“كلمة أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين، الأديب والشاعر العميد د. محمد توفيق أبو علي في حفل توقيع ديوان” خربشِة … عَ وراق العمر”للشاعرة رندة شرارة
ديوان “خربشة ع وراق العمر” للشّاعرة رندة رفعت شرارة (وأمثاله من دواوين الشّعر العامي التي تتّسم بفنّيّة عالية) يقودنا الى طرح إشكالية العلاقة بين الشعر الفصيح والشعر العامي:
فإنّ كثيرين قد توهّموا أنّ هذين الضّربين من الشِّعر هما في موقعين متضادّين؛ وأنا أقول وبجلاء: إنّهما متكاملان متعاضدان في بناء بنية الجمال التعبيري شريطة أن نعيَ مهمّة كلّ منهما.
فالشعر الفصيح_ تبعًا لطبيعة بنيته التعبيريّة، وتاريخيّة تجربته_ مؤهّل لحمل المعضلات الكبرى الوجدانية والفلسفية أكثر بكثير من الشعر العامي؛ في حين أن الشعر العامي_ عمومًا_ يتكفّل بوميض العواطف والمشاعر في عفويتها ونماء انسيابها التلقائي، باستثناء حالات تكاد تكون نادرة.
وأبدأ بالعنوان، فسيميائيّته ذات دلالة إيحائيّة، تلبّي ما أراه مهمّة الانسياب العفويّ الذي أشرت إليه، في معرِض المقارنة بين الشعر فصيحًا أو عامّيًّا؛ ف” الخربشة” تّلقائيّة انسيابيّة، تطلق العنان لطفولة خبيئة، تحرّرها الحال الشّعريّة من قيد العقل المحض؛ والسؤال:أين تضع الخربشة رحالها، أفي دفتر أم في كرّاس منتظم الصّف؟ والجواب: لا هذا ولا ذاك؛ بل على أوراق العمر التي تغدو ذاكرة الشّاعرة.
التجريد الحسّي في هذه الديوان سمة لافتة؛ وهو يقوم على جماليّة يلتقي فيها أسلوبا الحقيقة والمجاز، من دون تنافر أو خصام؛ في نسق يسير وظيفيًا في خدمة الصورة الفنية؛ وفي هذا الديوان حسن توظيف للأنواع الأدبيّة وأنماطها، في توليفة مبدعة، جمعت إلى القصّ الوصفَ، دثارًا لشعريّة أليفة غير مألوفة. وسأختار ثلاثة نماذج تبين هذه السمات.
النموذج الأول: ” فاق الدّرج ، لابس حلق ورابط جدايل زهر، وخصر يتمايل مع النسمات. غار الحلا، ومن فوق كتف الشمس لوّن عيونو بكحلة الوديانْ، وراح صوب العينْ، عبّى جرارو عيدْ، رشرشْ نِدِي، عغصونْ شجرِة تينْ. فتّح الدّوري عينْ، وصار يعزف عوتار العودْ، رقصت صبيّه واللّحن اسمو لُقا،صارتِ السّاحة عرس، وقوس القزحْ زينه، وزهرات حمرا نقوط للعرسان”
إنّ قراءة هذا النّص تبيّن هذا التّناغم البهيّ بين الإيقاع والصّورة، في مشهديّة يلتقي فيها الحسُّ المجرّدَ، في نسقٍ لا يعرف التّخوم الفاصلة، ولا يدركه تنافرٌ أو تضادّ. وإنّ الترابط النّصي بين أجزاء المشهديّة، يتجلّى من خلال نماء الحدث في تدرّج تتفاعل فيه عوامل السرد والوصف والإيحاء، ويفضي إلى تشكّل بنية فنّيّة متماسكة العناصر، يمشي بعضها في ركاب بعض؛ بغية اكتمال الدّلالة، في تنوّع تجلّياتها.
النّموذج الثّاني:” لو كان حرفي خيط، لإرسمْ أنا … شي حاشية منديل… رندِحْلَكِ مواويلْ، وطرّز يا إمّي، تَ يذوب الخيطْ…إمسحْ عنِ الخدّين دمعاتِكْ، واكْتُبْلِك لْ بالقلبْ… ويحوّطوا الحكيات شعراتِكْ… لوْ كان دمعي زهرْ، يسرّب مع النّسماتْ، ينثرْ على دراجِكْ عطرْ، يعلَقْ على ثيابك. لو كان عمري نورْ، لَ ولّعوا شمعه، تضوّي على عتابكْ. لوْ كنت شي مرسالْ لَ إزحف على دروب الدّني، وإستسمْحِكْ عَ غيبتي، يا ساكني بالبالْ، وتمسحي همّ العمر، بعطف نظراتك… يا ريتني… لو كنت.
هذا النّصّ يشترك مع سابقه بالسّمات الفنّيّة الإبداعيّة عينها، ويتميّز منه بتفرّد حضور دهشة ولّدها اجتماع العفويّة والصّنعة؛ فالعفويّة تبدّت من خلال هذا الفيض التَّلْقائيّ السَّردي، القائم على”لو” وانسياباتها؛ أمّا الصّنعة، فقد تجسّدت في دقّة الحبك، وموهبة تطريز الصّوَر، والسّعي بالحدث الشّعريّ إلى أفق احتماليّ، صرّح عنه قول الشّاعرة: يا ريتني… لو كنت!
النّموذج الثّالث: يا عمر ياماشي عَ درب بعيدْ، أدّيش ح تمشي لَ تلقى العيدْ، يا عمر كم فصل وفصل بيمرّْ، وياما وياما ذقت طعم المرّْ، من ناسْ يا ما لحّنوا مواويلْ، شي حبّ، شي تجريح… وشلّعتنا الرّيحْ، ومتلْ طاحون الهوا ياعمرْ، طحنت الوفا وعيّشتني بالقهر. شفتَكْ حقيقة وكانْ قلبي طفلْ، مشيت وهبوب الهوا شمالي، متل ظلّكْ صرت وتمنّيتْ، نور الشمس يغمر حجار البيتْ، غلّ بِ قلبَك أنا وإغفى، ويمرق علينا ألف يوم ويوم، صوتي يترغل بالعتم، يجنّ بيت الشِّعرْ، ونسكنْ قصيدة ما كتب متلا حدا، وشوفك حياتي وشوفَكِ لْ صوتي الصّدى…
وصرت مزروعة عَ باب الإنتظارْ، فتّش عليّي بكل دمعة عيْنْ فتّش ما أعرفني، ضيعت حالي وينْ، ومن يومها شلحِت الناس عيونها، لبسوا وجوهنء بالْقلْب، وصارت حقيقة هالدّني متل الضّبابْ، وصار الأمل لونُه سرابْ .حاولت خمّنْ ليش بحساب الجمع: واحد وواحد ممكن يكونو ا صفرْ وليش ساكنّا القهرْ…
يا ريت لا قيني بحِلم ضايع، وتكون عم تفتح بواب الوقت، ومع شقشقة نور الفجر يغفى الحِلْمْ، تضوّي سراج الشّمس، تهمس بإذني همسْ، يفرفِك عيونو الصّبح، نشرب سوا قهوة بِطعم الهالْ ، ونمشي عَ درب بكعب فنجانالأمل، ونصرخ سوا: كْتبنا كتاب الرّيح بِ شهر العسلْ، ومن كلمة يا ريتْ، إنت وأنا قدرنا نعمّر…بيت!
يشتمل هذا النّص على السّمات الفنّيّة التي اتّصف بها النّصّان السّابقان؛ ويتميّز منهما، بأنّه يتشكّل من مجموعة من البنى، تتضافر فيما بينها؛ لتشكّل بنيانًا متراصّ العناصر، في خطّ بيانيّ يخدم الدّلالة العامّة.
يبدأ النّصّ بالنّداء، بحرف النّداء “يا” المخصّص للبعيد، فيتناغم مع الدّرب البعيد الذي يمشي عليه هذا العمر؛ ثمّ يعقبه استفهام، خرجَ على غائيّة الاستفهام الأصليّة؛ فهو لا يطلب جوابًا، بل يطرح تأكيدًا للغاية المنشودة، وهي العيد.
ثمّ نمشي الهوينا، في فضاء هذا النّصّ؛ فإذا بنا أمام مشهديّات متتالية، تشتبك فيها الهموم العامّة بالهموم الفرديّة التي تشير في وجعها إلى الهموم العامّة…
وفي سياق مطّرد، يسير بنا هذا النّصّ، نحو وجعٍ عميق، لكنّه مضيء وأخضر، يستلّ من اللّيل ذبالةً لقنديل الفجر، ومن الدّموع زيتًا لهذا القنديل.
تهانيّ للصّديقة الشّاعرة المبدعة رندة رفعت شرارة… ونحو إبداعات دائمة