعلِيٍّ مشتَرَكٍ لِهَذينِ الاثْنَيْنِ، يكونُ القاسم المُشْتَرَكُ فيه النَّصُّ؛ وإلَّا عُدَّ، ما قد يُظَنُّ أنَّه في الحديث العادي شعرٌ، ليس سوى عبثٌ وبعضُ ضروبِ التَّهويم العاطفيِّ أو الفكريِّ؛ بل ولعلَّه، في هذا المجال، عُقمٌ في أروعِ صُوَرِهِ وأقْساها. وإذا ما فُهِمَ الشِّعرُ مِن هذه الزَّاوية؛ فإنَّ اسْتِقْبال الشِّعر، أو قراءته، لا بدَّ لها، أيضاً، مِن أنْ تكونَ ضمن الشِّعري!

شِعْرِيَّةٌ سَّابحٍ في شَفَقِ الغروب

لا بدَّ لمُسْتَقْبِلِ الشعر من أن يعيشَ استقبالاً، أو يقدِّمَ قراءةً،ضمن انميازٍ نوعيٍّ عن مفاهيمِ الفِكرَةِالتَّقليديَّةِ أو العاديَّة للأمرِ الذي ينبثق منه النَّصُّ؛ استقبالاً، أو قراءةً، تَنْزاحُ عن فكِّ رموزِ الحروفِ وما لكلماتِ المعاجِمِ من معانٍ قد تُسْعِفُ على فهمها، أوما يمكن اعتباره من معارف متوارثة تقع في باب ما يمكن تسميته بــ”المُنْجِدِ في الشِّعر”. على المرء، ههنا، أن يتجاوز لعبةَ استرجاعِ الذَّاكرةِ للزَّاد التَّقليدي أو المُسْبَقِ، في استقبالِ المعلومات، أو قرائتها؛ وأن يتجاوز “لعبة” الانبهار أمام الاكتشاف الطُّفوليِّ السَّاذج للُّعب البلاغيَّة الخشبيَّة مِن “استعارة”و”تشبيه”و”مجاز” و”كناية”، وبهلوانيَّاتِ “التَّقديم والتَّأخير”. كلُّ هذا ليس مِن استقبالِ الشِّعر، أو قراءته؛ بل هو فَكُّ رموزٍ، على أسلوبٍ آليٍّ.

الشِّعرُ حياةٌ، واستقبالهُ، أو قراءته، لا بدَّ لها مِن أنْ تكونَ  فعلاً شِعرِيَّاً؛ حقيقةً حَيويَّةً حيَّةً؛ بعيدة، كلَّ البُعْدِ، في جوهرِ وجودِها الحيِّ، عن أيَّةِ شكلِيَّاتٍ مُسْبَقَةٍ أو إجاباتٍ جاهزة. لا بدَّ للمستَقْبِلِ، أو للقارئ، عند الدُّخول، أو حتَّى عند محاولة الدُّخول إلى الشِّعريِّ في النَّصِّ، مِن عدَّة واستعداد؛ ولا بدَّ له مِن قدرةٍ على استكناهِ عيشِ جوهرِ التَّجاوب الخلاَّق بينَ الشِّعرِومُسْتَقْبِلِهِ أو قارئه. وشتَّان، ههنا، ما بَيْنَ طبيبٍ يُشَرِّحُ جُثَّةً، يَتَغَلْغلُ في أعمقِ أعماقِ تكاوينها، ثم يكتبُ محصَّلَةَ تعمُّقه هذا على رقعةٍ يودعها خزانة ملفَّات باردة في قسم التَّشريح في المستشفي؛ وبين إنسانٍ مقدِّرٍ لحكمةِ اللهِ وقوَّته، يتأمَّل في عظمة التَّكوينِ البشريِّ وجماليَّةِ تَجَلِّيهِ في البنيان الإنسانيِّ؛ فتشعُّ من تأملاته شعريُّةٌ تقوده مِن مادَّةِ الجسد، إلى روحانيَّةِ الفِكرةِ الإلهيَّةِ؛ ولا يمكنه، والحال كذلكَ، أن يضعَ تأمُّلاته (تقريره) في خزانة باردة للملفَّات، بل لا بدَّ له مِن عیشِهِ لهذا “التَّقرير”، والاغتناءِ بما فيهِ، تطويراً لنفسه ولحياته ولفكره، للوصول إلى مستوى “شِعْرِيَّةِ اكتشافِهِ لروحانيَّةِ الفكرة الإلهيَّة وحقيقة وجودها!” هنا، لا يصل الإنسان إلى تقريرٍ، بل إلى ممارسةٍ جديدةٍ للعيش.

نثريَّة سابحٍ في وقت الغروب

كلَّما كان النَّص قادراً،إذا ما تعامل معه قارئ  أو مُسْتَقْبِلٌ، على تقديم الشِّعريِّ، كلَّما كان هذا النَّصُّ جديراً بالحياة. وكلَّما كان القارئ أو مُسْتَقْبِلُ النَّصِّ،  قادراً على ممارسة “القراءة الشِّعريَّة”، كلَّما كان الشِّعريُّ متحققاً. ذلك هو جوهرُالقصيدةِ الشِّعريَّةِ، وهذا هو سرُّ قرائتِها أو اسْتِقْبالِها؛ إنَّهما فِعْلُ حياةٍ يظلُّ قادراً على التَّدفُّق بحيويَّةِ وجوده؛ ولحظةَ يتوقَّف هذا الدَّفق، هي الَّلحظة التي لا يعودُ المرءُ فيها يرى في النَّصِّ وعداً شعريَّاً، ولا يقدر فيها على القراءة الشِّعريَّة. هي اللحظة التي يموت فيها الفِعلُ الشِّعريُّ؛ يُصبحُ النَّصُّ مجرَّدَ وريقةٍ صفراء، ويتحوَّل قارئ الشِّعر، أو مُسْتَقْبِلُه، إلى أُمِيٍّ لا يفقهُ سِحرَ الحرف ولا يدركُ أَلَقَ الكلمةِ ولا يعرفُ بابَ الدُّخولِ إلى بهاءِ جَمالِيَّةِ النَّصِّ وعَيْشِ شاعِرِيَّتِه.

يُشبه الحالُ، ههنا، الحُبَّ؛ باعتبارِهِ وجوداً لا يَكُونُ کامِلاُ إلاَّ بتفاعُلِ المُحِبَّيْنِ مع بعضهما! كلَّما كانَ الحبيبُ قادراً على حُبِّ محبُوبه ، وكلَّما كانَ المَحبوبُ قادراً على عَيْشِ هذا الحُبّ والتَّفاعِل معهُ؛ كُلَّما كانَ الحُبُّ كَياناً لَهُ وجوده الحقيقيُّ الذي لا يُمْكِنُ لَهُ أنْ يتحقَّقَ سوى بالحبيبينِ معاً. لكن، لحظَةَ يَتَوَقَّفُ أحدهُما عن عَيْشِ حُبِّهِ للآخَرِ، لَحظةَ لا يعودُ أحدُ الحبيبينِ قادِراً على التَّجاوُبِ والتَّفاعُل الإيجابيِّ عَبْرَ الحُبِّ مع الآخر، ينتهي الحُبُّ. يَتَحَوَّلُ إلى ذِكْرى، أو إلى غُصَّةٍ أو إلى أحلامِ يقظة. لا يعودُ الحُبُّ، بذا، وجوداً من خلال اثنين يعيشانه ليكون؛ بلْ يصيرُ وجوداً مُرتَبِطاً بأحدِ الحبيبينِ أو بالماضي الذي كانَهُ.

إنَّ الحديثَ عنِ”الشِّعرِيِّ” يَنْقُلُ مِن حديثٍ في نَصٍّ أدبيٍّ ، وما في هذا النَّصِّ مِن “لُعَبٍ” فَنِيَّةٍ، إلى حديثٍ عن قُدرةٍ كامِنَةٍ في هذا النَّصِّ؛ تَسْعی إلى تحقيقِ دَفْقٍ حياتِيٍّ فاعِلٍ. والحديثُ عن المُستوى، ينقل، أيضاً، مِنْ حديثٍ عن قارئ أو مُسْتَقْبِلٍ يُحسِنُ”تهجئة الكلمات والألعاب الفنيَّة”، إلى قارئ أو مُسْتَقْبِلٍ قادرٍ على الغَوْصِ في عالَمِ الوجودِ الشِّعريِّ والتَّفاعلِ معهُ والفِعلِ مِن خِلالِهِ. “الشِّعريُّ”، تالِياً، وجودُ مشارَكَةٍ؛ أمَّا فيما يتعلَّقُ بالنَّصِّ، فإنَّ تقديمَ النَّصِّ الأدَبِيِّ الواعِدِ بالشِّعرِيِّ، ليس بالعملِ البسيطِ أو السَّهلِ على الإطلاق. إنَّه فِعْلُ تَخَمُّرٍ في الذَّاتِ، حيثُ الشُّعورِ، والعَقلِ، حيثُ الفِكر. إنَّه فِعْلُ مشاركةٍ بين الفِكرِ والشُّعورِ، وبينَ العقلِ والخيال. إنَّه فِعْلُ مشاركةٍ تتفاوَتُ نسبتها وتتفاعلُ عناصِرُها فيما بينها، وفاقاً لأشخاصِها ووفاقاً للحالاتِ التي يمرُّون فيها، باتِّجاه تحقُّقِ النَّصِ مِن خِلالِهِم.

إنَّ النَّصَّ الأَدَبِيَّ الحقيقيَّ، أي الواعِدِ بالشِّعرِيِّ، هو دُنيا قائمةٌ بذاتها؛ وهي دُنيا لها أُصولها ومفاتيحُها  وآدابُها؛ بيدَ أنَّ هذه الأصولُ والأبوابُ والمفاتيحُ والآدابُ لا يُمكن أنْ تقوم على مبدأ الآليَّة! لا يُمكن أنْ تَعيشَ على فَهْمٍ مَدْرَسِيٍّ أو مُعْجَمِيٍّ للتَّشبيهِ أو للكِنايةِ أو للرَّمز. لا بدَّ مِنْ حَيَوِيَّةِ فِعْلِ حياةٍ كي تُولَدُ مِنْهُ الحياةُ وبِهِ! ولا بدَّ لعناصرِ العملِ الشِّعرِيِّ مِن أن تكونَ ضاجَّةً بِصَخَبِ الحياةِ وعَبْقَرِيَّاتِ انْطِلاقاتِها الابدِعيَّةِ، كي تُعطي العملَ شَعْشَعانِيَّةِ الحياة؛ هذه الشَّعشَعانِيَّةُ التي تعضُدُ استمرارَ الوَعْدِ بالشِّعرِيِّ.

يُمكِنُ التَّخوُّف مِن انزِلاقِ بعض الشُّعراءِ إلى استخدامِ عناصر العملِ الفنِّيِّ بطريقةٍ آليَّةٍ، مَدْرَسِيَّةٍ، مَيْتَةٍ. الشِّعر، كما يفهمه هؤلاء، يُصْبِحُ غَنِيَّاً إذ ما حوى التَّشابيه؛ فليكن في القصيدةِ، إذن، تشابيهٌ مِن مختلفِ الأنواعِ والمستويات! الشِّعرُ يُصبحُ، في نظرِ هؤلاءِ، أكثر إغراءً إذا ما حوى الرُّموز؛ فَلْيَكُن في القصيدةِ مِنَ الرُّموزِ ما يملأُ حملَ قافلةٍ من الجِمال! لكنَّ هذا التَّصرُّف ليس بالفِعل الشِّعري؛ إنَّه فِعلُ المَوْت. إذا ما استُخْدِمَ التَّشبيه أو الرَّمز، بهذا المنْحَى، قَتَلَ المستخْدِمُ جَوْهَرَالتَّشبيه والرَّمز، ومسَخَهُما إلى أقبَح ما يَكونُ من المسخِ؛ واغتال، مِنْ ثَمَّ، الفِعْلَ الشِّعريَّ مِن أساسِه. ولعلَّ مِن أبرزِ نماذجِهذا الاستِخْدامِ، ذلكَ الغزو المُخيف الذي يقومُ بِهِ بعضُ الشُّعراءِ المعاصرين على الأسماءِ الرُّموزِ لأبطالِ الشَّهادة في هذا الزَّمن. إنَّ بعضَ الشُّعراء يَظُنُّ أنَّه إذا ما جَنَحَ بِقصيدته إلى تِلاوةِ أسماء رموزٍ مِن الأبطالِ الشُّهداءِ،استطاعَ أنْ يُثير عواطف من يقرأ أو يَسْتَقْبِل النَّصَّ الأدبيَّ؛ ولاستطاع ، تالياً، أنْ يُحقِّق الشِّعريَّ!

لعلَّ في هذا التَّصوُّرِ بعضُ خطأ؛ أو هو، في الواقع، الخطأُ الكَبير.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى