مُحَمَّد كُرَيِّم مرآةٌ ناصعةٌ لتاريخ لبناني لا بُدَّ من الاعتناء به(1)

الدكتور وجيه فانوس

اشتُهِرَ الأستاذ «محمَّد كريِّم» بأنَه مخرجٌ إذاعيٌّ ومسرحيٌّ لامع ورائد في ميادين الإخراجِ؛ بيد أنَه ما انفكَّ، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، يُتحف الكتابة بإصداراتٍ من وضعه؛ يتناول في بعضها تاريخ المسرحِ في لبنان؛ كما يتناول، في بعضها الآخر، محطَّات يصوِّر من خلالها واقع ما عاينه وعاشه في الحياة العامَّة في لبنان، وخاصَّة في مجالاتها الشَّعبية. ومحمَّد كريِّم، في كلِّ هذا، إبداعيٌّ جماليٌّ؛ يرسم لوحات حيَّة، تنبض بأنفاس أصحابها وتحكي عن أزمنة وومضات رائعة من وجود لبنان.
أمَّا متى وُلِدَ محمَّد كُرَيِّم، ولِمَ انتقل والداه من طرابلس إلى بيروت، وعلى من درس محمَّدٌ مبادئ الألف باء؛ فهذه أمور لا تستهويني في هذا المقام؛ بقدر ما يستهويني أنَّ محمَّد كريِّم نشأ وترعرع وذاق أحلام الصِّبا وقلق المراهقة وطموح الشَّباب وتزوج، من ثمَّ، وأنشأ أسرة وما زال يقيم حتَّى اللَّحظة، منهمكاً بكل هذه الأمور، في منطقة برج أبي حيدر من مدينة بيروت. وأمَّا لِمَ هذا الاحتفال، من قِبَلي، ببرج أبي حيدر؛ فثمَّة أمران؛ أوَّلهما أنَّ برج أبي حيدر هي المنطقة البيروتية التي وُلدت فيها ونَشَأْتُ بين ناسها وتمتَّعتُ بسكينتها وهدوء شوارعها ورفقة أبنائها؛ فعرفتُ من خلالها معنى الوطن وجمال الانتماء إليه. وثاني الأمرين أنَّني أرى في محمَّد كريِّم أنموذجاً، فذَّاً، من ناسها؛ في رقته وآدميته وطموحه وجرأته ووفائه وتواضعه.
وبرج أبي حيدر، هذه، عزيزة على قلب بيروت؛ فهي في تاريخها مصيف للبيارتة القدامى الذين كانت تنتهي بيروتهم، زمنذاك، عند حدود منطقة السُّور، أو ما صار يعرف باسم ساحة الهول وبساحة رياض الصلح لاحقاً. وبرج أبي حيدر، هذه، كانت مسكناً لكبارٍ من ناس بيروت ولبنان؛ من بينهم المفتي الشَّيخ مصطفى نجا، والتَّربوي واصف البارودي والرِّوائي رشاد دارغوث، ناهيكم بعائلات ممعنة في عراقتها البيروتيَّة من مثل آل جبر وآل السِّباعي وآل وهبي وآل فانوس وآل ياسين وآل الكبِّي وآل طبَّاره وآل شَعر وآل قمُّوريَّة وسواهم؛ من دون أن ينسى المرء أنَّ مقرَّ المبنى الأوَّل للكليَّة الإسلاميَّة، التي أسسها الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري، كان في هذه المنطقة؛ وفي هذه الكليَّة تخرَّجت نُخَبٌ من أهل العلم والوطنيَّة في لبنان، منهم عبد الغني العريِّسي وعُمر حَمَد ومحمّد ومحمود المحمصاني وعُمر الزعنِّي ونجيب بليق.
وكان لمحمَّد كريِّم أن عبَّ من خير هذه المنطقة، وتحديداً من أجوائها الثَّقافيَّة الراقية؛ إذ كان يسكن مع ذويه في منزلٍ مجاورٍ لمنزل التَّربوي واصف البارودي؛ الذي كان من أشهر أهل التَّربية في لبنان في أخريات النِّصف الأوَّل من القرن العشرين. وكان لمحمَّد صداقة ورفقة مع هشام بارودي، ابن الأستاذ واصف؛ وكان لهذه الرّفقة وتلك الصداقة أن وطدتا العلاقة بين محمدٍ وآل البارودي؛ لدرجة أصبح فيها لمحمد كريِّم مَوْنَةَ الدُّخول إلى غرفة المكتبة في منزل الأستاذ واصف، والعبِّ مما يستهويه من معارف كتبها ومجلاتها. بل إن الظروف كثيراً ما سمحت لمحمَّد كريِّم أن يحضر مجالس الفكر والأدب، التي كان يعقدها الأستاذ البارودي في دارته، وأن يعرف هناك كباراً من أهل الثَّقافة والفن ممن كانوا يرتادون تلك الدَّار، مثل مارون عبود وعمر الفاخوري وميخائيل نعيمة؛ حتَّى أصبح لدى محمَّد كريم نواة ثقافة عامَّة عميقة الأغوار واسعة الاهتمامات، وانزرعت في ذائقته بذرة تذوُّق الأدب وحُسْنِ الدِّراية بفنونه وجماليَّاته.
ويرتاد محمَّد كريِّم، في صِباه، مدارس جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت، شأنه في هذا شأن كثيرين من أبناء برج أبي حيدر وسواها من مناطق بيروت. وهناك يلفتُ محمَّدٌ أنظار القيِّمين على النَّشاطات المدرسيَّة بحيويَّةٍ مسرحيَّةٍ فيه، فيُشجعه هؤلاء القيِّمون على تأليف فرقة مسرحيَّة مدرسيَّة قوامها رفاق دراسته. وينجح كريِّم في تنشيط الفرقة، كما يُخبر في كتابه عن تاريخ المسرح؛ مُقَدِّماً بعض المسرحيَّات التي تجاوزت المألوف المدرسيِّ للهواة، إذ قاربت بعضاً من جِدِيَّةِ أهل الاحتراف.
