في ذكرى أمي / بقلم الروائي عمر سعيد
في ذكرى أمي…
في ذكرى أمي، التي لم تكن يوماً في منصب مهم، وما كانت ابنة زعيم أو اقطاعي أو بيك، وما كانت مثقفة تشغل بعقلها وكلامها الأضواء.
كانت مجرد أم..
أم تفوح من ملابسها روائح الخبز والطبيخ، وعرق متابعة تفاصيل رعاية أبنائها.
أم لم تكن تسمع بكريمات ترطيب الأكف المعطرة.
أم لم تغسل ملابسنا بغير البرش وحجر النيل.
أم لم تسكت عن الغناء، والدعاء لنا.
أم لم تزر المدينة إلا مرات معدودة.
أم لم تتباه بأصناف الطعام التي تعدها لأبنائها، فلم تكن تتقن إلى بضع طبخات كفتنا حتى عرفنا كيف نعتاش من تعبنا الحلال.
كانت أم تعرف كيف تبتسم، تحزن، تحب، تصمت، تبكي.
لكنها لم تكن تعرف كيف تتكلم..
غير أنها عرفت كيف تعلمني أن أقول وأكتب كل ما ينبغي أن يقوله الإنسان.
وكانت أمي التي لازلت أتكور صغيراً في حضنها، في الهزيع المظلم من الغربات.
إليك في ذكراك.. فاطمة:
آخر النصوص
كنت إذا غنت أمي، أَحْتَلِبُ الدمعَ من عُرَب صوتها الأبيض.
لم تكن تعرف إلا سلم سطح بيتنا الخشبي..
كانت تصعده بإيقاع، يتردد عن أخمص قدميها الحافيتين.
كانت قدماها تبارك الأرض تحت وقوفي.
تنشر فوق السطح شرائح البندورة، والباذنجان، والفليفلة الخضراء، والزبيب، كما لو أنها تكتب نوتة موسيقة على خطوط ريفيتها المشبعة حباً وحياءً.
كان سطح بيتنا لوحتها التي ما خضعت للمزاد العلني بتاتاً، لأنها كانت ترسمها، لترى فيها أطفالها الذين تنتظر.
كانت دندناتها أول أسرّة السلام التي حملتني قبل الولادة وبعدها..
لأني كررت عليها السؤال أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة:
هل كنت تغنين حين كنت جنيناً في رحمك؟!
فتقول: كنت أشعر طوال فترة حملي بك، أن نفسي فاتحة على الغناء، ولا أذكر أني غنيت في حمل، كما فعلت أثناء حملي بك.
ثم تغمرني بقوة، وتترك دمعها، يشعل حبها.
لأشعر بانقباض، لم أدرك سببه إلا يوم دخلت عليها وهي توضب حقيبة سفري..
وقد كنت في الخامسة عشر من عمري، وفي طريقي إلى بغداد بهدف الدراسة.
لم تكن تغني..
كانت تئن فقط..
لا أحتمل سرد مشهدية توضيبها للملابس، لأنني قد أنهار..
ولأن الأهم هو هذا النص الذي أظنه إبداعيا..
أذكر أنها وقفت أمامي..
مسحت بيمينها على خدي، دون أن تعانقني، وغنت:
” أولوا لعين الشمس ما تحماشي
دحسن حبيب الألب صابح ماشي”
ثم اختنقت، وغادرت الغرفة..
كنت في أماسي بغداد البعيدة، أخفي رأسي عند النوم بمنشفة، عطرتها أمي بصدرها، الذي ظل حليبه على أطراف لساني، لأرتشف صوتها ودمعها، دون أن يشفق علي أحد.
عندما ماتت أمي، عدت من السفر قبل دفنها بساعات، خلعت رجولتي خارج الباب، وخطوت صوبها طفلاً، ما غادر بيتها قط.
وقفت فوق رأسها. نظرت طويلاً.
ثم أعدت غناء ما ودعتني به.
يومها، أدركت لم كانت أمي تغني لي؟!
فبعض الدمع، ليست مصدره العيون..
كانت تعرف وهي الأمية، أن الإنسان لا يغني إلا إذا ابتلعه الفراغ.
كانت تشغل نفسها بمهام البيت، والأسرة، وتربيتنا، تربية الماشية والدجاج، وزراعة الورود، والحب، والأمل فينا، دون أن تتوقف عن الغناء.
كانت تعلف حيوانتها، وتغني، وتحممنا وتغتي، وتحصد بالأجرة، وتغني..
لم تكن تتوقف عن الغناء إلا إذا داهمها البكاء.
كانت تغني، لتطرد الفراغ الذي كان يحتلها..
كانت تعرف أن من تغني له أكثر، سيبتعد عنها أكثر، وربما لن يعود..
لذا قلت في روايتي “سوق الملح”:
” لا يحق لمن غادر منزل أمه بقلب يافع ، أن يرجع؛ ليزور قبرها بقلب حطمته الغربة”