سلسلة «دراسات في الشِّعري» (9) شعريَّةُ التَّوازي المُتباين في نصِّ الأخوين رحباني
الدكتور وجيه فانوس
كثيراً ما اعتمد «الأَخوان رَحباني» بنائيَّة «التَّوازي المُتبايِن» في «نُصوصِ»/«كلامِ» الأغاني التي قدَّماها؛ خاصَّة وأنَّ عَبْرَ هذا «التَّوازي الُمتبايِن»، ما يؤمِّن للنَّصِّ/»الكلام» فاعليَّةً شِعريَّةً تفتحُ أمامَ المُتلقِّي/المُسْتَقْبِلِ مجالاتٍ واسعة مِن فضاءاتِ التَّلقِّي/الاستِقبالِ الشِّعريِّ الحُرِّ، التي يقف واضِعُ «النَّصِّ»/«الكلام» فيها، وكأنَّه يُقدِّم لـ«المُتلقِّي»/المُسْتَقْبِلِ، مفاتيحَ الدُّخولِ إلى ما يُمكن اعتبارُه، ههُنا، «حُصْنَ النَّصِّ/الكلام»، تارِكاً لهذا المُتلقِّي/المُسْتَقْبِلِ حريَّة التَّفاعلِ الحَيِّ مع كلِّ واحدةٍ مِن مكوِّنات هذا «الحُصنِ» وفاقاً لِما لَدى هذا المُتلقِّي/المُسْتَقْبِلِ مِن قدراتٍ وطاقاتٍ لِعَيْشِ «الشِّعريِّ».
أنموذج «القُدس العتيقة»
مَرَّيْتْ بِالشَّوارِعْ شَوارِعْ القِدْسْ العَتيقَهْ
قِدَّامْ الدَّكاكِينْ الْبِقْيِتْ مِنْ فْلِسْطِينْ
يتجلَّى «الشِّعريُّ» في نَصِّ «القُدسُ العتيقة»، عبر العربيَّة المحكيَّة في لبنان، عبر تشكُّل بنائيٍّ للصُّوَرِ والمفاهيمِ، قوامُه إنشاء التَّوازي بين هذه الصُّور والمفاهيم، من جهة، وإظهار التَّبايُن الصَّارخ في ما بينها، من جهة أخرى. يظهرُ التَّوازي، في هذا النَّصِّ عبر نهوض متواليتين تُقابِلُ إحداهما الأخرى؛ أولاهما مُتَوالِيَةٌ تتألَّف من «الشَّوارع والدَّكاكين والخبريَّة والهديِّة والشَّوارع والأبواب والحزن والحركة»، في تقابل مع المُتَوالِيَةِ الثَّانية المؤلَّفة من «شوارع القدس وما بقي من فلسطين والمزهريَّة والنَّاس المنتظرين وشوارع القدس والأصحاب فضلاً عن نافذة المدينة وانتهاءً بغربة العذاب». إنَّ هذه الفاعليَّة للتَّقابلِ المتوازي، بين هاتين المتواليتين، التي وضعها مُرْسِلُ النَّصِّ، سرعان ما تتحوَّل، مع قيام المُرْسَل إليه بعمليَّة تَلَقِّي النَّص، إلى فاعليَّةٍ انفجاريَّةٍ صارخةٍ ليست ضدَّ أيَّاً من المتواليتين بقدر ما هي انفجارٌ صارخ في وجه الحال التي نتجت عن قيام المتواليتين معاً. تقف، ههنا، «الشَّوارع»، من المتوالية الأولى، مقابل «شوارع القدس»، في المتوالية الثَّانية؛ وتقف «الدَّكاكين» من المتوالية الأولى، مقابل «ما بقي من فلسطين»، من المتوالية الثَّانية؛ وكذلك هو الحال بين سائر عناصر كلِّ واحدة من المتواليتين، إلى درجة تكتمل معها صورة ما تبقَّى لناس «القدس» من مدينتهم المحتلَّة التي ما برحوا يحيون ضمن بقاياها حاملين الحُزن في قلوبهم مع حكاية الغصب ومع مشاعر المودَّة والتَّقدير لكلِّ من يزورهم متفقِّداً لأمورهم ومطمئنَّاً عن أحوالهم ومشاركاً لهم في هموم العذاب.هوذا «الشِّعريُّ» الذي ينطق به تشكُّل نصِّ أغنية «القدس العتيقة»، رغم أنَّ أيَّاً من كلماتهِ لا تشير إلى هذا «الشِّعريِّ» مباشرة؛ بيد أنَّها قدرة «الأخوين رحباني» على وضع نصٍّ قابلٍ للتَّلقي، من قِبَلِ المُرْسَلِ إليه؛ وقادرٍ، في الوقت عينه، على تحفيز طاقات هذا المُتَلقِّي على استقبالٍ للنَّصِّ فيه من الإبداعِ الذَّاتي ما فيه. وتحمل نصوص أغانٍ عديدة لـ «الأخوين رحباني» شعريَّة «التَّوازي المتباين»، وإن كان ثمَّة تشكُّلات عديدة لإنبناء هذا «التَّوازي» مارسها «الأخوان رحباني» في هذه النصوص. ومن هذا القبيل ما في نصِّ «أنا لحبيبي»، بالمحكيَّة في لبنان:
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي
تنهض شعريَّة النَّصِّ، ههنا، أيضاً على متواليتين، إحداهما متوالية قوامها «أنا لحبيبي ويا عصفورة بيضا»، ثمَّ «أنا لحبيبي وأنا على بابي، وبعيونك ربيعي وندهني حبيبي ومن نومي سرقني وأنا على دربو»، في مقابل متوالية «حبيبي إلي وقلِّي الشِّتي راح وزهَّر التِّفَّاح والنَّدى والصَّباح ونوَّر وحلي وجيت بلا سؤال وراحة البال ودربو عالجمال وحكايتنا اغزلي». عِلماً أنَّ هذا قد لا يختلف، بل يزداد فنيَّة ورشاقة مع نصِّ من مِثل «غالي الدَّهب غالي»، وهو نصٌّ بالمحكيَّة في لبنان ينهض على بنائيَّة من التوازن المتباين قائمة على ثلاث متواليات:
غالي الدَّهب غالي وضحكت عناقيدو
عالي الورد عالي وشو طالع بإيدو
ومن النَّماذج الكثيرة الأخرى، ما قد يحلو النَّظر فيه من نصِّ «نسَّم علينا الهوا»، بالمحكيَّة في لبنان، والقائم على عددٍ من المتواليات؛ كلُّ واحدة منها تعرض عالماً قائماً بذاته، مع ذلك فإنَّها تشكِّل مجتمعةً، عبر هذا «الاستقلال الذاتي» لكل واحدة منها، حالاً من الشِّعريِّ هي لبُّ هذا النَّصِّ للأغنية:
نَسَّم علينا الهوا من مفرق الوادي
يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي
يا هوا يا هوا يللِّي طاير بالهوا
في منتورة طاقة وصورة خدني لعندن يا هوا—————*
دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية