أدب وفن

في سبيل سِجِلٍّ وطنيٍّ للتُّراث الشَّعبيّ في لبنان

د. وجيه فانوس (رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

إذا ما كان “التُّراث الوطنيُّ”، بكلِّ تنويعاته وتنوُّعاته، الجزء من الثَّقافة الذي تبلور عبر العصور؛ وصارت له صيغة، مقبولة من الجمهور، ومُقَوْنَنَةٌ، من قِبَلِ الباحثين، بما يمكِّن من انتقاله من جيلٍ الى آخر، من دون ما تغيير أو تحريف. وللبنان تراث وطنيٌّ فكريٌّ وثقافيٌّ وأدبيٌّ واجتماعيٌّ؛ يضمُّ تنويعات تاريخيَّة وإنسانيَّة وفكريَّة؛ وذلك بحكم امتداد هذا التُّراث عبر العصور التَّاريخيَّة القديمة منها والحديثة والمعاصرة؛ وبحكم انتشاره على جميع أطراف الأرض، التي تشكِّل دولة لبنان، المعترف بوجودها كياناً دوليَّاً حرَّاً مستقلاً قائماً بذاته؛ والمؤكَّدة حقوقها رسميَّاً، عبر هذا الاعتراف، من قِبل دول العالم ومنظمة الأمم المتَّحدة.
من المُتَّفقُ عليه، بين الدَّارسين وأهل الخبرة، أنَّه إذا ما فُقِدَ التُّراث الوطنيُّ، أو جرى تشويهه، فإنَّ الهويَّة الوطنيَّة تفقد كثيراً من معالم أصالتها؛ ويصبح من الصَّعب، تالياً، إعادة جمع هذا التُّراث، من جهة، وتكوين وحدة وطنيَّة جامعة موحدة، من جهة أخرى.
يعيش لبنان، حاليَّاً، في لُجَجِ زمن قد يكون فيه التُّراث الوطني، أو بعضه، مهدَّداً بالضَّياع أو التَّشتت أو التَّشويه أو السَّرقة أو حتَّى الزَّوال؛ وذلك بفعل ما تعيشه الإنسانيَّة قاطبة من توسُّع لظاهرة “العولمة”، وانتشارها في عمق الوجود الثقافي للإنسانيَّة؛ ونتيجة لما قد تقود إليه العولمة من دفع، في كثير من المرَّات، إلى تراجع كثير من مظاهر الشَّخصيَّة الذَّاتيَّة للجماعة أمام الوجود الجمعي الشَّامل والمشترك لها. ولا بدَّ من التَّركيز، من جهة أخرى، على أهميَّة عامل الغَصْب الثَّقافي الصَّهيوني، الذي يُمارسه الكيان الصُّهيوني، مُمَثَّلاً بما يعرف بدولة إسرائيل المزعومة، لجهة ادَّعاء أنَّ كثيراً مما يُعرف بالتُّراث الوطنيِّ، في المنطقة، هو تراثٌ يعود إلى دولة هذا الكيان.
لطالما درجت العادة على توزُّع التُّراث ضمن نطاقين؛ أحدهما يعرف بالتُّراث الرَّسمي، في حين يعرف الآخر بالتُّراث الشَّعبيّ. يُعتبر التُّراث الشَّعبيّ من اهم العناصر الفاعلة لتعزيز الهويَّة الوطنيَّة وتأكيد ديمومتها؛ فما تفرِّقه السِّياسات يجمَعه الفن ويوحّده التُّراث وتصقله الثَّقافة. تكون مكوِّنات التُّراث الشَّعبيّ، غالباً، ضمن البيئة الاجتماعيَّة للشعب وما فيها من غناء واهازيج ورقص وموسيقى وحكايات وادوات تقليدية واسماء ذات دلات وطقوس. ومن التُّراث الشَّعبيّ ما جرى تدوينه وتوثيقه عبر الأجيال وتعاقب السنين والجهود؛ في حين ثمَّة جزء من هذا التُّراث ما برح يُتناقل مشافهة، أو عبر ممارسات تقليديَّة، لمَّا يجد بعدُ الدَّرب إلى من يوثقه ويصنفه.
إنَّ المؤسسات والهيئات، رسميَّة كانت أو أهليَّة، وكذلك الأفراد من أبناء الشَّعب على مختلف مسؤولياتهم ومستوياتهم، مسؤولون عن الحفاظ على التُّراث، والعمل على نقله، سواء بطرق الإعلام أو النشرات أو الصور؛ أمَّا الغاية الكبرى من هذا فتكمن في جذب الاهتمامين الوطني والعالمي إلى الوجود الوطني للجماعة والحقيقة الإنسانيَّة لهذا الوجود. لا بدَّ من خطة منظمة ومبوبة لإنشاء السِّجل الوطني للتُّراث الشَّعبيّ في لبنان؛ يكون بإمكانها استيعاب توثيق التُّراث الشَّعبيّ في لبنان وتبويبه وتصنيفه؛ بما يسهِّل على الباحثين الوصول إلى هذا التُّراث والاطلاع عليه والعمل على حسن خفظه والإفادة منه وطنياً وثقافيَّاً وإبداعيَّاً.
يعتبر أمر هذا السِّجل مهمَّة وطنيَّة وإنسانيَّة عالميَّة لصون التُّراث الشَّعبيّ في لبنان من عوامل الضياع الذاتي، وحمايته من فاعليَّة النَّهب العدواني لوجوده، فضلاً عن كونه تعزيزاُ للهوية الثقافية الوطنية اللبنانيَّة بجميع مكوناتها وترسيخاً للذاكرة الجمعية للبنانيين كافَّة. إنَّ في هذا العمل، تعريف للعالم برسالة الوطن ومجالات المشاركة الحضارية والانسانية لهذه الرِّسالة.
تتجلَّى أهميَّة “السِّجل الوطنيِّ للتُّراث الشَّعبيِّ في لبنان” في قدرته، المتوقَّعة، على المحافظة على التُّراث الشَّعبيّ الوطنيِّ، وخاصة ذلك القسم من التُّراث المهدد بالضياع والتشتت بفعل عوامل عِدَّة ومتنوِّعة؛ وذلك باعتبار هذا التُّراث ملكاً عامَّاً لا يجد عادة مدافعين عنه؛ بخلاف التُّراث الرَّسمي المتعارف عليه في المقررات الدراسيَّة للجامعات والمدارس وعبر كثير من نشاطات السلطات الحكوميَّة.
إنَّ للتُّراث الرَّسمي في لبنان، بحكم الواقع، من يحافظ عليه من جامعات ومدارس وسلطات مركزية؛ وذلك بخلاف قسم كبير من التُّراث الشَّعبيّ، الذي هو ملك عام وهو بالتالي ملك الجماهير لا النخبة. ولقد جرت العادة أنَّه إذا وقع اعتداء على هذا التُّراث الذي تتفاعل معه الجماهير، فهو غالبا لا يجد من يحميه. فالجماهير، عادة، لا تجد احداً مخوَّلاً يتحدث باسمها ويدافع عنها في هذا الجانب؛ فلا بدَّ وأن يكون الحل بأن تتولَّى سلطة مركزية إنقاذ الوضع، بحكم ما لها من نفوذ وقدرة وخق وطني عام يعترف به الجميع ومن واجبهم مساندته.
إنَّ إنشاء السِّجل الوطنيِّ للتُّراث الشَّعبيّ في لبنان، مهمَّة وطنيَّة لا بُدَّ أن تنهض بها وزارة الثَّقافة في لبنان، وذلك بحكم الدور الثقافي الرَّسمي الذي تقوم به، ونظراً إلى مسؤولياتها الوطنيَّة وبناء على قدراتها الرعائيَّة والتنظيميَّة على حدِّ سواء. وتكمن الأهمية الكبيرة لمشروع السِّجل الوطني للتراث الشَّعبيّ في لبنان في أن يصبح هذا السِّجل نواة لمؤسسة مركزية موحَّدة تستوعب كل ما تم في الماضي وكل ما يتم في المستقبل من جمع للتراث الشَّعبيّ وتوثيقه وتصنيفه. ولا بدَّ وأن يتحوَّل هذا السجل الوطني للتراث الشَّعبيّ في لبنان إلى مؤسسة لها استمرارية عبر الزمان والمكان، فتكون منفصلة عن شخص القائمين عليها؛ فلا تضيع المواد التي ستجمع من خلالها ولا يتحطم الارشيف كما يمكن أن يحدث مع مؤسسات كثيرة بتغير الاشخاص القائمين عليها.
تنفَّذ عملية الجمع بقيادة خبراء وتعتمد على مبدأ العمل الميداني عبر باحثين تم تدريبهم باشراف نخبة من الخبراء الذي اعتمدتهم الوزارة كمرجعية علمية لضمان الجمع بأسلوب علمي فعال. ويجري وضع السجل الوطني للتراث الشَّعبيّ في لبنان، بعد جمعه، في جناح خاص في الوزارة؛ من دون ان تُستبعد امكانية أن يخصص له جناح مستقل ليكون متاحاً أمام من يريد من المهتمين.

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى