أدب وفن

قراءات حضاريَّة معاصرة في أحداث من التاريخ النَّبويِّ الإسلامي (1)

ممارسة حق اللجوء السياسي في الهجرة إلى «الحَبَشَة»

الدكتور وجيه فانوس

كانت «قُرَيْش» تعيش، قُبَيْلَ دعوةِ نبيِّ اللهِ محمَّد صلى الله عليه وسلم النَّاس إلى الإسلامِ، عِزَّاً ومِنعةً كبيرين. فـ«مَكَّة»، التي تتزعمها، كانت تنعم بكونها المركز التجاري الأهم بين القوتين العظميين زمنذاك؛ دولة الروم ودولة الفرس. أما في بلاد «الحَبَشَة» فقد كانت، وقتئذ، واحدة من الممالك التي تحيط بأحد أطراف الجزيرة العربية؛ وهي مملكة قديمة تمركزت في ما يعرف اليوم بـ«إثيوبيا الشمالية»، وتحديداً في إقليم «تكرينيا»، الذي تقع فيه، في زماننا الحاضر، «إريتريا». وقد بدأ «حُكْمُ الأكسوميين» حوالي سنة 80 قبل الميلاد، واستمرَّ إلى سنة 825 للميلاد؛ وكانت مدينة «أَكْسُوم» عاصمة هذه المملكة. وكان أن أصبحت «مملكةُ الأكسوميين»، هذه، عنصراً رئيسًاً فيما يتعلق بطرق التِّجارَة التي تَصِلُ «الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة» بـ«الهِند»؛ ولعلَّ في هذا الأمر، ما سهَّل تأمين علاقات تفاعل إيجابيٍّ بين «أكسوم» وبعض الممالِكِ العربيَّةِ، التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية. ويقال إنَّ «ماني»، مؤسِّس الدِّيانة المانوية، المتوفَّى سنة 274 للميلاد، إحدى القوى العظمى الأربع في عصره؛ أما القوى الأخرى، فكانت، عنده، «بلاد فارس» و«بلاد الرُّومان» و«بلاد الصِّين». وكانت على علاقات مع «مَكَّة» وأهلها؛ كما كانت بالتالي، مصدرا من مصادر النشاط التجاري الذي تمارسه «قُرَيْش» من «مَكَّة».

كان لبلاد «الحَبَشَة»، عبر «مملكة الأكسوميين»، مصالحها التجارية والاقتصادية، وطبعا السِّياسِية والشَّخصيَّة مع «مَكَّة»، وتحديدا مع كثيرين من زعمائها ووجهائها وأهل القرار والمال فيها من قبيلة «قُرَيْش». أمّا المسلمون الأُوَل فقد شكّلوا الجانب الأضعف في هذا المثلث. فهم، أولا، خارجون عن طاعة «قُرَيْش»، أي عن طاعة مركز مهمٍّ من مراكز التِّجارَة المثلثة. وهم، ثانيا، الأقل عددا بين الفريقين. وهم، ثالثا، أصحاب دين يناهضه القرشيون ولا يعرفه الحبشيون حق المعرفة.
وافق المسلمون الأوائل على اقتراح الهجرة إلى «الحَبَشَة»؛ وأعدوا أنفسهم لمغادرة «مَكَّة». وكان أن عيّن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جعفراً بن أبي طالب (رضي الله عنه) قائدا لهم، وحمّلهم كتابا منه إلى النَّجاشِيّ ملك «الحَبَشَة» يشرح فيه أوضاعهم. بلغ عدد هؤلاء المهاجرين 112 شخصاً، ثلاثة وثمانون رجلا وتسع وعشرون امرأة؛ وقد وصلوا جميعا سالمين إلى «الحَبَشَة»، وأقاموا فيها آمنين مطمئنين.
علمت «قُرَيْش» بما حصل؛ فأعدَّت بعثة قوامها اثنين من أقدر رجالها على المفاوضة والمساومة، هما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل. توجّه هذان إلى «الحَبَشَة»، بعد أن حملا معهما هدايا كثيرة، ومعظمها من الجلود التي كانا يعرفان أنها تثير إعجاب ملك «الحَبَشَة» ومن يعاونه في حكمه من البطارقة. واتبعا في سلوكهما في قصر الملك أسلوبا مميّزا جدا اقترحه عليهما دهاقين «قُرَيْش» في «مَكَّة». لقد عمدا فور وصولهما إلى «الحَبَشَة»، إلى تقديم الهدايا إلى بطارقة الملك؛ ثم أبلغا كل واحد من هؤلاء بمفرده أنهما يريدان استعادة جماعة من الغلمان السفهاء الذين تركوا دين أهلهم في «مَكَّة»، ولم يدخلوا في دين ملك «الحَبَشَة»، بل أقاموا فيها على دين خاص بهم، وهو دين لا يقرّه أهلهم ولا تعرفه «الحَبَشَة»؛ وأنهما لا يقومان بهذه المهمة إلاّ إنفاذا لطلب أشراف «قُرَيْش». فوافق كل بطريق من هؤلاء، بمفرده، على الطلب. وهنا تمنى عضوا البعثة على البطارقة أن يقترحوا على ملكهم إجابة طلب «قُرَيْش» من غير أن يستمع للمهاجرين المسلمين رأيا في هذا الأمر. وهكذا تهيّأ عضوا البعثة لمقابلة ملك «الحَبَشَة» وقد أحاطت به بطانته من البطارقة.

قدَّم عضوا البعثة القُرشيَّةِ الهدايا القيّمة للملك الحَبَشي، في يوم لقائهما الأوَّل معه؛ وعرضا طلبهما، كما كانا قد عرضا الطَّلبَ عينه، من قبل، أمام البطارقة؛ وألحَّا على الملك أن يسلِّمهما مَن في مملكته من المهاجرين المسلمين. وهنا تبنّى البطارقة طلب عضوي البعثة، واقترحا أن يتم التسليم فورا؛ الأمر الذي يتجاوزُ، بحدِّ ذاتِهِ، موضوع سماع رأي المهاجرين. بَيْدَ أنَّ الملك رفض هذا الاقتراح، وأصر على سماع رأي المهاجرين. وهنا أُحضِرَ المهاجرون إلى قاعة الاجتماع، حيث سألهم النَّجاشِيّ عن قولهم فيما نسب إليهم من دينهم. وكان المتحدِّث باسمهم رئيسهم جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الذي عيّنه عليهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قبل سفرهم من «مَكَّة». وكان حوار بين جعفر (رضي الله عنه) والنَّجاشِيّ؛ أوضع فيه المهاجرون المسلمون طبيعة دينهم وما فيه من مزايا تتفوق في نوعيتها على ما كانت «قُرَيْش» عليه في حياتها؛ وانفض الاجتماع على هذا الحد.
يبدو أنَّ عضوي البعثة القُرشيَّة أحسَّا وكأنَّ ملك «الحَبَشَة» مال إلى ما سمعه من المهاجرين، وأن حكمه قد لا يكون لصالح ما يطلبه كلاهما منه باسم «قُرَيْش». وهنا تفتّق لعضو البعثة، عمرو بن العاص، أمر رأى أنه يستطيع أن يقلب به الموازين وأن يكيد للمهاجرين ويضم النَّجاشِيّ إلى صفه. فرأى أن يبلغ إلى النَّجاشِيّ، وهو الملك النصراني، أن هؤلاء المهاجرين المسلمين، لا ينظرون إلى نَبِيِّ النَّصارى عيسى بن مريم نظرة القداسة عينها، التي ينظر إليه بها المسيحيون. وكان هؤلاء يعظّمون نَبِيَّ الله عيسى على أساس معتقدهم بالآب والإبن والرُّوح القدس.

توجَّه عمرو بن العاص، لمَّا حلَّ يوم الغد، إلى النَّجاشِيّ في قاعة حكمه؛ وقال له إنَّ هؤلاء النَّاس الذين هاجروا إلى مملكته على دين الإسلام، يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، وتمنى على الملك أن يسألهم عن قولهم هذا. ولا شك في أن الملك قد استثير بهذا الكلام، فأرسل بطلب الجماعة المسلمة. ويبدو أن المهاجرين علموا بما دبر لهم، فأْتَمَروا فيما بينهم يتشاورون. وكان اتفاق المسلمين أن يكونوا صادقين مع أنفسهم وأن يقولوا في عيسى بن مريم ما يقوله فيه دينهم وما علّمهم إياه نبيهم.
كانت، من دون أيِّ شَكِّ، لحظات قلقة؛ إذ وقف النَّجاشِيّ، ملك «الحَبَشَة»، بين فريقين، يميل إلى أحدهما، ولكنه يضمر في نفسه تشكيكا أو استفهاما كبيرا حول معتقدات هذا الفريق، التي قد تتضارب ومعتقداته النصرانية. ووقف عضوا البعثة القرشية يترقبان نتائج السهم الأخير في جعبتهما، لتحقيق مصداقية «قُرَيْش» أمام ملك عظيم تربطها به مصالح كثيرة، ولتحطيم مجموعة مهمة وأساس من مجموعات المسلمين الأول. ووقفت جماعة المهاجرين تترقب إما نهاية لها، وضربة كبيرة توجّه إلى الدعوة الإسلامية على يد النَّجاشِيّ والبعثة القرشية؛ أو انتصارا مبنيا على الصدق مع الذات وعلى حسن تفهّم النَّجاشِيّ.
(إلى اللقاء مع الحلقة الثانية «آداب اللُّجوء السِّياسي في الهجرةُ إلى «الحَبَشَة»)
————-
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى