في حوار مع القاصّة والروائيّة التونسيّة نورة عبيد
مرايا التراب: في تفاصيل الحياة تدلّت عناقيد اﻷقاصيص حين نضجت وحان قطافها
من الروائيات التونسيات اللواتي تميزن في المشهد الأدبي والثقافي بتونس الخضراء نظرا لأعمالها الأدبية المتميزة والتي تحمل بعدا عرفانيا وفلسفيا بين طيات لغتها الساحرة القابعة على جنبات روح المكان والزمان. درست المرحلة الجامعيّة بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالعاصمة تونس (9افريل) اختصاص لغة عربيّة. وأنجزت اوّل بحث (بحث التخرج) عن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان: صورة العاشق في رسائل غسان كنفاني لغادة السمان؛ ما تبقّى من عشب الأسطورة. تدرّس اللّغة والآداب العربية في الإعداديات والمعاهد. كما شاركت في عديد الملتقيات الأدبيّة والثقافية الوطنيّة والدوليّة. لها مقالات عدة في الصحف الوطنيّة والعربيّة. الورقيّة والالكترونيّة
من أبرز مؤلّفاتها؛ بوابات على ديدان النّسيان 1999(مجموعة شعريّة) نوبات 2019 (رواية تشاركيّة مع معاوية الفرجاني.) وكتاب مرايا التراب قصص التفاصيل المنسية والفائزة بجائزة الطاهر الحداد لأدب المرأة في دورتها الأولى 2018.
في هذا الحوار ستتحدث لنا القاصة والروائية والشاعرة التونسية بنت تونس الخضراء نورة عبيد عن بعض أبرز لمحات كتابها مرايا التراب قصص التفاصيل المنسية كما ستتحدث لنا عن تقييمها للواقع الثقافي والأدبيّ في تونس ما بعد الثورة؟ ومستقبل الأدب المغاربي في ظلّ تحديات سياسيّة تعرفها المنطقة المغاربية وغيرها من المحاور
حاورها عبد الحي كريط
> عند قراءتي لبعض مقتطفات كتابك مرايا التراب تملّكني إحساس غريب من خلال أسلوبك المجازي والترميزي الساحر، والذي يشبه نوعا ما لغة العرفان. وكأنّها طلاسم لغويّة معقّدة. ما مدى صحّة هذا التوصيف؟
< القراءة قراءات. وفي كلّ قراءة مشروع له منطلقات ومسوّغات. وهذا توصيف لبعض المقتطفات التي لقّبتها “بالمجاز الترميزيّ الساحر”. والسّحر يدرك بالحال. عرفانيّة وجدان في لحظة مكاشفة إبداعيّة لا تطمس السرد وبنيته ومشروعه. لا أنكر ذلك لأنّ المرايا مشروع سرديّ امتدّ على عشرين سنة من زمن الكتابة للأسلوب واللغة سلطة؛ سلطة أساسيّة تضمن التواصل والإبلاغ. وسلطة جماليّة تحقّق إنشائيّة الاقصوصة وأدبيّتها إذ استوفت طاقة التعبير وحقّقت التأثير. ولعلّ أبلغ تأثير ما كان كالسّحر يحقّق دهشة أصيلة تستدعي فكّ شفراتها. سحر يصيب الحواس حتّى إذا استفاق المسحورون بحثوا عن البرهان وجدّوا مسترشدين بدقائق الحكاية وحبكتها …
> هل مرايا التراب هي انعكاس لتجربة زمكانيّة عشتها في الماضي والحاضر؟
< مرايا التراب ليست انعكاسا لتجربة زمكانيّة في الماضي والحاضر. بل هي تجربة إبداعيّة زمكانيّة في الماضي والحاضر والغد بالضرورة. “فالقصّة هي الحياة” كما قيل. فمنها ما سمعته في المهد ومنها ما رافقني ومنها ما شاهدته وقرأته. القصّة رفيق من المهد إلى اللّحد. والمرايا قصص استكانت وأذعنت للقصّ عرضا ونموّا وصراعا. كبرت القصص فانعكست في المرايا. أ ليست الحياة مرايا؟
> هل مرايا التراب هي تجسيد لقدسيّة الطين واستنطاق لجوهرها خلال التفاصيل المنسيّة؟
< نعم أنا ممّن يؤمن أنّ الإنسان خلق من طين وعائد للطين. أنجبتنا قصص وستحيينا قصص. فجوهر الطين تشكيل ونحت وتزيين. ترتيب للجوهر بتمكين. خلق للتفاصيل تلك التفاصيل التي تهب القصّة فرادتها وهويّتها ودليلها على الوجود. فالتفاصيل دليل وجود بأساليبها ومضامينها. شاهدة على الخلق ليطمئن قلب الخالق ويلين. مرايا التراب قدسيّة الخلق من الطين كقوله تعالى لإبراهيم:” فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثمّ ادعهنّ يأتيك سعيا “…التفاصيل طيران الريش للريش، والدّم للدّم، واللحم للحم… بلاغة الرؤية التي سأل إبراهيم. تجعل كلّ طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم. -عليه السلام-
> بين متاهة الضحك كمقدمة وبنت الرئيس كخاتمة، اكتمل عقد أقاصيص مرايا التراب. كيف استطعت التوفيق بين عناقيد هذه الأقصوصات في غياب زمن كرونولوجي يراعي زمن الكتابة؟
< بين متاهة الضحك وبنت الرئيس الكاتبة. في قلبها الذكيّ المندسّ في تفاصيل الحياة تدلّت عناقيد الاقاصيص حين نضجت وحان قطافها. فالمراعاة الحقيقيّة لنسيج الكتابة؛ الكتابة وإعادة الكتابة. فأنا ممّن لا يتعجّل النشر لأنّ الإقامة في النصّ الإبداعيّ إقامة في أساليب القصّ. ففي المرايا صدى الاقاصيص طيلة عشرين سنة من زمن كتابتها. كيف بات أسلوب القصّ أساليب تروي تنوّعها وتعدّدها. تكشف أن الاقاصيص كتاب قصصيّ أكثر منها مجموعة قصصيّة. كتاب قصصيّ اشتغلت فيه على العتبات بالترتيب وتفريع العناوين بما يلائم التفاصيل المرويّة. فالقصّة بطلة تذعن كاتبها للإنصات. وإذ أنصت استطاع بناء موقف ورأي. كلّ الأقاصيص مواقف من فكرة وكتاب ووجود.
> لاحظت بأنّ نصوص مرايا التراب وعنوانه كأنّهما وحدة واحدة ينتميان إلى المذهب الفلسفي الوجود. وكأنّ مرايا التراب هي روح لابن عربي وابن الفارض وهيغل وسبينوزا. ما مدى صحّة هذا التوصيف؟
< بهذا التوصيف تؤكّد متانة الوحدة الدلاليّة للعتبات باعتبارها مداخل الأقاصيص ومركز التأويل والفهم والتّحليل. ويسعدني أن تنفذ إلى الجوهر الفلسفي الذي يسكن هذه المرايا وهذه التفاصيل. فليست الأقاصيص مجرّد حكي مخاتل يوهم بالموجود. فغاية الأقاصيص زرع الوجود في كلّ حين. استعادته وخلقه ومساءلته. قتله وإحياؤه. استعادته كموسيقى الأذهان، إيقاع أعلى من النسيان. سرد الأحوال يقارع سرد الأفعال.
> ما هي المحدّدات الرئيسيّة التي انطلقت منها في البناء السردي لمرايا التراب؟ وما هي المدرسة السرديّة التي تأثّرت بها؟
< مرايا التراب؛ قصص التفاصيل المنسيّة؛ محصّلة مدارس. شاهدة الأقاصيص على ذلك بتنوّع أساليبها. وفي الحقيقة النصوص السرديّة والإبداع عموما أغنى وأكبر من المدارس السرديّة باعتبارها مناهج وقوالب نظريّة لا تخلو من انتقائيّة لا تبالي أحيانا بمصادر الخطاب القصصي المتجذّر في المخيال والخيال الجماعي. ومنتهى التمكّن في القصّ نقل القارئ إلى أجواء الأحداث. يعيش التخييل واقعا. فيتتبّع الزمن القصصيّ بتتبّع الحكاية كما جرت في الواقع. ولذلك تجد في المرايا التّصوّر الجماليّ لتنظيم الأحداث والشخصيّة القصصيّة. فمحدّدي الرئيسيّ تحويل الكائنات اللغويّة إلى كائنات آدميّة.
> الشخصيات القصصيّة وأزمنة مرايا التراب هي تجسيد لواقع ماضوي؟ هل تفضلتم لنا بشرح هذه النقطة؟
< وهل يكون التّجسيد واقعيّا دون أن يكون له امتداد في الماضي؟ هل الماضي مفصول فعلا عن الحاضر والمستقبل؟ أليس الزمن وحدة محكومة بالنظر فيما كان فعلا؟ أليس الأدب أصدق في الكشف عن الأخبار التي استبعدها التاريخ المكتوب؟ فالأدب عموما تاريخ آخر وسرديّة أخرى أبقى وأصدق. تصل الأحداث المنسيّة بالأحداث المعلومة، تصوير وتبئير، إفهام وتأثير، فتجسيد الواقع الماضوي مرصد السارد لقراءة الحاضر ومركز إبصار به تدقيق وإدراك لا يخلو من انفعال.