ويتخرَّج محمَّد كريِّم حاملاً شهادة البكالوريا، ليبحث عن متابعةٍ للتَّحصيل العلميِّ الذي لا بُدَّ من رَفْدِ تكلفته بعملٍ يَدُرُّ بعضَ المال. ويكون العمل الأوَّل له في ميدان التَّعليم؛ بَيْدَ أنَّ الظُّروفَ الحَسَنَةَ لا تلبثُ أن تفتحَ باباً لمحمَّد كريِّم؛ إذ يُتاح له، سنة 1954، فرصة الانضمامِ إلى فريق عمل محطَّة إذاعة الشَّرق الأدنى.
أمَّا محطة الشَّرق الأدنى فوجودٌ لا يمكن تجاوزه أو التَّغاضي عنه، لكلِّ من يريد أن يدرس تاريخ الحركة الفنيَّة أو الإذاعيَّة في الشَّرق العربيِّ عموماً، وفي لبنان خصوصاً. وأيَّاً تكن الدَّوافع التي حدت ببريطانيا إلى إنشاء إذاعة الشَّرق الأدنى، بدءاً من سنة 1942، فإنَّ خمسينات القرن العشرين شهدت لهذه الإذاعة اهتماماً رياديَّاً واضحاً بالفنون الموسيقيَّة والغنائيَّة والبرامج الترفيهيَّة والثقافيَّة وبثِّ الإعلانات التِّجاريَّة. ولئن كان مركز إرسال الإذاعة في قبرص، فإنَّ مدينة بيروت حضنت مقر إعداد برامج المنوَّعات والموسيقى، واستقطبت عدداً كبيراً ممن أصبحوا روَّاد الموسيقى والغناء والعمل الإذاعي في لبنان وكثير من البلدان العربية.
من العاملين في محطَّة الشَّرق الأدنى كان الأستاذ صبري الشَّريف، مراقباُ للبرامج الموسيقية، والأستاذ صبحي أبو لُغُد، مراقباً لبرامج المنوَّعات؛ وقد سبقهما الصَّحافي سليم اللَّوزي، منذ سنة 1944، في كتابة التمثيليَّات الإذاعيَّة، وكان معهما الأساتذة توفيق اسحق ومحمَّد شامل وعبد الرحمن مرعي، في مجال البرامج الفكاهيَّة، والأستاذ شريف العَلَمي، في برامج المنوَّعات؛ ولعلَّ برنامج شريف العلمي، «فكِّر وامرح»، كان أوَّل برنامج مسابقات ثقافيَّة إذاعيَّة من نوعه باللُّغة العربيَّة. ومع هؤلاء جميعاً كان الأساتذة حليم الرُّومي وتوفيق الباشا وعمر الزعنِّي وفيليمون وهبي وعاصي ومنصور الرَّحباني وزكي ناصيف وعبد الغني شعبان في مجالات الموسيقى والأغنية. وكان محمَّد كريِّم يخطو خطواته الإذاعيَّة الأولى معهم وفي أجوائهم وبرفقتهم. وواقع الحال، فإنَّ محمَّد كريِّم يَعتبر هذه المرحلة من عمله في محطَّة الشَّرق الأدنى بين سنتي 1954 و1956 مرحلة اكتِشاف العمل الإذاعي وفهمه واستيعابه. ومن أبرز إسهامات محمَّد كريِّم في هذه المرحلة مشاركته في العمل في برنامج «إِنْسَ همومك»، وقد نال شعبيَّة واسعة وإقبال جماهيريَّاً رائعاً، خاصَّة وأنَّ هذا البرنامج كان يُقَدِّم فقرات إذاعيَّة منوَّعة تتراوح بين التَّمثيل الفكاهيِّ والأداءِ الغنائيِّ وإلقاء المنولوجات وسوى ذلك.
تتوقَّف محطَّة الشَّرق الأدنى هذه، مع حرب قنال السُّوَيْس في مصر، سنة 1956، وينفرط عقد ناسها. وتتوالى عروض العمل من إذاعات دول عربيَّة عدَّة على محمَّد كريِّم، وقد صار إذاعيَّاً مشهوراً وواحداً من الأَعلام العرب في هذا الميدان. ورغم جميع الإغراءات التي يقدِّمها العمل في الخارج، فإنَّ محمَّد كريِّم، قَبِلَ العمل لأشهرٍ معدودةٍ من سنة 1956 في إذاعة بغداد؛ إذ كان يرى أن دوره الحقيقيَّ هو في دار الإذاعة اللبنانية من بيروت، تلك الإذاعة التي كانت تتحضَّر، مع لبنان بأسره، للدُّخول في مرحلة جديدة، إثر أحداث سنة 1958 التي عرفها لبنان.
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الثَّانية)
——————–
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية
لفتتني قدسية المكتبة في بيت التربوي: واصف البارودي؛ إذ بدت و كأنها مكان منيع لا يُعطى حق الدخول اليه- حتى ولو كان جارًا في هذه البيئة الموصوفة بدقة وحميمية تشعرنا بأهمية المكان وجماليته وما يعنيه للكاتب- إلا لمن يُقرأ في عينيه شغفُ العلم في القول: “لدرجة أصبح فيها لمحمد كريِّم مَوْنَةَ الدُّخول إلى غرفة المكتبة في منزل الأستاذ واصف”.
أحببت جدًّا هذه ” المَوْنة”!