> ما هو تصوّرك للواقع الثقافي والأدبيّ في تونس الخضراء ما بعد الثورة؟ وما هو مستقبل الأدب المغاربي في ظلّ تحديات سياسيّة تعرفها المنطقة المغاربيّة؟
< أنا لا أدّعي الإلمام بكلّ ما يصدر من إبداع أدبيّ ونقديّ مغاربيّا. إلاّ أنّ الثابت أنّ الأدب التونسيّ والمغاربي يشهد تطوّرا نوعيّا. إذ يطرح قضايا جوهريّة في ابتداع فنّي على غير منوال. فتمكّن الأدب التونسيّ والمغاربيّ أن يحصد جوائز عربيّة وعالميّة في القصّة والرواية والشعر واليوميّات والترجمة. فالمبدع المغاربيّ كما المبدع المشرقي يستشرف غدا أفضل على ما في الواقع من صدمات وكدمات أصابت المبدع والمواطن العربيّ في الصميم. لعلّ موجات التطبيع التي خرجت من الضمور إلى السّفور، ضاعفت التّشظّي الذي أصاب الجسد المغاربيّ كالحرب في ليبيا، والبحث عن الاستقرار السياسيّ في تونس والجزائر والتطبيع في المغرب، والتراجع الاقتصادي وتفاقم عدد العاطلين عن العمل بسبب وباء كورونا الذي عمّق الهوّة بين الدول والأمم والأفراد.
> كيف يمكن توظيف الثقافة كضمان للسلم الاجتماعي بالمنطقة خاصّة بعد الأحداث والتحوّلات السياسيّة الكبرى التي عرفتها خلال العقد الأخير؟
< تبقى الثقافة هامشيّة عاجزة على تحقيق السلم الاجتماعيّ. ما دامت الحكومات تفتقد إلى سياسة ثقافيّة وتخطيط لرؤية مستقبليّة ومشروع ثقافيّ يعاضد المشروع التربويّ، فميزانيّة وزارة الثقافة لا تكاد تكون ميزانيّة مؤسسة ثقافيّة في الدول التي تحتكم إلى مشاريع ثقافيّة. وعلى ذلك لا يمكن أن أتغافل عن المجهود الذي يبذله المجتمع المدنيّ في الدعوة إلى التحابب والتسامح والتجاوز. نحتاج في المجتمعات عموما إلى التضامن. فالتضامن هو الضامن لوحدة الأفراد والمجتمعات. ولذلك نحتاج إلى ثقافة تشاركيّة تثمّن وتدرّب على التعايش مع الاختلافات الدينيّة والحزبيّة والفنيّة أيضا.
> هل يمكن أن تكشفي لنا عن بعض الصعوبات التي تواجه المثقف التونسيّ في ظلّ البيروقراطيّة التي تنخر المؤسسات الثقافيّة في البلاد سواء في البنية التنظيميّة والهيكليّة؟
< كانت ولا زالت البيروقراطية موطن الدّاء الذي يشلّ الحركة الثقافيّة وحركة التنميّة عموما. والمجتمعات التي لم تلتحق بالرقمنة من حيث الهيكلة والتنظيم مجتمعات غارقة في الصعوبات تجاوزها الرّاهن وانفلت منها الحاضر. فلم يعد التّحديث التكنولوجيّ خيارا بل بات ضرورة تيسّر الأعمال وتفتح الآفاق. ولذلك وقع المثقّف التونسيّ الجادّ في هوّة القنوط واليأس، ولولا سعيه “الفرديّ” والمغامرة لما حقّق لنفسه ما حقّق. فليس أقسى على المبدع من مواجهة الفراغ والتسويف. وليس أقسى على المبدع من أن تكون الحاجة لإبداعه مناسبتيّة؛ مرتبطة بمعرض كتاب أو ليالي رمضان أو مهرجانات. نحتاج أن يكون العمل الثقافي عقيدة دولة ومشروع حكومة تعد بالأحلام وليس الأوهام. تدرّب على الحياة لا الضّجر من الحياة. تلك الهوّة يقابلها المثقف التونسيّ بالواجب؛ واجب الأمل.
> كلمة أخيرة
< أشكرك على هذه الاستضافة. ولعلّ في المرايا مرايا. فقد قال جورج برناردشو “أنت تنظر إلى المرآة لترى وجهك، وتستخدم الأعمال الفنيّة لترى روحك”.
*المصدر / المدائن بوست